الروائي النرويجي يوستن جاردر في حوار خاص .. «2-2»

لو كنت أعلم أن«عالم صوفي» ستترجم لخمس وخمسين لغة لكتبت عن الفلسفة العربية الإسلامية والهندية والبوذية

الوقت – محمد المبارك – علي الديري:
زار جاردر البحرين ليومين برفقة زوجته وناشرة أعماله السيدة منى هنينج، صاحبة دار المنى في السويد، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، حيث ألقى أول من أمس محاضرة بعنوان ‘’احرص على تغذية خيالك’’. ولد الكاتب النرويجي (جاردر) في الثامن من شهر أغسطس/ آب العام .1952 ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر وهو يمارس الأدب والتعليم معاً. اشتهر بكتابته للأطفال بمنظور القصة داخل القصة. روايته ‘’سر الصبر’’ هي التي جعلته معروفاً لدى الجمهور النرويجي. وحصل من ورائها على جائزة النقد الكبرى. لكن كتاب ‘’عالم صوفي’’ هو الذي أخرجه للعالمية، حيث ترجم إلى أكثر من ثلاثة وخمسين لغة، وبيع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وفي ألمانيا وحدها تعدت مبيعاتها المليون نسخة.
وتم تحويل الرواية لفيلم سينمائي، وأيضا تم تحويلها للعبة فيديو، وحاليا يتم تقديم جائزة سنوية للأعمال المختصة بتطوير ودعم البيئة باسم (جائزة صوفي) مقدمة من غاردر وزوجته.
لقد عبر جاردر في بداية حوارنا معه عن سعادته بالتعرف إلى البحرين، لافتاً إلى أنه وجدها ‘’مكاناً متعدداً وكوزموبوليتاني’’، وأبدى إعجابه ببيت القرآن الذي زاره وقد بهره فن الخط العربي والمخطوطات القرآنية.
الوقت: تتصدر روايتك الشهيرة عالم صوفي، عبارة غوته التي تقول’’الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة’’. لقد كانت روايتك رواية لهذه الدروس، لكن لماذا أسقطت منها الألف سنة التي كان فيها العرب والمسلمون يتولون إقامة هذه الدروس؟ لماذا أسقطت المرحلة العربية والإسلامية من تاريخ الفلسفة؟ هل يمكن أن نقرأ هذا النسيان بالرجوع إلى طبيعة المركزية الغربية التي تجد في الغرب مركز العقل والعالم والأنوار، وما عداه ظلام وجهل؟
غاردر: هذا سؤال مهم جداً. إن رواية ‘’عالم صوفي’’ تدور حول الفلسفة الغربية وقد كتبتها أصلاً من أجل الجمهور النرويجي فقط. لأنني لو كنت أعلم أنها ستترجم لخمس وخمسين لغة مختلفة لكنت كتبت أيضاً ليس عن الفلسفة العربية الإسلامية فقط بل عن الفلسفات العظيمة الأخرى مثل الفلسفة الهندية والفلسفة البوذية. ولكتبت كيف أن الفلسفة الإغريقية/الرومانية تفرعت في العصور الوسطى، بعد بعثة النبي محمد، إلى ثلاثة فروع كما يتفرع نهر. وهذه الفروع الثلاثة هي: الأول هو الترث العربي الإسلامي والثاني هو التراث البزنطي الأورثذوكسي والثالث هوالتراث الروماني.
وقد اندمجت هذه الفروع الثلاثة مرة أخرى في تراث عصر النهضة. فأرسطو مثلاً لم يكن معروفاً جداً في أوروبا في العصور الوسطى، والذين تكفلوا بحفظ فلسفته وتطويرها هم المسلمون، وقد طور المسلمون ليس الفلسفة فقط بل العلوم أيضاً. والعلوم الحديثة ترجع بأساسها للعلوم العربية مثل الكيمياء والفلك والحساب. فلهذا عندما بدأ عصر النهضة، استفاد فلاسفة أوروبا من مؤلفات ابن رشد وغيره من المسلمين في الاطلاع على فلسفة أرسطو.
لكن تراث أفلاطون تكفلت بحفظه الكنيسة البزنطية الأورثذوكسية. كما كتبت أيضاً في ‘’عالم صوفي’’ عن دور إسبانيا الثقافي المؤسس أصلاً على التراث الإسلامي، وكان هذا بمثابة الجسر الذي عبرت به الفلسفة الإغريقية/الرومانية إلى عصر النهضة.
إضافة لذلك، لو دار بخلدي وقت كتابة ‘’عالم صوفي’’ أنني أكتبها للعالم وليس للنرويج لكنت أضفت فيها فصلاً عن الحدث المفصلي الذي حدث في الجزير العربية العام 622 م عندما هاجر النبي محمد إلى المدينة المنورة. وفي الواقع أنني كتبت كتابا عن الإسلام أسميته ‘’الله أكبر’’.
 الوقت: هل ترجم هذا الكتاب؟
غاردر: لا لم يترجم. كما أني كتبت بشكل علمي أيضاً عن الثقافة الإسلامية والفلسفة الهندية في كتاب للمدارس الثانوية. وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإيطالية، والإسبانية، والبرتغالية البرازيلية.
إنني ومنذ عشرين عاماً أعتبر نفسي كاتباً روائياً، وقد عملت على الكتب التي ذكرتها قبل أن أتفرغ لكتابة الرواية فقط. لهذا أستطيع أن أقول إنني لست جاهلاً ولا متجاهلاً للإسلام، وأنني أعرف الكثير عنه رغم أنني لست مسلما.
إذاً لم يكن هناك سبب لـ’’نسيان’’ الفلسفة الإسلامية في ‘’عالم صوفي’’ سوى محدودية المشروع نفسه، عندما حددت له أن يكون ذا طبيعة أوروبية وليست عالمية. وقد ذكرت هذه المحدودية في الرواية، ففي الفصل المتعلق بالفيلسوف ‘’هيوم’’ أقارنه ببوذا، وأذكّر القارئ عندها أنه كان هناك تراث كامل في الفلسفة الإسلامية في ذلك الوقت، لكن في ذلك العصر كانت الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية تعيشان من دون اتصال ببعضهما أبداً، ثم بدأ الاتصال بينهما ابتداء من القرن الحادي عشر، وازداد في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. كان العلم في العصور الوسطى متقدماً عند المسلمين أكثر مما هو في أوروبا بكثير.
الوقت: تؤكد في ‘’سر الصبر’’ أن هناك دائماً جوكراً يخترق السر الخفي. إنه ذلك القزم المنبهر بالوجود، والذي عليه أن يكتشف نفسه بنفسه، ويرى من الأشياء ما لم يتح لأحد غيره أن يراه. أي سر خفي يسعى جوستاين غاردر إلى اختراقه، بوصفه جوكراً، عبر رواياته؟
غاردر: نعم، كتبت عن هذا الجوكر. ففي الرواية يذهب صبي إلى المخبز ليشتري كعكاً، فيجد في إحدى الكعكات كتاباً صغيراً جدا (ذكرني بالمناسبة ببعض نسخ القرآن المتناهية الصغر في بيت القرآن) لا يمكن قراءته إلا بمنظار مكبر يعطيه إياه قزم التقاه في محطة بنزين. وكلما أمعن الصبي في قراءة الكتاب يجد أن قصة لعبة ‘’الصبر’’ تحكي حياته هو.
وفي قصة داخلية أخرى داخل الرواية، تتحطم سفينة متجهة من إسبانيا إلى المكسيك ولا ينجو منها إلا بحار واحد يلجأ لجزيرة غير مأهولة. لم يحمل البحار معه من السفينة إلا كومة ورق لعب ‘’الصبر’’ وقد كانت في جيب سترته. يبقى البحار على الجزيرة سنين طويلة يقضي أيامه في اللعب مع نفسه لعبة ‘’الصبر’’. وفي ذلك الوقت في العام 1790 زمن القصة كانت أوراق اللعب تحمل صور شخصيات مثل القزم. يبدأ البحار في تخيل أحاديث يجريها مع شخصيات ورق اللعب. وفي يوم ما ينتبه إلى جماعة من الناس تنزل الجزيرة، لكنهم لم يكونوا سوى شخصيات ورق اللعب، كل الشخصيات كانت تتكلم إلا أنها لم تكن تسأل أسئلة، إلا شخصية الجوكر الذي يصل لاحقاً. إنه اللامنتمي الذي يفكر بشكل مختلف عن الآخرين. إنه الفيلسوف.
هل ترى نفسك تلعب دور الجوكر عبر رواياتك؟
غاردر: لا بد أن أقول هنا انني أعتبر أن بدايتي ككاتب كانت منذ بدأت أطرح الأسئلة في سن الحادية عشرة، عندما اقتنعت أنني جزء من لغز كبير. شعرت يومها أنني لامنتم. شعرت أنني مثل هذا الجوكر الذي نتحدث عنه هنا. لكنني لم أعد أحس بذلك الآن لأنني أشعر أن خبرت الحياة بالطريقة نفسها التي خبرها كثيرون غيري.
؟ تخلص رواية ‘’سر الصبر’’ إلى أننا لسنا سوى أقزام تعيش في الهواء الطلق. أقزام لا تجيد التفكير بقدر ما تجيد التخدير، وأن البشرية برمتها ليست سوى لعبة صبر عملاقة، كيف نفهم البشرية بما هي لعبة صبر؟ وكيف نفهم البشر بما هم أقزام؟
عندما كنت مراهقاً شعرت بالاغتراب، لأنني كنت أرى أنني الوحيد الذي كنت أفكر بالطريقة التي كنت أفكر بها. أحياناً أعتقد أن هناك جوكراً صغيراً داخل كل منا. كلنا يولد جوكراً ولكننا نكبر فنتحول إلى شخصيات اللعب الأخرى التي لا تحسن طرح الأسئلة، لا ينجو من ذلك المصير إلا أولئك الذين يبقون على الطفل الجوكر بداخلهم.أنا منبهر بالوجود وأعتقد أننا لن نقدر أبداً على حل لغزه، لذلك فالمجال مفتوح لمختلف الاعتقادات.
الوقت: يقول المتصوف الكبير ابن عربي في القرن السادس الهجري، رأينا الماء يقبل صورة لون الأوعية وما يتجلى فيها من المتلونات فيتصف بالزرقة والبياض والحمرة حتى قيل لون الماء لون إنائه ثم استقرأنا العالم فنظرنا في الأمور فرأيناها كلما لطفت قبلت الصور الكثيرة فنظرنا في الأرواح فوجدناها أقبل للتشكل في الصور من سائر ما ذكرناه، ثم نظرنا في الخيال فوجدناه يقبل ما له صورة ويصوّر ما ليست له صورة فكان أوسع من الأرواح في التنوّع في الصور ثم جئنا إلى الغيب في التجليات فوجدنا الأمر أوسع مما ذكرناه. ويصل من ذلك إلى القول ‘’تنوعت الصور الحسية، فتنوعت اللطائف، فتنوعت المآخذ، فتنوعت المعارف، فتنوعت التجليات. فوقع التحول والتبدل في الصور في عيون البشر’’
إلى أي حد تلتقي محاضرتك عن الخيال، مع ما يقوله ابن عربي، من حيث هو سر تنوع المعارف والتجليات والمعاني والصور والبشر؟
غاردر: للأسف لا أعرف ابن عربي لكني قرأت كثيراً عن التصوف الإسلامي. سأتكلم في محاضرتي بالتأكيد عن الخيال وكيف يوصلنا لمعرفة تعدد الخلق. كما سأغطي جوانب الخيال التي تجعلنا نرى كم هو متعدد ورائع، هو الكون، سأتكلم أيضاً عن القصص الخيالية وقصص الأطفال وكيف أنها تعطينا خبرة أقوى عن محيطنا وثقافتنا. وسأتكلم عن أهمية التراث الشفاهي وكيف أنه مازال ينحدر في عصرنا هذا. لهذا أعتقد بأهمية تسجيله لكي نحافظ على نقله للأجيال المتعاقبة.
أحب أن أضيف شيئاً يتعلق برواية ‘’عالم صوفي’’ عن الأنوثة. فأنا أسأل كثيراً عن سبب كون بطلة الرواية ‘’صوفي’’ أنثى؟ وأجيب أحياناً: ولماذا لا؟ وفي أحيان أخرى أقول: ليس لدينا في النرويج إلا نوعان: ذكر أو أنثى. ولكن في الواقع كان لا بد لصوفي أن تكون فتاة، لأن ‘’صوفي’’ تعني في نطق كلمة ‘’الفلسفة’’ باللاتينية (فيلوسوفي) وهي تأتي في سياق مؤنث. وحتى كلمة ‘’حكمة’’ بالعربية هي كلمة مؤنثة على حد علمي. وبالطبع فإن إلهة الحكمة في المثيولوجيا الإغريقية مؤنثة.
فلماذا اكتسبت الحكمة صفة الأنوثة؟ لا أعرف بالضبط ولكن لدي نظرية بهذا الشأن. فأنا أعتقد أن محاولة فهم الأشياء هو أمر مهم بالنسبة للنساء – وهو ما تدور عليه الفلسفة – أما بالنسبة للرجال فالأهم لديهم أن يفهمهم الآخرون. تعرف مثلاً تلك القصة من أيام سقراط، ذهب بعض سكان أثينا للعرافة في معبد دلفي وسألوها أن تخبرهم عن أحكم الناس في أثينا. قالت لهم العرافة إنه سقراط، ولكن سقراط نفسه قابلهم متعجبا من قول العرافة قائلاً إنه لا يعرف شيئاً، وأن ذلك – عدم المعرفة – هو الشيء الوحيد الذي يفهمه جيداً. ولكن في الوقت نفسه كان هناك أناس يعتقدون أنهم يعرفون الكثير من الأشياء، وقد سموا فلاسفة، لأنهم كانوا يسعون إلى أن يفهم الناس أفكارهم. لكن سقراط كان هو الفيلسوف الحقيقي لأنه كان يحاول أن يفهم، أن يفهم نفسه ويفهمهم ويفهم العالم.
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=94423

10 تعليقات على “الروائي النرويجي يوستن جاردر في حوار خاص .. «2-2»”

اترك تعليقاً