هل مازال يستحق الحلاج القتل؟

‘ ‘الحلاج يستحق القتل، نعم يستحق القتل، لأنه خالف حقيقة دينية” لم تكن تلك وجهة نظر فقهاء الخليفة المقتدر بالله الذي أمر بضرب الحلاج بألف سوط ثم قطع يديه ورجليه ثم صلبه على جسر بغداد سنة 309هـ. بل هي وجهة نظر أيضاً الأستاذة إيمان، المعلمة الأولى للتربية الإسلامية.
لقد باغتني جوابها، في ورشة تدريبية كنت أقدمها عن مفهوم الحقيقة والبحث من وجهة نظر البحث السردي. لقد طرحت 1207393450807115200ثلاثة أسئلة تنشيطية على المشاركين من المعلمين والمعلمات الأوائل. الأسئلة هي: ما الحقيقة؟ وما البحث؟ وما السرد؟
فهمنا للحقيقة والبحث والسرد، يحدد موقفنا من استحقاق القتل، ما الحقيقة التي تبرر القتل؟ وما البحث الذي يقودك إلى القتل؟ وما السرد الذي يؤرخ للقتل؟
الحقيقة التي تبرر القتل هي حقيقة العميان، والبحث الذي يقود إلى القتل هو البحث الذي لا يعتمد طريق العميان، والسرد الذي يؤرخ للقتل هو السرد الذي يرويه العميان عن الحقيقة.
وحكاية العميان الشهيرة التي ينقلها أبوحيان التوحيدي في (المقابسة الرابعة والستون: في أن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطاؤه في كل وجوهه)
”ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل وأخذ كل واحد منهم جارحة منه فجسها بيده ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه ونشره. فكل واحد منهم قد أدّى بعض ما أدرك، وكل ما يكذب صاحبه ويدعي عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل”
وهناك رواية حديثة تقول إن الأول أمسك أرجل الفيل فقال الفيل هو أربعة عمدان على الأرض!.والثاني أمسك الخرطوم وقال: الفيل يشبه الثعبان تماما!. والثالث أمسك الذيل وقال: الفيل يشبه المكنسة! وحين وجدوا أنهم مختلفون بدؤوا في الشجار وتمسك كل منهم برأيه وراحوا يتجادلون ويتهم كل منهم الآخر أنه كاذب ومدعٍ.
هل كانت الحقيقة التي شاجر فيها فقهاء الخليفة المقتدر الحلاج، تختلف عن الحقيقة التي تشاجر فيها العميان؟ إنهم يلتقون في طريقة تصورهم للحقيقة، على الرغم من الفرق بين كثافة الفيل الحسية ولطافة السماء الغيبية.
الحقيقة في تصورهم وتصور الأستاذة إيمان، هي اليقين والإيمان وما لا يمكن الشك فيه، وهي ضد الظن، وهي الحضور المطلق للأشياء، هي الشيء الذي لا يتطرق إليه الوهم والخيال، وهي ما لا يتعدد ويختلف.الحقيقة هي الواقع والصدق، هي ما يوجد خارجنا، هي ما يوضع خارج الذات وحدوده، لذلك يتصورون الحقيقة موضوعية وليست ذاتية. الحقيقة في تصورهم هي ما لا يمكن أن يقال بعده شيء.لذلك حين قال الحلاج شيئاً غير حقيقتهم، استحق القتل.
الحقيقة مضافة دوماً إلى وسيلتها وأداتها، هي منسوبة إلى الأداة التي نستخدمها، لذلك الحقيقة ليست ما نراه وننظر إليه بقدر ما هي ما به نرى أو ما منه ننظر.. الحقيقة هي ليست الأعمدة ولا المكنسة ولا الثعبان، الحقيقة كانت في أيديهم التي بها يلمسون، كانت أداتهم التي بها يرون. وهذه اليد تعادل عند الفقهاء أجهزة فهمهم وعلوم الفتوى لديهم وقواعد الأصول التي بها يستنبطون حقيقة النصوص. الحقيقة في الأداة، ما تكشفه لك الأداة وتريك إياه وكأنك تلمسه وتشمه وتتذوقه وتسمعه هو حقيقة أداتك لا الحقيقة. لذلك تبقى الحقيقة ليست مطلقة، مطلقة من أداة تنسب إليها.
البحث هو طريق أداتك، أي الطريق الذي تشقه وتفتحه أداتك، لذلك لكل بحث منهج مكون من أدوات معينة.كان طريق العميان للوصول إلى الحقيقة هو ما فتحته أيديهم ومواقع تلمسهم، وصلوا إلى جوانب الحقيقة التي شقتها أدواتهم.طرق البحث مخفورة بالضلال والمراوغة والظهور والخفاء والوعورة والسهولة.وتتفاوت الطرق بتفاوت الأنفاس التي تعمل على توسعة الوصول.كانت للفقهاء طرقهم وكان للحلاج طرقه، وكان لكل منهم ومنه موضعه من الحقيقة. تماماً كما كان للعميان مواضعهم من الفيل.وعلى الرغم من الاختلاف والتجهيل الشجار الذي مارسه العميان ضد بعضهم، لكن لم يكن لأي منهم الحق في قتل أعمى لم تريه يده وموضعها ما رأته يد الأعمى الآخر وموضعها.
الحقيقة متشظية ومختلفة ومفصلة وبقدر ما تستطيع أداتك من فتح طرق متشعبة للوصول إليها، تستطيع أن تسردها بقدر أكبر من الاتساع، فالسرد يقوم على حكي التفاصيل لا على تجريدها، لذلك هو الأكثر قدرة على حمل الحقيقة وتمثيلها في تفاصيله الكثيرة.من هنا فإنه بقدر ما يقول بحثك من تفاصيل، يتمكن من سرد الحقيقة بطرق متعددة.كان الحلاج يسرد الحقيقة عبر مشاهداته الكثيرة، كان يرها في كل الكائنات متحدة معها وحالة فيها، وكان الفقهاء يرونها في نصوصهم الظاهرة فقط.والظاهر لا يظهر أكثر من سطح طريق.
الحقيقة لا يملكها طريق، فتفاصيلها لا يستوعبها طريق واحد، لذلك تظل الحقيقة نسب وعلائق يكثر منها الإنسان ليتعلق بالحقيقة لا ليصلها، وهذا ما أدركه الحلاج، فراح يقول ”الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلق بالخليقة، الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق”.
الحلاج سارد لا جارد، فالسارد يفصل ويُكثّر، والجارد يجرد الحقيقة من العلائق التي يجعلها تحل وتتحد مع العالم وكائناته وخلائقه.
من هنا فالسارد يمتلئ بصور الألوهية المتعددة في العالم، فيَثمل بجمالها وجلالها، على النحو الذي تخبرنا به كؤوس السهروردي ”اللهم إنا في الثمالة كؤوس تمتلئ بك”.

http://alwaqt.com/blogprint.php?baid=6553

19 تعليقا على “هل مازال يستحق الحلاج القتل؟”

  1. هل الديري هنا يدافع عن ذاته ؟؟ أم يدافع عن الحقيقة ؟؟
    ما أظنه إن الديري وبعبقريته المعهودة يدافع عن علي الديري ، الذي مازالت تنهش عظامه الأصولية كل يوم ، حتى في دوراته التدريبية لا يسلم من الغمز واللمز ، لأنه يريد أن يقدم الحقيقة على طبقه هو فقط وفقط !!
    ما أود قوله إني أشاطر الديري في إن أحدنا لا يستطيع تلمس كل نواحي الحقيقة ، وإننا بحاجة أن نجمع أناملنا لنصنع خريطة قريبة من روح الحقيقة ، لكن أقول لعلي حذار أن تجرح يديك !!
    الاقصائيون كثر حتى في الوسط الذي يزعم الديري انتماءه له ، وبالنتيجة كلنا عميان !! أف لهذا العمى الذي مازال يرهقنا أف له .
    بقي أن اعترف إننا بحاجة للحلاج ثانية لكن هذه المرة لا ليقتل بل ليشعل آخر شمعة بقيت في عهدته … شكراً للديري .

  2. شكرا لك، أيها الساهر، لكن احذر أن تكثر السهر، فتفقد عينيك، حينها ستشبهني في العمى.
    الإقصاء هو أن يحاول أعمى إزاحة أعمى آخر بدعوى أنه يرى ما لا يراه..
    أشكر لطف تعليقك

  3. دائما أنت تدهشنا أيها الديري…وطالما أدهشتني قامةالحلاج …صدقا نحن بحاجة إلى زمنة للغوص بمفهوم الحرية بطريقتة الصوفية.. في جسد هذة الأمة الكثير من الرواسب التى تدعم يوما بعد يوم من خلال الكثير من القنوات الرسمية..أو غير الرسمية..لذا لا ألقي اللوم فقط على إيمان وما تمنته للحلاج فأفكارها ..
    إنه الزاهد الصوفي ..كما هو معروف ..لايبرر التملك والعلاقات المتنفذة..كما إنة رمزا للصوفية الثائرة وقطب لطبقة صوفية متنامية حين ذاك…أنا ألوم وسائل التدريس ومناهجها في منطقتنا الخليجيه بالتحديد على تدعيم هذة الأفكار..لماذا لايتم تدريس الفكر كما كان علية دون تشويه…شكرا لك يالديري على نوافذك التي نستنشق منها نسيم الفكر…

  4. الحواشي التي يصنعها هؤلاء تحول بيننا وبين قراءة قامة الحلاج، تحول بيينا وبين أن نطول قامته. ابقي حاشية حرة وستصلي. أشكرك

  5. منذ 20 سنة وأنا أبحث عن حقيقة الحقيقة وحقيقة الواقع، وواقعية الخيال..الحلم….اليوم مقالك يا صديقي كشف بعضا من الحقيقة الغامضة وكثيرا من حقيقة أنك مفكر حقيقي.

  6. شكرا، أبا باسل، لذوق جملك التي تخترق الحدث دوما بحساسيتها العالية. الحقيقة التي قتلت الحلاج هي نفسها الحقيقة التي عريتها في مقالتك البرتقالية (اكذب بصدق وأطل عمر الربيع)
    http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6533&post=1

  7. هذا المقال رائع واعتقد إنه يمكن اعتبار قصة الحلاج و ما رواه التوحيدي عن حكاية العميان مدخل جيد لتوضيح مفهوم الحقيقة. لقد أعجبني ما ذكر في مقالك واتفق معك تماماً في أن الحقيقة ” ليست ما نراه وننظر إليه بقدر ما هي ما نرى أو منه ننظر… البحث هو طريق أداتك…..” . وهذا للاسف ما يغيب عن كثير من الباحثين للوصول إلى الحقائق واختيار الأدوات البحثية المناسبة لحلول المشاكل المختلفة.

    أشكر لك جهودك لتوضيح وتحليل الفرق بين الحفيقة، البحث والسرد من منظور مغاير لما هو مألوف لدى الباحثين.

    تمنياتي لك بالتوفيق

  8. شكرا دكتورة سناء، وأتمنى أتعرف ما به نظرتي إلى الحقيقة في بحثك النوعي، ونعول عليك في تغيير أدوات البحث التربوية التي باتت أقرب إلى المهزلة حسب تعبير الدكتور نخلة في كتابه الهام (كي لا يتحول الحث التربوي إلى مهزلة)

اترك تعليقاً