رسائل الرئيس

 

إذا كانت لديك مشكلة فأرسل رسالتك إلى الرئيس مباشرة، لكن إذا كانت مشكلتك أنك تريد أن تصور فيلماً عن رسائل الرئيس فلا ترسل رسالة، بل أرسل كاميراتك ودعها ترى وترسل رسائلها المواربة عن رسائل الرئيس.
فيلم المخرج التشيكي الأصل بيتر لوم ”رسائل إلى الرئيس” يروي قصة هذه الرسائل، فقد أرسل iran_230907_1 الإيرانيون عشرة ملايين رسالة إلى الرئيس محمود أحمدي نجاد منذ توليه منصبه، طالبين منه مساعدتهم ماليا.
كان هذا الفيلم الوثائقي المثير للجدل، أحد أفلام مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية في دورته الخامسة الذي أقيم في 13-16 إبريل تحت شعار سنوات الأمل، بمشاركة 454 فيلما. وقد عرض هذا الفيلم في إطار الدورة التاسعة والخمسين من مهرجان برلين السينمائي، وقوبل بمظاهرات من قبل الإيرانيين المقيمين في ألمانيا، واتهم مخرجه بالقيام بحملة إعلامية لصالح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من خلال عدم تعرضه إلى ممارسات النظام الحاكم.
«فيلم يحتاج إلى مشاهد دقيق الملاحظة ليفهم الرسائل المستترة التي أرسلها مخرج الفيلم» هذا ما ورد على لسان أحد النقاد وهو أفضل تعليق يمكن أن يقال عن هذا الفيلم، وأقول أفضل تعليق قياسا إلى ردود الفعل السياسية التي قوبل بها الفيلم حين عرض في مهرجان برلين. فالمعارضات السياسية دائما تريد إدانة واضحة وصريحة للنظام الذي تعارضه، وتريد من الفن أن يكون ناطقا بما تريد. الفيلم الوثائقي فن وليس بياناً سياسيا، لأنه بقدر ما يسجل من وقائع بالكاميرا، فإنه يعيد تركيبها وفق اتساع عدسته في حدود الممكن، وفي هذا الاتساع يكمن الفن.
اختلافنا في تقدير اتساع العدسة وإمكانه من ناحية سياسية وفنية، هو ما يجعل من الفيلم حمّال رسائل مستترة.
استمتعت بحركة اتساع كاميرا المخرج التشيكي ”بيتر لوم” في قاعة المجلس بفندق شيراتون الدوحة، وهي تريني السياقات الاجتماعية والدينية والثقافية التي تنطلق منها رسائل الناس إلى الرئيس. فالمرسل لا يرسل رسائله في سياق واحد والمستقبل لا يستقبلها في سياق واحد. أرى أن المخرج نجح في اللعب على تنويع هذه السياقات وفي بث رسائل مواربة من خلالها، في حدود الممكن السياسي الذي كانت عدسته تتحرك من خلاله. وهذه بعض المشاهدات حمّالة الأوجه التي التقطتها في ذاكرتي.
في ديوان الرئيس، كانت هناك جموع كبيرة تنتظر مقابلة الرئيس، التقطت الكاميرا بينها حالتين، الأولى لرجل دين من عامة الناس يجلس على كرسي خشبي، ويبدي ارتباكاً لا يخفيه، لأنه سيقابل الرئيس، ويطلب من المصور أن يمهله حتى يخرج كي يجيب على أسئلته، لكنه يكتفي بالقول سأتحدث معه عن أهمية التمسك بالحق النووي، بعد خروجه يحدثه عن يقينه بقرب ظهور الإمام المهدي، لأن التكنولوجيا بلغت أوج تطورها والأمور جاهزة للظهور.
الحالة الثانية امرأتان تجلسان على الأرض، ويدور بينهما حوار طويل يتخلله بكاء إحداهما من وضع حالتها المعيشية، وتذمر الأخرى من طول الانتظار وصعوبة لقاء الرئيس، وتقارنه بسهولة مقابلة أختها التي تعيش في بريطانيا للملكة إليزابيث الثانية. فجأة ينقطع كل شيء، فالرئيس ألغى مقابلاته.
في لقطة أخرى تطرق الكاميرا شقة أحد المواطنين، وتسألهم إن كانوا قد أرسلوا رسالة إلى السيد الرئيس، فيتوارى الرجل خلف الباب، فيما تبقى زوجته مسندة ظهرها للباب تضحك على زوجها، وهو يقول ليس لديه رسالة ولا يريد أن يرسل شيئا، وإذا كان الشاه الذي تسلم رسالة من أبيه يدا بيد، لم يرد عليها، فكيف سيرد نجاد على رسالة بريدية.
في لقطة أخرى يتحدث نجاد عن ملايين المشردين في أميركا، لجمهور في قرية لا يصلها الماء ولا الكهرباء، ويطلب منهم أن يجيبوا الغرب بهتاف يؤكد صمودهم، فيهتفون بشعار الحق في النووي، وهم يرفعون صور شهدائهم في الحرب العراقية، يجمع الرئيس رسائلهم بيده، ويعدهم عبر وزير الكهرباء، أن تصل الكهرباء لهم خلال عام.
في مشهد آخر، تتحرك الكاميرا بين رجل متحمس لنجاد وللثورة، ويقول هناك حرية بدليل ألا أحد يمنعكم من التصوير، وبين رجال أمن أو مخابرات يمنع المخرج من التصوير. وفي مشهد آخر ترينا الكاميرا أحد رجال الرئيس وهو يهيئ المزارعين لاستقبال الرئيس ويقول لهم كيف يتحدثون معه، وفي المقابل ترينا صحافيا شابا، يحرّض المزارعين، أمام رجل السلطة، على أن يقولوا كل شيء وبطريقتهم التي يريدونها، ويشير لهم إلى المزارع الممتدة قائلا كل هذه الخيرات، لكنها ليست لنا.
تتحرك الكاميرا نحو النساء المحتشدات أمام بوابة الرئيس الحديدية، وهن ممسكات برسائلهن، ورجال الأمن يمنعنهن من الدخول. وصوت إحداهن يجهر بالتحدي ويقول كيف ليس لديه وقت لنا ولديه وقت للخطب الطويلة، دعه يختصر خطبه ويمنح رسائلنا وقتا أطول.
بيروقراطية النظام، أظهرتها الكاميرا في مكتب تسلم رسائل الرئيس نفسه، من خلال ردود أحد الموظفين الصلفة والمعبرة في الوقت نفسه عن الوضع الاقتصادي المتردي للبنوك، تجاه فلاح يعاني من مديونية تهدد رزقه.
قلت لعائشة سلدانة البريطانية في نهاية الفيلم، ما رأيك في «رسائل الرئيس» قالت جعلتني أشاهد إيران التي لم أزرها، ولكن..
كانت الرسالة الأكثر قوة، قد ادخرها المخرج إلى ما بعد الفيلم، حين ظهر في الشريط المكتوب أنهم طلبوا منه أن يسمي الفيلم «تطبيق الديمقراطية». وكأنه بهذه المعلومة المسربة، يسأل: هل الديمقراطية رسائل الرئيس؟
الرسائل كانت للرئيس، لكنها في الفيلم، كانت للمشاهدين، ليس فقط كي يعرفوا الرئيس، بل ليعرفوا كيف يدير الرئيس الناس عبر رسائلهم، وماذا تحكي رسائلهم من واقعهم. وهل تطبيق الديمقراطية يعني أن ترسل رسالة للرئيس. هل «رسائل الرئيس» دليل الديمقراطية أم دليل غيابها؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10543

اترك تعليقاً