في رحيل أركون

في رحيل أركون

الظاهرة الأركونيّة إشعار بلزوم قراءة التراث بكل الطرق والمنهجيّات المتاحة

http://www.alwasatnews.com/2939/news/read/475928/1.html

الوسط – محرر فضاءات

رحل أركون في حلكة من الوقت لملمت معه مجموعة من المفكرين من ربقته في الاشتغال على العقل والتجديد ولعل خصوصية أركون فيما بينهم هو إلحاحه الشديد في مجمل كتاباته على إعادة التفكير في النصوص المؤسسة وفك العقل من الارتهان لتاريخية التأويل، والإمعان في التحريض على الاشتغال في النصوص بآليات حديثة.

وفي هذا التحقيق توقفنا مع أربعة قارئين لاشتغالات أركون إذ رأى أستاذ النقد والدراسات بجامعة البحرين عبدالقادر فيدوح أن غياب أركون خسارة للفكر العربي، فيما خصص الناقد علي الديري مداخلته للكلام عن أركون بوصفه صديقاً، أما أستاذة النقد والدراسات بجامعة البحرين فحذرت المتلقي من الوقوع في سطوة الكارزما المتعالية حين قراءة أركون، في حين انتهز الباحث نادر المتروك لحظة رحيل أركون للإشارة إلى لزوم قراءة التراث بكلّ الطرق والمنهجيّات المتاحة.


فيدوح: غياب أركون خسارة للفكر العربي

في البداية تحدث أستاذ النقد والدراسات الأدبية بجامعة البحرين عبد القادر فيدوح حول مشروع أركون فأشار إلى أن المرحوم محمد أركون ـ العالم الفذ ـ أحدث بمشروعه الفكري صخبا مدويا، ناتجاً من أفكاره المستنيرة، بعد أن ترأس قاطرة الوعي العربي الحديث في شقه التنويري بدراساته التي أطلق على منهجيتها «الإسلاميات التطبيقية». وإذا كنا فقدنا المغفور له فإن لمريديه، وأنصار الفكر التنويري، مسئولية القبض على شِدة إرادته، والحرص على مطلوبه.

وأضاف فيدوح: أما بخصوص مكانة مشاريع أركون في ضوء مشاريع الآخرين، أعتقد أن جميع المشاريع التنويرية على مستوى الفكر العالمي حزينة لهذا الفقد، بغض النظر عن دواعي الائتلاف أو الاختلاف مع مشروعه الريادي الذي غلب عليه طابع التحليل الاستفزازي، المثمر، والمحرك للوعي العربي على وجه الخصوص.

فهو إلى جانب بقية المشاريع الأخرى يُعدُّ نقلة نوعية، ومدونة فكرية تستحق التقدير حتى في حال الاختلاف معه وفي كثير من تأويلاته المثيرة للجدل، والمفزعة في الآن نفسه لدى الكثير من الآراء المعارضة لمبادئه.

وحول أهم مقولات أركون الفكرية وإضافاته : أشار فيدوح إلى إن كل ما قاله أركون مثير للجدل، ولعل جميع آرائه تصب في مقولة «النقد والاجتهاد» وهي المدونة التي بنى عليها أفكاره في سياق معظم كتبه مثل: (تاريخيّة الفكر العربي الإسلاميّ أو نقد العقل الإسلاميّ)، (الفكر الإسلاميّ: نقد واجتهاد)، (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلاميّ)، (قضايا في نقد العقل الدينيّ: كيف نفهم الإسلام اليوم؟) وسوف تظل آراؤه النيرة ومساعيه المضنية شاهدة عليه، ولا يمكن أن تحجب عنه وِسْعَ طاقته العظيمة، وريادته الهادفة إلى غاية تفعيل العقل.

أما بخصوص خصوم أركون فأجاب: «لا أدري إذا جاز لي أن أقول ـ في حدود معلوماتي البسيطة ـ أنه لا يوجد خصوم حقيقيون لأركون؛ لأن المنازلة بينه وبين غيره غير متكافئة، بمفهوم منازلة الفارس لنده، ولكن أستطيع أن أسوغ لنفسي القول إن هناك منازعين له فكرياً».

علي الديري مع محمد أركون في الكويت في 2008

الديري: أمشي مع أركون بوصفه صديقاً

في بداية مداخلته أشار الناقد علي الديري أن الموت أعدل الأشياء بين البشر وأفدحها وأوقحها، لا ينتظر حتى اللحظة المناسبة، ولا يسمح لنا حتى باختيار اللحظة المناسبة لإيصال خبر وقعه. هذا ما خطر لي لحظة تلقي خبر رحيل الصديق المفكر محمد أركون، وأنا على أعتاب أيام من مناقشة أطروحتي للدكتوراه حول تشكيل المجازات للخطاب الفلسفي والصوفي.

لقد قلت الصديق أركون لا لأحيل إلى علاقتي الشخصية معه، بل لأشير إلى الصداقة بوصفها مفهوماً يجمع المشتغلين بحب الحقيقة والبحث عنها والتنقيب عن آثارها بين ركام التاريخ وأحداثه السياسية والاجتماعية والدينية. وقد كان أركون في مقدمة هؤلاء المنقبين والمحتفين بالصداقة من خلال إحالاته الأثيرة إلى الخطاب الفلسفي اليوناني الذي بلور هذا المفهوم واشتق منه مفهوم الفلسفة (الفيلياphilia)، ومن خلال إحالاته الحميمية إلى صديقه أبوحيان التوحيد الذي أنجز أطروحته للدكتوراه حوله وحول جيل الإنسان الذي جاء في سياقه. حين قدمته في زيارته الثانية للبحرين قلت: سألني بعضهم ما الفرق بين علاقتك بالفقيه سابقاً وعلاقتك بأركون حالياً؟ قلت: علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.

أن تفقد صديقاً في لحظة حميمة تود أن يفرح فيها معك، ليس لأنك أنجزت شهادة أكاديمية، بل لأنك أنجزت بتأثيره تنقيباً في خطاب من خطابات تراثنا الغزير الملتبس علينا قبل غيرنا. أعرف صداقتي مع أركون لن يحققها التقائي به بل يحققها هذا التنقيب، فالصداقة في المجتمع الفلسفي تتحقق بالمشاركة في البحث عن المفهوم والحقيقة التي تتبدى في أشكال مفهومية لا حدّ لها.

الصداقة تقتضي الحميمة، وهذه تجعل الباحث عن الحقيقة ومفاهيمها في خطاب المجتمع، منخرط في الواقع وتشابكاته، بحرارة ومسئولية، بعيداً عن برودة الرطانة الأكاديمية، لذلك شغل أركون مقاعد الجامعات وأرصفة الشوارع.

وأضاف الديري: يمكنني أن أقول بدافع الوفاء لهذه الصداقة إن اللحظة الأولى التي شكّلت منعطفي نحو موضوع أطروحة الدكتوراه هي لحظة أركونية بامتياز. وهي تعود إلى قراءتي لكتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي) حين أشار إلى أن المجاز في الأدبيات الخاصة بالإعجاز قد درس كثيراً بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب في القرآن وتجميله، ولكنه لم يُدرس أبدا في بعده الأبستمولوجي بصفته محلاً ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التي تصيب الواقع. وفي كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) أشار إلى هذا النقص الذي نعاني منه في دراسة المجاز بهذا المنظور، وهو غير منظور الجرجاني والباقلاني وفخر الدين الرازي والسكاكي وكل تلك الأدبيات الهائلة التي كتبت عن الإعجاز.

ذهبت إلى مجازات إخوان الصفاء وابن عربي، بمنظور أركوني، وبروح صداقته مع التوحيدي، فصار ابن عربي صديقي الحميم الذي أحمل معه حيرته الإنسانية كلما فكّر في الكون والإله والإنسان. وصار إخوان الصفاء أصدقائي الذين أتأّله معهم كلما فكرّت في الفلسفة باعتبارها طاقة الإنسان في التشّبه بالمطلق.


الكعبي: ينبغي أن يقرأ أركون بحذر حتى لايقع المتلقي في سطوة الخطاب المتعالي الكارزمي.

في بداية مداخلتها أشارت أستاذة النقد والدراسات بجامعة البحرين ضياء الكعبي إلى أن أركون المفكر الجزائري الفرنسي الجنسية يعد واحداً من أبرز المفكرين العرب الذين تصدوا لمهمة التنقيب والحفر في العقل الإسلامي ونقد العقل التشريعي بجرأة وشجاعة كبيرة أحسب أن مصدرها كون أركون يستند إلى المؤسسات الأكاديمية والدوائر الثقافية الغربية ويجد في ملاذها الحرية التي تحميه وتتيح له التعبير والبحث كما يريد ومن هنا كانت صولاته وجولاته في المحاضرات الكثيرة التي جاب فيها أقطار العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى الخليج العربي للتبشير بمشروعه الفكري. وقد أخضع أركون نصوص الثقافة العربية الإسلامية للفحص النقدي والتفكيك المعرفي، مستعيناً بأدوات ومعطيات منهجية إنسانية حديثة كاللسانيات والإبستمولوجيا والسيميولوجيا والانتربولوجيا وعلم الأديان المقارن.

وأضافت الكعبي لقد شكل «كونه مع محمد عابد الجابري وحسن حنفي والطيب تيزيني عبدالله العروي وأومليل طائفة من الباحثين العرب الذين أرادوا تفكيك بنية العقل العربي والإسلامي وإن اختلفت مقارباتهم ومرجعياتهم المنهجية. ناهيك عن تأثره الكبير بالتراث العقلاني للمفكرين و للفلاسفة المسلمين كأبي حيان التوحيدي وابن رشد وطه حسين.

وحول نقدها لأركون أضافت الكعبي: ورغم اعتراضي الكبير على ما أسماه أركون بتاريخية الخطاب القرآني في مشروعه عن الإسلاميات التطبيقية حيث أراد تطبيق منهجيات العلوم الإنسانية على القرآن الكريم شأنه في ذلك شأن أي نص بشري دون النظر إلى مصدره الإلهي وإعجازه القرآني فإني أقدر له دعوته إلى إعمال العقل في النصوص التراثية وإعجابه الشديد بالمعتزلة أصحاب التراث العقلاني في الإسلام ودعوته إلى إعادة دراسة مأثوراتهم وإرثهم وتطبيقه بما في ذلك إعادة المجالس الثقافية التي مثل لها بمجلس أبي حيان التوحيدي مع أبي سليمان المنطقي في كتاب الإمتاع والمؤانسة بمقابساته الأدبية والعقلية. وأحسب أن أركون عمق خطابه بين طائفة من مريديه ولكن خطابه ينبغي أن يقرأ بحذر شديد حتى لايقع المتلقي في فخ سطوة الخطاب المتعالي الكارزمي. ولذا فإن هذا الخطاب يجب أن يدرس دراسة علمية نقدية وليس قراءة انطباعية انبهارية تقديسية فأركون نفسه كان يريد التحرر من سلطة المقدس الديني كما صرح بذلك في عدد من اللقاءات الفكرية.

وخلصت الكعبي إلى أنه لاشك أن مشروع أركون الطويل في دراسة العقل الإسلامي بمعطيات غير مألوفة لدى عدد من الباحثين العرب والمسلمين قد أثارت عليه ردود فعل عنيفة طالب بعضها بتكفيره واتهامه بالنزعة التغريبية وبالاستلاب الثقافي. وربما كان أركون نفسه بفرضه خطاباً من طرف واحد سبباً في هذه العدائية؛ فخطابه يحمل قدراً من التطرف الفكري في محاضراته التي لا تقبل الحوارية أصلا. والآن بعد وفاته ينبغي أن يدرس خطابه كما ذكرت سابقاً بقدر من العقلانية والحوار النقدي بعيدا عن التقديس أو الإقصاء. ولاشك أن الدوائر الأكاديمية العربية ينبغي أن تناقش مشروعه الآن بعد اكتماله بوفاة صاحبه.


المتروك: رحيل أركون إشعار بلزوم قراءة التراث بمختلف المنهجيّات المتاحة.

وفي مداخلته أكد الكاتب والباحث نادر المتروك أن محمد أركون استطاع أن يُعيد صياغة أسئلة العقلانيّة الإسلاميّة بما يتناسب مع معضلة المسلمين المعاصرين. هذا الجهد لم يستأثر به أركون، بل أسْهم فيه آخرون أيضاً، إلا أنّ ميزة الإسهام الأركوني قدرته الحيويّة، والمتدفّقة، على تشجيع التفكير النّقدي داخل أوساط التقليديّة الإسلاميّة، ونجاحه في تعميم ظواهر «الخروج» من العقل الجمعي الإسلامي، أو الحسّ المشترك، والتحفيز على إعادة قراءة الذّات الكبرى بين تلك الأجيال التي تربّت على فكر الصّحوة والتعليم الدّيني القديم.

وأضاف المتروك وعلى خلاف الكثيرين، فإنّ أركون – ومثله الرّاحل نصر حامد أبو زيد- كان أشبه بالظاهرة الحتمية في مثل تلك الظروف التي يخلو/يخبو فيها الإصلاح الدّيني. على هذا النّحو، ستكون الظاهرة الأركونيّة – وبعد رحيل شخص أركون – إشعاراً بلزوم قراءة التراث بكلّ الطرق والمنهجيّات المتاحة، وبما يؤدّي إلى تحقيق التاريخانيّة الوظيفيّة التي تمثّل جوهر المشروع الأركوني، حيث كان يسعى لإعادة التموْضع التّاريخي للنصوص المؤسِّسة، وبالتّالي تأكيد ملازمتها للحدود الثقافيّة التي نشأت فيها وانطلاقاً منها، من غير أن يُغْفِل المدخل الانتروبولوجي والاستفادة الميثولوجيّة وتعدّديّة المنهج القرائي، وهي الملامح التي وفّرت خصوصيّة فارقة في القراءة الأركونيّة للنصّ الإسلامي المؤسِّس، القرآن الكريم، وأتاحت له استحضار المعاني الروحيّة والأخلاقيّة في صُلب المساجلة العلمانيّة.

وحول نقد مشروع أركون أشار المتروك إلى أنه من اللافت أنّ أركون كان محاطاً بنقودٍ متعدِّدة الجهات، فإضافة إلى السّلفيين والمؤدلجين، فإن مستشرقين وملحدين ومفكّرين عرب وأجانب اشتبكوا مع أركون شخصاً وفكراً ومواقف، حتّى بدا أن الرّجل اضطرّ كلّ إطلالةٍ لتوضيح أفكاره والدّفاع عنها. الوظيفيّة المركّبة التي تُميّز «الإسلاميّات التطبيقيّة» وفّرت ضمان التأسيس النقدي على أرضية الاحترام الدّيني، وهي علامة حافظ عليها أركون في مختلف كتبه، بما فيها تلك التي ارتكزت على الوضوح في نزْع الاعتبار الشّعائري للنصّ الإسلامي المقدّس، وإحاطته بالمعنى الميثولوجي من جهة، وإثبات توّرطه، أو توريط الآخرين له في الاستعمالات الأيديولوجيّة من جهةٍ أخرى.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 2939 – الخميس 23 سبتمبر 2010م الموافق 14 شوال 1431هـ

اترك تعليقاً