الموت أعدل الأشياء بين البشر وأفدحها وأوقحها، لا ينتظر حتى اللحظة المناسبة، ولا يسمح لنا حتى باختيار اللحظة المناسبة لإيصال خبر وقعه. هذا ما خطر لي لحظة تلقي خبر رحيل الصديق المفكر محمد أركون، وأنا على أعتاب أيام من مناقشة أطروحتي للدكتوراه حول تشكيل المجازات للخطاب الفلسفي والصوفي.
لقد قلت الصديق أركون لا لأحيل إلى علاقتي الشخصية معه، بل لأشير إلى الصداقة بوصفها مفهوماً يجمع المشتغلين بحب الحقيقة والبحث عنها والتنقيب عن آثارها بين ركام التاريخ وأحداثه السياسية والاجتماعية والدينية.وقد كان أركون في مقدمة هؤلاء المنقبين والمحتفين بالصداقة من خلال إحالاته الأثيرة إلى الخطاب الفلسفي اليوناني الذي بلور هذا المفهوم واشتق منه مفهوم الفلسفة(الفيليا(philia، ومن خلال إحالاته الحميمية إلى صديقه أبوحيان التوحيد الذي أنجز أطروحته للدكتوراه حوله وحول جيل الإنسانة الذي جاء في سياقه. حين قدمته في زيارته الثانية للبحرين قلت: سألني بعضهم ما الفرق بين علاقتك بالفقيه سابقاً وعلاقتك بأركون حاليا؟ قلت: علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.
أن تفقد صديقاً في لحظة حميمة تود أن يفرح فيها معك، ليس لأنك أنجزت شهادة أكاديمية، بل لأنك أنجزت بتأثيره تنقيباً في خطاب من خطابات تراثنا الغزير الملتبس علينا قبل غيرنا. أعرف صداقتي مع أركون لن يحققها التقائي به بل يحققها هذا التنقيب، فالصداقة في المجتمع الفلسفي تتحقق بالمشاركة في البحث عن المفهوم والحقيقة التي تتبدى في أشكال مفهومية لا حدّ لها.
الصداقة تقتضي الحميمة، وهذه تجعل الباحث عن الحقيقة ومفاهيمها في خطاب المجتمع، منخرط في الواقع وتشابكاته، بحرارة ومسؤولية، بعيداً عن برودة الرطانة الأكاديمية، لذلك شغل أركون مقاعد الجامعات وأرصفة الشوارع.
يمكنني أن أقول بدافع الوفاء لهذه الصداقة أن اللحظة الأولى التي شكّلت منعطفي نحو موضوع أطروحة الدكتوراه هي لحظة أركونية بامتياز. وهي تعود إلى قراءتي لكتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي) حين أشار إلى أن المجاز في الأدبيات الخاصة بالإعجاز قد درس كثيراً بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب في القرآن وتجميله، ولكنه لم يُدرس أبدا في بعده الأبستمولوجي بصفته محلاً ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التي تصيب الواقع. وفي كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) أشار إلى هذا النقص الذي نعاني منه في دراسة المجاز بهذا المنظور، وهو غير منظور الجرجاني والباقلاني وفخر الدين الرازي والسكاكي وكل تلك الأدبيات الهائلة التي كتبت عن الإعجاز.
ذهبت إلى مجازات إخوان الصفاء وابن عربي، بمنظور أركوني، وبروح صداقته مع التوحيدي، فصار ابن عربي صديقي الحميم الذي أحمل معه حيرته الإنسانية كلما فكّر في الكون والإله والإنسان. وصار إخوان الصفاء أصدقائي الذين أتأّله معهم كلما فكرّت في الفلسفة باعتبارها طاقة الإنسان في التشّبه بالمطلق.