ينابيع «الخواتم»

يعرف صديقي، الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، عشقي لـ «خواتم» أنسي الأسبوعية، في جريدة «الأخبار». ويعرف أكثر أن مرسمه، هو مكاني المفضل لقراءتها. في حروف أنسي دوماً الجمال والحب، وأجدهما دوماً في مرسم عشتار ورباب، وهما المكانان اللذان يرسم فيهما أبوصبا.

الحب والجمال قيمتان مولدتان في المرسم وفي تجربة أنسي. نرتشف القهوة هناك ونستلذ بتقطيع نصوص الخواتم وقراءتها وكأنها آيات منجمة أو محكمة أو متشابهة، نهيم في ظلال الألوان على وقع مذاقها.
في هذا المكان (المرسم) الذي هو في معناه أكثر من مرسم وأضيق من محترف وأمتع من مكتبة وأعمق من مجلس وأجمل من مقهى وألذ من حانة، قرأت قصيدة أنسي “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”. كانت متعة اكتشافها تشبه لحظة الوقوع على ينبوع ماء وسط البحر، لا وسط الصحراء، وهي صورة لا يعرفها إلا من عرف ينابيع البحرين التي تنفجر وسط البحر. الجمال وسط الجمال، جمال البحر المالح وجمال الماء العذب لحظة الالتقاء من دون أن يبغيا، في مشهد طبيعي نادر. هكذا تبدو لي نصوص أنسي، ينابيع ماء وسط بحر جميل، لها قوتها وفرادتها وخصوصيتها ومذاقها.

منذ ثلاث سنوات أي منذ مغادرتي البحرين، وأنا أتشوق لطقس المرسم، وقراءة أنسي فيه. كثيرة هي الأوراق التي تحمل «خواتم» أنسي تركتها هناك. أعرف أن صديقي عباس يحب قراءة الخواتم مطبوعة على الورق. لعله حدس ما، كنت أهجس به، أنها ستستحيل يوماً لوناً أو خطاً أو لوحة. أعرف تماماً أن الألوان في تجربة عباس يوسف مفتونة بالكلمات، الكلمات تشم ألوانها، وجدران المرسم شاهدة على ذلك. نكتب عليها الكلمات الفاتنة في لحظة مرح اكتشافها، إنها مختومة على الجدران كفصوص خواتم جميلة.

قبل أسبوع يصلني عبر «الواتس آب» من مرسم عباس “صديقي هذه اللوحات لم تعرض ولم يرها أحد غيرك ورباب الأعمال نتاج 2013، بمقاس 50/70 سم” انظر في اللوحات، فإذا هي خواتم قصيدة “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”:
أيُّها الرّبُّ إلهُ الخواتم والعُقود والتنهّدات
يذهب الناس الى أعمالهم
ومن حبّها أذهبُ إليك
هي تنظر فأراكَ
بقدر ما كنت منتشياً بختم تشكيل اللوحات التي ستخرج في شكل كتاب يدوي فني، كنت لحظتها قلقاً أن أخبره أن أنسي على وشك أن يختم حياته، كما ختم درويش حياته قبيل أن يعرض عباس لوحات قصيدته «كاماسوترا». صباح الأمس، أرسلت له ما يشبه النعي المبكر لأنسي من أحد الكتاب، كنت أهيئه لاحتمال أن أنسي لن يتمكن من رؤية حروفه ألواناً فاتنة في لوحاته.
«خواتم» أنسي هي النهايات لكن ليس بمعنى الإقفال بل النهايات بمعنى الذروة في الجمال، والإيجاز والفرادة، والأثر الذي لا يُمحى، هي أشبه بالفص المكتمل التكوين، وهي بهذا المعنى أقرب إلى “فصوص الحكم” ابن عربي، كلاهما ينابيع للحكمة والجمال والحب.

 

رابط الموضوع: https://www.al-akhbar.com/node/200975

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

اترك تعليقاً