أرشيف الوسم: مجازات بها نرى

مجازات بها نرى

image

أحلام سليمان

علي أحمد الديري باحث وكاتب من البحرين يهتم بالبحث في قضايا اللغة والفكر. صدر له مؤخرا كتاب مجازات بها نرى: كيف نفكر باللغة، ينطلق فيه من فرضية أساسية تقول ان تفكيرنا في المجردات ليس مجردا بل هو تفكير مجسد، مما يعني أن تفكيرنا المجرد هو تفكير مجازي.

وأننا لا يمكن أن نفكر إلا على نحو مجازي لأن المجازات تشكل الأطر التي من خلالها نتلقى الأشياء ونفهمها، ونحن عبر التفكير المجسد أو التفكير المجازي نتخيل ونتوقع ونستنتج ونقرر ونفهم ونقنع ونقتنع ونحاجج.

ويذهب الباحث إلى أن التفكير بالمجازات يضم عائلة كبيرة هي عائلة القياس أو المجازات، وهي تشمل التشبيه والاستعارة والتمثيل والرمز والحكاية والأسطورة وبالتالي فإن تفكير الإنسان لا يمكن أن يخرج عن هذه العائلة أي أنه يفكر بواسطة المجازات وهذا يجعل تفكيرنا يتسم بالنسبية لأن المجاز هو رؤية شيء من خلال شيء آخر، ما يعني أننا لا يمكن أن نرى الشيء إلا بنسبيته.

ومنذ العنوان الذي يتصدر كل محور من محاور الكتاب التي تزيد على عشرة محاور يُدخل المؤلف قارئ الكتاب في عالم لغته المجازية للكتاب بحيث لا تنفصل بنية العنوان عن بنية اللغة وآلية التفكر في موضوع اللغة، ولذلك يسمي المحور الأول بمجازات العبور.

ومن أجل توضيح فكرته يلجأ عادة إلى استخدام السرد والحكاية كوسيلة دالة على آلية الرؤية بالمجازات. كما يحاول تعريف المفاهيم التي يستخدمها معجميا للوقوف على معانيها اللغوية مثل مفاهيم العبور والمجاز والإبداع للوصول إلى الكشف عن العلاقة القائمة بين هذه المفاهيم الثلاثة على مستوى المعنى الدلالي وذلك من خلال كون المجاز هو الجواز أو (العبور) من التجربة الحسية إلى التجربة المفهومية.

بحيث يفتح أمامنا إمكانية العبور المبدع الأمر الذي يجعل التعبير هو ما نعبر به إلى الآخرين، ولكي يكون التعبير متوافرا على الطلاقة والمرونة والأصالة وهي شروط الإبداع، فلا بد من استخدام لغة المجاز ومن هنا يأتي الوقوع في سحر اللغة.

ويقوم منطق البحث في هذه الدراسة على الربط والوصل بين المفاهيم والمعاني والانتقال المتدرج من معنى إلى الكشف عن شبكة العلاقات اللغوية والدلالية فيما بينها وصولا لتأكيد مقولة التفكير بالمجاز. فإذا كان التشبيه جزءا من لغة المجاز، والمجاز يمثل سحر اللغة، فإن السحر الذي يحيل على معاني الصرف والخداع وسلب اللب يمتلك القدرة على أن يرينا الأشياء على غير ما هي عليه خاصة، خاصة أن اللغة لديها هذه الخاصية بحكم طبيعتها في تمثيل الأشياء.

ولعل المفاهيم المجردة التي نفكر فيها هي من تجعلنا نقع في سحر اللغة بمجازاتها كثيرة الوجوه والمرتبطة بتجاربنا الثقافية الفردية والجماعية بحيث تؤدي هذه الآلية الذهنية إلى أن يبني الإنسان تصوراته لهويات الأشياء تلك التصورات التي تتغير أو تتجدد أو تتحول وفق ما يستجد من تجارب بصورة تصبح فيها هوية الأشياء هويات مختلفة لأن الإنسان لا يبنيها مرة واحدة فقط.

وتتبدى أغراض المجاز في ضوء وظائف العبور والفهم والتعبير والتنوير والتبسيط وأنسنة الأشياء…. في ممارسته لسطوته على تصورات الأفراد والجماعات والعالم كله لأنه إضافة إلى كونه أداة من أدوات الفهم والعبور، يمكنِّنا من توظيفه لأغراض الإقناع والتحويل وجذب الانتباه وإثارة العواطف وكسر أنماط التفكير بصورة تجعلنا نرى به.

إن أهمية هذه المجازات تتمثل في قدرتها على تمثيل المقومات الرمزية لأية ثقافة وتعتبر التخصصات الإدارية في عالم اليوم هي الأكثر عناية باستثمار المجازات في تطبيقاتها العملية ويقدم الباحث نماذج تطبيقية على ذلك منها أسطورة سرير بروكست التي تحمل في بنيتها المجازية معضلة تتجسد في المقياس الذي يتخذه كل إنسان في تحديد مصير الأشياء، لاسيما وأنه يدل على غياب حرية الفكر والحياة.

ورغبة في تعميق فهم المتلقي لمفهوم المجاز والمواقف المختلفة منه قديما وحديثا يقدم قراءة في تحولات التفكير النقدي والمعرفي الذي دار حوله وعلاقته بالإنسان كما بدت في التراث العربي والفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة وانتهاء بنظرية الناقد عبدالله محمد الغذامي في النقد الثقافي.

وقد حاول الباحث من خلال هذه القراءة الطويلة القيام بربط تحولات هذا التفكير بتغير مفاهيم الإنسان حول الحقيقة والوجود والذات والآخر والتجربة واللغة والعقل والتمثل، نظرا لأن أهمية ذلك لا تكمن في أنها تشكل كشفا لحقيقة المجاز بقدر ما هي تتجلى في تغيير علاقتنا به.

فالمجاز هو أداة وخطاب ونظرية يلعب دورا مهما في نظرية النقد الثقافي بوصفه أداة تشتغل ضمن أفق نظري لقراءة الخطاب الشعري الذي يؤدي فيه المجاز دورا مركزيا في صياغته ثم يدرس العلاقة بين المجاز والإنسان في مشروع الغذامي الذي يعنى بقراءة الإنسان بوصفه لغة.

وفي العلوم الإنسانية الحديثة كانت الاستعارة وفق قول محمد مفتاح الشغل الشاغل لدارسي اللغات الإنسانية أما على صعيد نظريات النقد الأدبي والفلسفة فاحتل المجاز صدارة الاهتمام سواء من حيث دوره في النقد الثقافي أو في تفسير كيفية إدراك الإنسان للعالم من خلال مجازات اللغة والذهن.

وقد رأت العلوم الإنسانية أن قيم الإنسان ولغته ونظرته وعلاقاته وثقافته تتجسد في لغته وخطاباته وطرق قوله ومجازاته حتى رأى الفيلسوف نيتشه أن الاستعارة هي أصل المفهوم بدلا من الحقيقة اللغوية، لأنها الأكثر دلالة على تغير نظرتنا للأشياء.

وبهذا يكون موضوع الاستعارة قد خرج عن حدود البلاغة ليصبح موضوعا أثيرا للدراسات الفلسفية والاجتماعية والسياسية واللسانية، الأمر الذي يجعل الاستعارة تتحول إلى وسائل مفهومة للإدراك أو لخلق الواقع.

ويبحث في علاقة في المجاز بالأدبية وبالشيء الذي لا ينتمي إلى الأدبية في نظرية النقد الثقافي عند عبدالله محمد الغذامي انطلاقا من اعتبار المجاز لغة ثانية أو انزياحا عن المألوف. وإذا كانت الأدبية هي مساءلة للمجاز والسؤال عما لا ينتمي للأدبي فإن المجاز لا يستغرق الأدبية في حين أن الأدبية تستغرقه إلى حد كبير خصوصا في الشعر والنقد الثقافي كان معنيا بما يتحقق لهذه الأدبية عن طريق المجاز.

ولما كان الشعر هو أكثر الأجناس الأدبية مجازا فإن الأدبية قد منحته ما لم تمنحه لجنس آخر على مستوى استخدام المجاز. ومن هنا اكتسب المجاز بوصفه أداة للقراءة النظرية أهميته الخاصة في النقد الثقافي. ولعل المجاز الذي يمثل آلية مشتركة بين جميع الخطابات على اختلاف طرق توظيفها إياه جعل من اختلاف طرق تمثلها للمجاز

واختلاف درجات هذا التمثل مفارقة مجازية تلعب من خلالها تلك الخطابات لعبة التمويه والتنكير والإنسان الذي صاغ هذه الخطابات تحول بفعل المجاز إلى نص مجازي كثيف يصعب تفكيكه وفي النقد الثقافي تحول المجاز من القيمة البلاغية التي تدور حول الاستعمال المفرد للفظة أو الجملة الواحدة إلى القيمة الثقافية التي تدور حول الخطاب فأصبح المجاز بهذا التحول مزدوج الدلالة يدرك على مستوى كلي

أي بمعنى أن الخطاب يحمل بعدين اثنين أوليين أحدهما حاضر وماثل في الفعل الثقافي اللغوي المكشوف وثانيهما مضمر في وهو الفاعل والمحرك الذي يتحكم في كافة علاقاتنا مع أفعال التعبير وحالات التفاعل وبهذا يكتسب الفعل تسمية المجاز الكلي.

ومع هذا التحول لم يعد المؤلف في شكله الضمني هو المؤلف المعهود بل أصبحت الثقافة التي تمثل نوعا من المؤلف النسقي باعتبار النسق دلالات مضمرة منكتبة ومنغرسة في الخطاب وليست من المؤلف. ما يجعل الدلالة تتجاوز الدلالة الصريحة المرتبطة بالبنية النحوية من خلال وظيفتها النفعية التواصلية، كما تتجاوز الدلالة الضمنية المرتبطة بالوظيفة الجمالية للغة.

ويحاول الباحث الكشف عن رؤية المجاز الكلي بوصفه أداة للقراءة إلى المجاز الشعري الذي يتولى صياغة الخطاب الشعري وذلك من خلال استعراض للثنائيات الأكثر جدلا وتعبيرا عن رؤية الاتجاهات النقدية والعلوم الإنسانية للمجاز، ثم ينتقل لدراسة مجازات الشك باعتباره وعيا بالنقص وشكا في مفاهيم السيادة المختلفة،

وحقل حياة بما يستدعيه من سؤال ونقد وحيرة. كذلك يبحث في مجازات النسبة ومجازات الخطاب السياسي انطلاقا من أن المجاز آلية ذهنية يستعين بها السياسيون في صياغة إستراتيجياتهم وسياساتهم وإدارتهم للحقيقة كما يلجأ إليها المحللون والمراقبون لصياغة نماذج تعينهم في فهم تلك السياسات في حين يشيد المفكرون نماذج تفسيرية لمعرفة النسق الكامن في كل ظاهرة إنسانية.

ويبين الباحث أشكال حضور المجاز من حيث هو لغة أو أداة يبنى بها الخطاب، ويختلف شكل حضوره البنائي في الخطابات، وبوصفه أداة للقراءة. كما يتناول مجازات الصورة كما تجلت في خطاب ابن عربي ودلت على الكثرة لكونها محلا لغيرها، ومكانا لتجلي الاختلاف والتنوع والتعدد والكثرة،

وهي علامة لأنها تحيل إلى غيرها ولذلك يحاول أن يتبين بعض هذه الكثرة كما في رؤية الشيء في أمر آخر يكون بمثابة المرآة له ولكي يكون صورة لابد أن تكون له رؤية ثانية كما لابد أن يكون لها محل يمنحها الوجود من خلال إظهارها. ولما كانت الصورة بغير ذات تحل فيها فلا بد من أن تكون لها ذات تظهر بظلها وصفاتها ونقصها لأن من كمال الوجود وجود النقص فيه كما يقول ابن عربي في «الفتوحات المكية».

ولما كانت الصورة هي عين فهي أيضا رؤية الشيء في مكان آخر، كذلك فإن الإنسان لا يدرك من الصورة إلا ظلها، ويشكل إدراك الصورة تمثلا لغايتها التي هي المعرفة. ومن تجليات الصورة أنها برزخ أي عالم وسيط من الخيالي الذي يرينا الشيء في صورة أخرى.

ويمثل العالم وممكناته وأناسه وكثرته عند ابن عربي صورة لتجلي النفس الإلهية. ويخصص الفصل الأخير للحديث عن مجازات المعرفة المحبة باعتبار المحبة هي الجمع بين الضدين وأن المعرفة التي لا تعترف بأضدادها هي معرفة لا محبة فيها.

وأول ما يناقشه في هذا السياق هو المعرفة بالشك بوصفها محبة لأنها تجمع بين الأضداد وتشكل جماع معرفة وشك وغموض واكتمال وكثرة ووحدة، ثم هناك ثراء الأضداد القائم على جمع المحبة والمعرفة بحيث نجعل للمحبة مكانا في القلب كما يحاول المتصوفة ذلك فالمعرفة مثل المحبة هي عماء وبصيرة، ووهم وحقيقة.