“عشّ النمل”: ملفّ العبيد في الخليج والبحرين

 “عشّ النمل”
ملفّ العبيد في الخليج والبحرين

*د.محمد السلمان

الزمان: شهر أكتوبر من العام 1872م.
المكان: قبالة السّاحل الأفريقي.
المصدر: عدد من جريدة “التايمز” الهندية.

على مسافة 4630 كيلومترًا، وفي وقت من الزمن يصل إلى 25 يومًا أحيانًا، كانت السّفينة تتهادى في عرض البحر، وهي في حالة يُرثى لها، بسبب عدم صيانتها لفترة طويلة، والوزن الزائد الّذي يجثو على سطحها أو يئنّ من الألم في جوفها.. فبين شهري نوفمبر وفبراير من كلّ عام، تنطلق تلك السّفينة العربية وغيرها، التي كان سكان شرق أفريقيا يرتعبون منها، كما كانت قلوب أخوتهم الأفارقة ترتعب من أصوات السفن الأوروبية التي تنطلق من أوروبا؛ القارة الرأسمالية آنذاك، إلى غرب أفريقيا المنكوبة، للتعامل مع أقذر تجارة بشرية حرَّمتها الأديان والضّمير، وهي تجارة اصطياد الرقيق وبيعهم.

تقول بقية الحكاية، مع تباشير شهريْ أبريل ومايو، توقّع تجار الرقيق وصول تلك السفينة الموعودة من زنجبار إلى صور العُمانية، ولكن ظهور السفينة الحربية الإنجليزية “فلشر” فجأة في المياه الأفريقية أمام سفينة تجار الرقيق، أربكتهم وأحبطت محاولة صيدهم البشريّ الثمين. 169 عبداً جرى اصطيادهم من شرق أفريقيا، بعضهم أطفال لا يتعدى عمرهم ثلاث سنوات، نالت منهم وحشيّة من اصطادهم وحرمهم من عائلاتهم، وقسوة التّجار العرب الَّذين نقلوهم من هناك للبيع في منطقة الخليج.

وقد ذكرت جريدة “التايمز” الهندية، أنَّ “من المستحيل للوهلة الأولى تقدير عدد العبيد الّذين احتشدوا على ظهر السفينة أو في أسفل مخازنها، إلى درجة يبدو معها المكان أنه عبارة عن “عش النمل”، لولا مظهر البؤس. أضف أنَّ رائحةً كريهةً لا تطاق كانت تنبعث من جوف السفينة. كانت عدة بوصات من عمقه مغطاة بأقدار ماء راكدة وقمامة. وفي أسفل السفينة، توجد أعداد من الأطفال والمخلوقات التعسة في أسوأ مراحل الجدري وداء الخنزير، ولا يمكن أن يُرى منظر أكثر اشمئزازاً من هذا المشهد. يكفي أنَّ قذارة المركب بلغت حدًا لا يستطيع البحارة أن يتحمّلوه.. وفي الوقت الّذي نقل الرقيق من تلك السّفينة التعسة إلى السفينة “فلشر”، ونزلوا إلى جزيرة “بوتشر” في بومباي، مات 15 شخصًا من الأشخاص البالغ عددهم 169. ومنذ ذلك الحين، زادت نسبة الوفيات بينهم… كثير من الأطفال كانوا صغارًا لا يتعدى عمرهم ثلاث سنوات، ومعظمهم يحملون آثار قسوة العرب، من جروح لم تلتئم بعد، وكدمات ناتجة من السوط والعصا”. [1].

بريطانيا وتجارة الرقيق في الخليج

تلك كانت بعض مظاهر التجارة بالبشر بين شرق أفريقيا ومنطقة الخليج، فيما عُرف في تلك الفترة بتجارة الرقيق، التي حاربتها السلطات الاستعمارية البريطانية، كما أعلنت من موقعها في الهند والخليج، سنّ القوانين وتوقيع الاتفاقيات للقضاء عليها. وأوّل قانون صدر في بريطانيا في العام 1772، هو منح الحرية لأيّ عبد تطأ قدماه الجزر البريطانيّة، ثم جاء صدور قانون العام 1838 ليمنع حق تملّك الأرقاء في جميع المستعمرات البريطانية عبر البحار، ومنها منطقة الخليج، التي طبّقت فيها سلطات الحماية البريطانية شيئًا من ذلك القانون، عبر البند أو الشرط التاسع مما سُمي “معاهدة العمومية مع الأقوام العرب في خليج فارس سنة 1820″، إذ دوّنت فيه التالي: “إنَّ نهب الرقيق الرجال والنساء والأولاد في سواحل السودان أو غيره، وحملهم في المراكب، هو من النهب والغارات، فالعرب المصالحون لا يفعلون من ذلك شيئاً” [2].

لذا، شدّدت السلطات البريطانية في الخليج، عبر اتفاقية أخرى أُطلق عليها اسم “ترك معاملة الرقيق سنة 1847″، على إجراءات محاربة تجارة الرقيق. وقد وقّعتها مع مشايخ المناطق الخليجية التي تقع تحت سيطرتها أو حمايتها، ونصّت على “توقيف حمل ونقل العبيد من سواحل برّ أفريقيا وغيرها” [3].

وبناءً عليه، وقّع كلّ شيخ عليها من خلال هذا النصّ المنقول بأسلوب ركيك إلى اللغة العربية: “أنا يا (فلان)، أتعهّد وألتزم على نفسي أن أمنع جميع أخشابي وأخشاب رعاياي والمتعلقين عليّ من حمل ونقل العبيد من سواحل بر الأفريقية وغيرها، ابتداءً من غرة شهر محرم سنة 1264 هـ، مطابق عاشر دزمبر 1847” [4].

واستناداً إلى هذه الاتفاقية، قامت سفن الأسطول البريطاني بمطاردة أية عملية استيراد للرقيق ومتاجرة بهم، وبخاصة من القارة الأفريقية، وفرضت أقسى العقوبات على من يقوم بها، وربما النفي من بلدانهم إلى خارج المنطقة، إلا أنها لم تنجح كلياً في تحقيق هدف منع تجارة الرقيق من السواحل الأفريقية، وتحديداً عند جزيرة مصيرة، و”زنجبار”، و”كلوة”، و “جوبا”، و”براوة”، حتى بعد وصول بوارجها الحربية الكبيرة، مثل “دجلة”، و”كوين”، و”فولك لاند”، وغيرها إلى تلك المناطق [5].

ولأنّ الشّيء بالشّيء يُذكر، فقد كانت أهمّ أنواع تجارة الشركات البريطانية عبر البحار، تلك التي ارتبطت بحكايات مروعة جداً لتجارة العبيد بين القارة السوداء (أفريقيا) والأراضي الجديدة في أميركا الشمالية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد.

وثائق العبيد في الخليج

هذه المقدّمة التاريخية البسيطة كان لا بدَّ منها لعرض عدة وثائق في هذا العدد بشأن قضية العبيد، التي كانت تسيء إلى الإنسان الخليجي وحضارته الإسلامية، قبل أن تقضّ مضجع السلطات الإنجليزية، التي استطاعت، بحجة محاربة هذه التجارة، أن تتوغّل أكثر من اللازم في إدارة شؤون مشيخات الخليج، وأن تُحكم قبضتها الحديدية عليها.

وبحسب مجريات تاريخ تجارة العبيد، كان من المفترض أن تتوقّف هذه التجارة البشعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بناءً على المعاهدات والاتفاقيات التي وقّعها المشايخ مع سلطات الحماية البريطانية في المنطقة، كما ذكرنا، إلا أنَّ الإحصائيات الإنجليزية التي أمكن تتبّعها بواسطة بعض ضباط البحرية الإنجليز بين العامين 1860 و1861 في الخليج، قدّرت عدد الرقيق المستورد من شرق أفريقيا وحدها إلى سواحل الخليج الشرقية والغربية بين 4000 و10,000 عبد [6].

وبما أنَّ ملفّ العبيد في الخليج يحتاج إلى دراسة مطوّلة، ربما تتيح “أرشيفو” إجراءها مستقبلاً، فسوف اقتصر هنا في باب حكاية وثيقة على عرض عدة نماذج ناطقة بأحوال بعض العبيد في الخليج، ومنهم نساء، وذلك من واقع الوثائق البريطانية المثقلة بمثل هذه الحكايات.

أوّلها، وثيقة عن امرأة تُدعى مريامي، أو مريم بنت جمعة السواحلي. ويبدو من الاسم واللقب أنها من سواحل شرق أفريقيا. وعمرها، تخميناً، كما تذكر الوثيقة، 30 سنة. أما تاريخ الوثيقة، فهو 28 ذو الحجة من العام 1349 هـ (16-5-1931م). تذكر فيها هذه المرأة أنَّ والدتها، وتسمى (صلوحة)، اشتراها أحد مواطني رأس الخيمة وزوجها من خادمه المدعو جمعة، فولدت له هذه الفتاة. وعندما بلغت مريامي من العمر 17 سنة، راقت لسيّدها، فعاشرها وحملت منه، وأنجبت ولداً أسمته جمعة أيضاً، كان عمره عند كتابة الوثيقة 7 سنين.

وعندما توفيت والدتها وسيّدها، انتقلت ملكيّتها، كما هو إرث المتوفى، إلى أولاده، فصارت من نصيب أحد الأولاد، ويدعى علي بن سعيد، الذي كان يعاملها بقسوة شديدة كما تذكر. وعندما أراد بيع ولدها جمعة دونها، هربت منه، ولجأت إلى بيت “الباليوز” في المعتمدية في رأس الخيمة، ملتمسةً من (الدولة الإنجليزية)، كما سمتها، بأن تمُنّ عليها وعلى ولدها بأوراق الحريّة والفكاك من إهانات ابن سيّدها السابق.

أما الوثيقة الثانية، باللغة الإنجليزيّة، فهي لعبد كان عمره 28 سنةً عند تدوينها، ويُدعى (Charshan bin Siyaook). يذكر فيها أنّ سمسار عبيد اسمه عبدالكريم، اختطفه في سن الثالثة عشرة، فأُحضر إلى مسقط، وجرى بيعه لأحدهم في سوق النخاسة، ومكث عند هذا الشخص سنة كاملة، ثم جرى بيعه لرجل آخر في الشارقة، مكث عنده لمدة خمس سنوات. وهناك ذاق ألوان العذاب، أبرزها الضرب المبرح والجلد بالعصا، فقرّر الهرب مع أربعة عبيد آخرين، ونجحوا في ذلك، ووصلوا بحراً إلى ميناء “باسيدو” على الساحل الفارسي. وجرت حمايتهم بواسطة الجنود الإنجليز في ذلك الميناء، وأرسلوهم إلى البحرين التي كانت تُعتبر، بالنسبة إليهم، أكثر أمناً. وهناك طلبوا الحصول على شهادة العتق من الرق والانتقال إلى حياة الحرية. وتتضمّن الوثيقة توقيع المعتمد البريطاني في البحرين بتاريخ 1931م، وبصمة العبد.

وبما أنَّ الوثيقة ذكرت البحرين، نُشير هنا إلى وجود سوق خاص لبيع العبيد وشرائهم فيها منذ القرن التاسع عشر، كما بقية الأسواق في منطقة الخليج، وعالم المستعمرات الإنجليزية، وبقية المستعمرات الأوروبية في العالم. وكان من مظاهر الثراء آنذاك، وجود العبيد في العائلة الميسورة في البحرين، كما هو الحال عند الأسرة الحاكمة.

ويذكر بعض المُعمّرين، أن هذا السوق كان يقع في الحيز نفسه الذي يشغله حالياً شارع الشيخ عبدالله، إلا أنه، وضمن اتفاقية منع تجارة الرقيق التي وقعتها السلطات البريطانية في الخليج مع الشيخ محمد بن خليفة في العام 1847م، أُغلق رسمياً، أو في العلن فقط، ولكن تجارة الرقيق بقيت، سراً أو بشكل غير مباشر، متواصلة في البلاد.

لذا، كانت السلطات البريطانية في الخليج حتى العام 1900، تفرض غرامات على الشيوخ ورعاياهم بسبب المخالفات المتعلّقة بتجارة الرقيق، ولكن شيوخ البحرين استُثنوا منها، بناء على توصية (جاسكن) مساعد المعتمد السياسي في البحرين، والمنشئ معه السيد عباس بن فضل، والعقيد (كيمبل) المقيم السياسي للخليج في “بوشهر”، وكان يسمح للشيخ بأن يحتفظ بالغرامة التي يدفعها المخالفون من أهل البحرين، شريطة ألا يُردّ المال إلى الشخص مرتكب المخالفة! [7].

لا يجوز تملّك العبيد

ضمن سياق الدليل التاريخي الموثق لملفّ العبيد في الخليج، نستعرض أيضاً وثيقتين تخصّان البحرين تحديداً، على الرغم من أنهما ذات علاقة بالوضع العام للعبيد في الخليج ككلّ. وللمصادفة، فقد صدرتا باللغتين الإنجليزية والعربية.

الوثيقة الأولى، عبارة عن إعلان خاصّ بالعبيد في البحرين، صدر في أغسطس/ آب للعام 1937، يقول:

إعلان
العدد 40/ 1356

الرقيق

نذكر العموم أنه لا يجوز تملك العبيد في البحرين.

وأيّ شخص يجلب، أو يصدّر، أو يشتري، أو يبيع، أو يتملّك أي شخص بصفة عبد، مستحقًّا عقاب الحبس والغرامة، ليعلم.

بأمر حمد بن عيسى آل خليفة
حاكم البحرين
حرر في 4 جمادى الثانية 1356
الموافق 11 أغسطس 1937″.

أما الوثيقة الثانية المميّزة بصورة العلم البريطاني، فهي عبارة عن ورقة أو شهادة عتق إنجليزية لأحد العرب، صدرت في نوفمبر/ تشرين الثاني للعام 1945، جاء فيها ما يلي:

نمرة 57 للعام 1945

الحكومة البريطانية (أما في النص العربي، فجاءت بلفظ الدولة البهية القيصرية الإنجليزية).

ورقة عتق (شهادة عتق)

ليكن معلوماً لكافة من يراه، بأن حامل هذه الورقة، ربيع بن سعيد، وعمره حوالي 30 سنة، قد أُعتق (صار حراً)، ولهذا، لا أحد له الحق التدخل في حريته.

حرر في البحرين 29 نوفمبر 1945
توقيع ورتبة المندوب البريطاني”.

وُيلاحظ على شهادة العتق البريطانية، أنها عبارة عن استمارة رسمية معدة لعتق أيّ رقيق في أية منطقة من مناطق الخليج الواقعة تحت سلطة الحماية البريطانية، وهذا ما يُفسّر سبب إرسال العبد الهارب المذكور أعلاه من الشارقة إلى البحرين في العام 1931م.

كما يلاحظ أنّ الفرق بين الإعلان الصّادر عن حاكم البحرين للعام 1937، بمعاقبة من يمارس تجارة الرقيق واستعباد الناس الأحرار، وصدور شهادة العتق المذكورة العام 1945، نحو تسع سنوات. وخلال تلك الفترة، يبدو أنَّ عملية العبودية بين الشراء والتملّك والبيع لم تتوقّف، وإلا لما صدرت شهادة بعتق العبيد، ما يعني وجود عبيد حتى تلك السنوات، وإن كانت هناك وجهة نظر في تفسير معنى العبودية بين التجارة ببني البشر والخدمة بأجر. ومثل هذا العتق أيضاً يفسّر وجود بعض هؤلاء العبيد في المجتمع البحرين واختلاطهم به بعد تحررهم من رقّ العبودية، حتى صاروا ضمن نسيج السكان لاحقاً.

وأخيراً، ضمن عملية تحرير العبيد في الخليج، يذكر (لوريمر) أنّ السلطات البريطانية في الخليج، وحتى العام 1889م، وبعد أن تدفع الرسوم المتصلة بتحرير الرقيق في البحرين والخليج من ميزانية المستعمرة البريطانية في الهند، كانت تنقل هؤلاء العبيد المحررين إلى (بومباي) إذا أظهروا عدم رغبتهم في البقاء في الخليج [8].

وللحكاية تتمة..

____________________

المراجع 
[1]  لوريمر، ج. ج.، دليل الخليج، القسم التاريخي (قطر، د. ت.)، ج 6، ص 3471 – 3472.
[2] Aitchison, C. U., (Editor), A collection of Treaties, engagements and Sanads Relating to India and Neighboring countries, (Calcutta, 1929).
[3] سلدانها، ج. ج.، تاريخ البحرين السياسي من العام 1753 – 1904 التأسيس والازدهار، ترجمة: فتوح عبدالمحسن الخترش، (الكويت، 1992)، ص 36. وقد وقّعها الشيخ محمد بن خليفة كحاكم للبحرين حينها.
[4] J.B. kelly, Britain and the Persian Gulf, (London 1968), p.589
[5] لوريمر، ج. ج.، دليل الخليج، القسم التاريخي، ج 6، ص  3468 – 3469.
[6] لوريمر، ج. ج.، دليل الخليج، القسم التاريخي، ج 6، ص 3470.
[7] لوريمر، ج. ج.، دليل الخليج، القسم التاريخي، ج 6، ص 3466 – 3467.
[8] لوريمر، ج. ج.، دليل الخليج، القسم التاريخي، ج 6، ص 3464 – 3465.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF:  عشّ النمل ملفّ العبيد في الخليج والبحرين

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 4 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>