جدّة.. قطب الرّحى

جدّة.. قطب الرّحى

*د.محمد السلمان

“الميناء يُسمّى جدّة، وهو قطب الرحى.
كلّ البحر الأحمر به مزدهر أكثر”

الشّاعر البرتغالي لويس كامويش

تنبع أهميَّة البحر الأحمر منذ أقدم العصور من موقعه المتوسّط بين ثلاث قارات، وهو بذلك كان شريانًا حيويًا للمواصلات والتبادل التجاريّ والحضاريّ الثقافيّ، ومعبرًا للتأثيرات الدينيَّة بينها. كما كان هذا الموقع السَّبب في ازدهار الدول والممالك الواقعة على سواحله، بسيطرتها على سُبل التجارة التي تمرّ به ذهابًا وإيابًا، وبخاصة إبّان فترة الدّول الإسلاميَّة الَّتي سيطرت على السّاحلين العربيّ والأفريقيّ.

أضف إلى ذلك، أنَّ البحر الأحمر يعدّ الذراع الأيسر للمحيط الهندي، الّذي يصل البشر والتجارة فيما بين قارتي آسيا وأفريقيا بأوروبا، ضمن شبكة التجارة الدولية البحرية بين الشرق والغرب خلال الفترة التي أطلق عليها العصور الوسطى والحديثة، أو ما قبل الكشوف الجغرافيَّة الأوروبيَّة وبعدها.

وبسبب موقع البحر الأحمر وتلك المميّزات الجغرافية – الاستراتيجية، جاء إقبال الدول الأوروبية على السَّيطرة على هذا البحر في مطلع العصور الحديثة، وخصوصًا بعد نجاح الكشوف الجغرافية البرتغالية في الوصول إلى رأس الرجاء الصالح على يد المستكشف (1) (فاسكو دا جاما- Vasco Da Gama)، وبدء تحقيق بعض الأهداف الاقتصادية من وراء هذا الكشف المهمّ بالنسبة إلى البرتغاليين تحديدًا، في محاولة السيطرة على طرق التجارة الدولية في تلك العصور واحتكارها، وما صاحبها من تنافس شديد ودموي بين القوى الإسلامية والبرتغالية، ثم بين البرتغاليين والقوى الأوروبية الأخرى فيما بعد.

وبما أنَّ من أهمّ أهداف الكشوف الجغرافية البرتغالية التي اتخذت صفة التوسّع الاستعماري الاحتكاري للتجارة الدولية والسيطرة على طرقها، هو السيطرة على طرق التجارة الدولية واحتكار تجارتها، فقد جاءت ضمن هذا السياق مشاريع البرتغاليين العديدة في السيطرة على طريق البحر الأحمر التجاري اقتصاديًا وسياسيًا، بل وحتى دينيًا، لوجود الحبشة المسيحية على سواحله الجنوبية الغربية، وضرب أيَّة قوة إسلامية أو غير إسلاميّة، ومنعها من السيطرة المطلقة على هذا البحر بموقعه الإستراتيجي المهمّ بالنسبة إلى الإمبراطورية البرتغالية في المشرق.

لذا، ظلَّ ذلك يشكّل جزءًا مهمًا وهدفًا حيويًا في سياسة البرتغاليين التوسّعية في البحار الشّرقية عمومًا منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي. وهذا ما أشار إليه قطب الدين النهروالي حين حذَّر من سيطرة البرتغاليين بعسكريّتهم وسلاحهم الجديد (المدفعية البحرية) على عدن والبحر الأحمر، وأشار إلى أنّ ذلك سيمنع “سفائن الهند من الوصول إلى بنادر الحرمين الشريفين”، ويقصد بذلك ميناء جدّة بالذات.

ولهذا السَّبب، ركَّز البرتغاليون استراتيجيتهم الهجوميَّة على البحر الأحمر ضدّ مينائي عدن وجدة بالذات، لأنهما أهمّ زوايا المثلث الذهبي الاقتصادي الذي يربط شمال البحر الأحمر بجنوبه، وينتهي عند قاعدة المثلث الأخيرة، وهي السويس.

توجد ضمن ملايين الوثائق في الأرشيف البرتغالي الرئيس في العاصمة البرتغالية لشبونة، مجموعة تسمى (ساو لورينسو- São Lourenço)، وهي جزء من مجموعة (وثائق ما وراء البحار البرتغالية)، التي تصدر عن مركز الدراسات التاريخية لما وراء البحار. قام بطباعة هذه الوثائق معهد البحوث العلميَّة الاستوائيَّة، بينما تمَّ تحقيقها وتحريرها وتنسيقها للطَّبع على يد الباحثة المتخصّصة في هذا النوع من الوثائق (ماريا دي لوردس ليلاندي)، وصدرت في العام 1983 في لشبونة.

ومن هذه الوثائق التي نتناولها في هذه الحكاية، مجموعة رسائل متبادلة بين المدعو خواجة شمس الدين الغيلاني أو (الكَيلاني)، وهو تاجر مسلم معروف في غرب الهند في خلال فترة السيطرة البرتغالية في النصف الأول من القرن السادس عشر، ونائب الملك البرتغالي في الهند آنذاك، المدعو (جواو دي كاسترو -D. Joao de Castro) (2).

تولّى الخواجة شمس الدين الكَيلاني منصب مدير شؤون صادق خان حاكم منطقة (Belgaum) الهندية في مملكة بيجابور الإسلامية (3)، وكان رجلًا غنيًا وذا قوة ومنعة في الهند، ولكنَّه كان على خلاف مع صاحب مملكة عادل شاه الإسلاميَّة آنذاك (إبراهيم عادل شاه)(4)، ثم أصبح شمس الدين مسؤولًا عن خزانة مملكة تطلق عليها الوثيقة البرتغالية اسم “أسيد”. وبعد انهيارها، بقيت تلك الأموال في يد خواجه شمس الدين في كنانور، إلا أنَّ حاكم عام الهند البرتغالي المدعو (مارتيم أفونسو دي سوزا Martim Afonso de Sousa) (1542-1545)(5)، حاول أكثر من مرة، بالتَّهديد، أن يجعله يتبرع ببعض ذاك المال للبرتغاليين.

كما أنَّ شمس الدين كان صديقًا حميمًا للقائد البرتغالي (روي كونزالوس كامينا -Ruy Gonçalves Caminha)، مستشار مجلس مدينة “كَوا”، عاصمة الإمبراطورية البرتغالية في الشرق (6).

تتناول الرسائل علاقة هذا التاجر المسلم بالبرتغاليين في الفترة ما بين 1546-1548 على وجه الخصوص، وهي تعقّب الفترة المضطربة في العلاقة بين العثمانيين والبرتغاليين في المحيط الهندي والبحر الأحمر، وخصوصًا بعد نجاح حملة سليمان باشا الخادم في الوصول إلى “ديو” في غرب الساحل الهندي والتصدي للبرتغاليين هناك، رغم فشلها في تحقيق إنجاز مهمّ ضد البرتغاليين (7)، وما تبع ذلك من توجّس البرتغاليين الدائم وترقّبهم لوصول حملات عثمانية أخرى، انطلاقًا من موانئ البحر الأحمر، وبالذات من جدة، باعتبارها القاعدة الحربية البحرية الثانية للعثمانيين في ذاك البحر بعد السويس.

         الوثيقة الأولى:

الوثيقة الأولى هي رسالة بعث بها الخواجة شمس الدين الكَيلاني من ميناء “كنانور” غرب الهند، وكان يقيم فيه ويزاول عمله هناك كتاجر مسلم تحت سمع البرتغاليين وبصرهم، وبالتعاون معهم، وبتسهيلات منهم أيضًا. وقد أرّخت تلك الرسالة في 23 مايو 1546، وهي مرسلة إلى نائب الملك البرتغالي في “كوا” آنذاك وهو الدوم (8) (جواو دي كاسترو- D. João de Castro).

تقول الرسالة في بعض أجزائها على لسان الخواجة شمس الدين: “وصلت سفينة كانت مرسلة إلى قشم (9) التي كانت فيها ثورة آنذاك، وهناك جاء رجل من طرف أخي عبد الرقيب (عبد رقيب)، وقد علمت منه أنه في تاريخ 21 مايو لم يصل أحد لتولي أمر منطقة قشم، نظرًا إلى قيام ثورة لأحد المتمردين في أراضي (شيل) (10) المضطربة. كما أرسل إليَّ أخي عبد الرقيب الذي كان في جدة رسالة عن نية القائد البحري التركي (سنان جودي- SenãoJude) (11) في جدة بتجهيز عشرة سفن حربية، لإرسالها إلى الهند (لمحاربة البرتغاليين)، إلا أنَّ الموت عاجله بسبب انتشار الأمراض في المنطقة بعد مكوثه في البحر الأحمر لمدة ثلاثة أشهر، فتفرَّق عنه جنوده، وبقي عدد قليل منهم في السويس. وهذه الأخبار مؤكّدة، ولا يوجد شيء آخر يقال. أما بالنسبة إلى الأتراك، فليس لدينا أخبار عنهم حاليًا، سوى تلك التي جاءت بها قافلة الحج من مصر في هذا الموسم. وهذه هي أخبار المضيق – باب المندب – ولا يوجد على الأرض شيء جديد، وأنا تحت أمر سعادتكم فيما لو تودّون مني فعل أيّ شيء آخر، فأنا مستعدّ له تمامًا” (12).

        الوثيقة الثانية:

ومن مجموعة تلك الوثائق كذلك، هذه الرسالة التي أرسلها أيضًا المدعو (مانويل دي فاسكونسيلوس) من “كنانور” إلى (جواو دي كاسترو) في 18 أغسطس من العام 1546، ويقول في الجزء الأوَّل منها: “في 17 أغسطس، وصل إلى كنانور (محمد دليم) من معارف خواجة شمس الدين، وقد وصل من جدة ومعه أخبار قد تسلَّمها عبر رسائل من شقيق شمس الدين الذي يعيش الآن في جدة، وهذه الأخبار تقول إنه في السنة الماضية، مات سنان جودي الذي انضمّ إلى قائد القوات البحرية التركية” (13). هذه الرسالة أساس معلوماتها مقتبس من رسالة خواجة شمس الدين التي أرسلها إلى (جواو دي كاسترو) بتاريخ 17 أغسطس 1546، وتتحدَّث عن بعض أخبار مضيق باب المندب، وقد اطّلع عليها بالطبع (مانويل) من باب تدرج السلّم الإداري البرتغالي في إيصال الأخبار التي تهمّ البرتغاليين، ولها سرية عسكرية وسياسية، للمناصب العليا، كي تتّخذ القرار المناسب بشأنها، ذلك أنَّ شمس الدين يذكر جدة أيضًا في رسالته تلك التي أرسلها إلى كاسترو، موضحًا أنَّ تلك الأخبار المؤكّدة جاء بها المدعو محمد دليم، وهي ضمن مجموعة الوثائق محطّ البحث نفسها (14)، ويذكر فيها أنَّ هناك رجلًا يهوديًا كان يعمل لصالح الأسطول (15) قُتل في منطقة قشن اليمنية (16).

____________________

المراجع:
1-               قطب الدين النهروالي، البرق اليماني في الفتح العثماني، الرياض، 1967، ص 232.
2-               انظر نصّ الرسالة.
3-               انظر:
ANTT, Corpo Chronologico (cc), 1-79,134.
4-               سلطنة العادل شاهات في بيجابور: سلطنة إسلاميَّة نشأت في الدكن جنوب الهند بعد سقوط دولة البهمانيين. حكمت هذه السّلطنة الإسلامية سلالة متتالية من السلاطين بين أعوام 1490-1686م، إلى أن قام السلطان المغولي أورنكزيب بغزو الدكن، وقضى على دولة العادلشاهات، ثم ضمَّ أراضيهم إلى مملكة المغول الهندية. انظر: عبد المنعم النمر، تاريخ الإسلام في الهند، ط 3، القاهرة، 1990.
5-               انظر:
A-             Salman, M. H., ‘Aspects of Portuguese Rule in the Arabian Gulf, 1521–1622’, PhD thesis, unpublished PhD thesis, University of Hull, 2005.
6-               انظر:
Colecção Ultramarina Portuguesa– VIII, São Lourenço, ed. Mariade Lourdes Lalande, Instituto De Investigação científica Tropical, (Lisboa, 1983), p. 314.
7-               انظر:
See Ross, E. D.,” The Portuguese in India and Arabia, 1517-38″, JRAS, January, 1922 (London).
8-               الدوم: لقب مشتقّ من الكلمة اللاتينية ((Dominus، وهو لقب تشريفيّ كان يطلق في البرتغال على طبقة الفرسان المميّزين، ويقوم مقام لقب السيد في المصطلحات التشريفية والتقديرية المستخدمة في الغرب اليوم. وقد أُطلق هذا اللقب أيضًا على طبقة النبلاء البرتغاليين الَّذين يعيّنون في منصب نائب ملك البرتغال في الهند في تلك الفترة. وكان الدوم آنذاك – كما تذكر الرسالة – هو المدعو جواو دي كاسترو، وهو الحاكم الثالث عشر في سلسلة حكام الهند البرتغالية، وعيّن بين أعوام 1545- 1546 في منصب نائب الملك البرتغالي في الهند، وهذا المنصب في السلم الوظيفي السياسي في المستعمرات البرتغالية الشرقية كان أرفع منزلة في السلطات السياسية وأقوى تأثيرًا في الأحداث من منصب حاكم عام الهند. وكان كاسترو من أهم نواب الملك في الهند تنظيمًا وسياسةً في تلك الفترة الحرجة في المحيط الهندي، وبالذات مع ظهور العثمانيين على مسرح الأحداث في المياه الشرقية لمقارعة البرتغاليين.
  1. de Albuquerque, Dicionário de História dos Descobrimentos Portugueses (Lisboa, 1994), Vol. I, p. 359; A- Salman, M. H., ‘Aspects of Portuguese Rule in the Arabian Gulf, 1521–1622’, chapter 4.
9-      قد يتبادر إلى الذهن بأنَّ المقصود باسم (Quayxem) هو جزيرة قشم (الجسم أو الطويلة كما يطلق عليها أهل الخليج)، وتقع إلى الشمال الغربي من جزيرة هرمز في مدخل الخليج العربي، بينما المقصود هنا هو مدينة وميناء “قشن” في اليمن، حيث كتبت قشن اليمنية في الوثيقة كما تكتب قشم الخليجية، لذا وجب التنويه. ومدينة (قشن) التاريخية تقع بين ميناء سيحوت ورأس فرتك على ساحل بحر العرب، وكانت عاصمة السلطنة المهرية التي قامت في شرق اليمن قديمًا. وتقع المهرة في الجزء الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية بين خطي العرض (15-18)، وتلامس الحدود الشرقية لليمن مع سلطنة عمان. أما من ناحية الغرب، فتحدّها محافظة حضرموت، ومن الناحية الشمالية الربع الخالي، وجنوبًا البحر العربي. وقد وصلت حدود سلطنة المهرة في بعض مراحلها التاريخية إلى (الشحر) غربًا و(حاسك).
10-     شيل ((Xael: ليس هناك ميناء يمنيّ في تلك الفترة يُسمى شيل، ولكنَّ البرتغاليين جرت عادتهم على تحريف أسماء الأشخاص والمناطق العربيَّة والإسلاميّة، لعدم معرفتهم بأساسيات اللغة العربية وصعوبة لفظ أسماء الأماكن الجغرافية كما تكتب وتنطق. والمقصود من هذا اللفظ هنا، منطقة الشحر (بالكسر) اليمنيَّة. وكما يوضح الهامش في أسفل الصّفحة الأولى من الرسالة البرتغاليَّة بأنَّ هذا الميناء، وهو “الشّحر”، يقع بين عدن وفرتك، وهو ميناء باسم المملكة التي كانت تضمّه على الساحل العربي للبحر الأحمر. (المترجم). ومدينة الشحر اليوم على ساحل البحر العربي إلى الشرق، وتبعد عن مدينة المكلا بنحو 62 كم. والشحر قديمًا كان اسمًا يُطلق على ساحل حضرموت عمومًا. وكانت الشحر في تلك الفترة التي ذكرت في الوثيقة تحت سيطرة السلطان الكثيري بدر أبو طويرق، وظلَّ الكثيرون فيها حتى القرن الثاني عشر الهجري، ثم صارت تابعة للسلطنة القعيطية في القرن العشرين وحتى الاستقلال.
انظر: اليماني، عبد الواسع بن يحيى الواسعي، تاريخ اليمن (صنعاء، د.ن.).
11-         لم أعثر على اسم هذا القائد البحريّ التركيّ ضمن الأسطول العثماني في البحر الأحمر، وخصوصًا أنه لُقِّب في الوثيقة البرتغاليَّة بسنان أو سيماو جودي. ومن المعروف أنّ هناك قائدًا في البحرية العسكرية العثمانية يُدعى سنان باشا الخادم.
12-         انظر:
Colecção Ultramarina Portuguesa– VIII, São Lourenço São Lourenço, pp. 340.
13-         انظر:
Ibid., pp. 352-53. (fls. 162-163 v.).
14-         انظر:
Ibid., pp. 354-55.
15-         لم توضح الرسالة أيَّ أسطول، وإذا ما كان القائد نفسه الَّذي ذُكر في الوثيقة الأولى أم غيره.
16-         انظر:
Colecção Ultramarina Portuguesa– VIII, São Lourenço São Lourenço, p. 354.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: جدّة.. قطب الرّحى

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  7 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>