اللورد الإنجليزي جورج ناثانيل كُرزون والسّؤال الفارسيّ

*د. محمد السلمان

بعد سنتين من دفنه في إحدى المقابر الإنجليزية في العام 1925م، وبعد حوالى 27 عامًا من وجوده في الحياة السياسيّة كأحد رجال الحكم في الإمبراطوريَّة البريطانيَّة لما وراء البحار، كُتِبت على قبره العبارة التالية: “أدّى التواضع إلى أن يجعل منه رجلاً”.

فمن هو هذا الرجل الإنجليزي؟ وهل كان كذلك فعلاً؟ وما علاقة هذه الشخصية بوثيقة هذا العدد؟

الرجل الإنجليزي هو اللورد جورج ناثانيل كُرزون (George Nathaniel Curzon) (1859 – 1925م)، الذي عُرف بلقب “لورد كُرزون من كلدستون” ما بين العام 1898 والعام 1911م، وحمل لقب “إيرل كُرزون من كدلستون” في الفترة الممتدة بين العام 1911 والعام 1921م.

لسنا هنا في صدد الحديث عن شخصية هذا اللورد، فقد كُتب عنها الكثير بالتّفصيل، وخصوصاً ضمن كتاب “حياة اللورد كُرزون”، الذي كتبه إيرل رونالدشا في العام 1928م، مستعرضاً سيرة حياته وسياسته، وخصوصاً خلال السنوات السبع التي قضاها في الهند نائباً عن الملك في إدارة المستعمرات، بما فيها الخليج والجنوب العربي، مع بعض النقد الذي احتواه الكتاب لكُرزون، باعتبار أن سلوكياته متفاخرة تغلفها الغطرسة، والتعصّب، وحدَّة الرأي، والاعتزاز بالنفس كثيراً. وقد صدر الكتاب العربي بترجمة محمد عدنان السيد، ومراجعة وتحرير د. أحمد إيبش، عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، دار الكتب الوطنية في العام 2013م.

كما كُتب عنه مؤلف آخر هو “كُرزون: رجل الدولة الإمبراطوري”، لديفيد جلميور في العام 2006م، دافع فيه عن هذه الشخصية الإنجليزية الغريبة والعجيبة. وعلى الرغم مما ذكره في كتابه بأنَّ كُرزون كان رجلاً يفتقد إلى السلوك الجيد، وكان مزعجاً حقاً، لكنه في الوقت نفسه جدَّد آثار الهند العظيمة!

إننا نشير هنا فقط بدايةً إلى سياسة كُرزون في المشرق العربي الإسلامي الَّذي وقع تحت السيطرة الاستعمارية المباشرة، كالهند ومناطق أخرى، أو غير المباشرة بعنوان الحماية من أعداء بريطانيا، وهو ما طُبِّق في الخليج والجنوب العربي تحديداً. تلك السياسة بدأت مع تولّيه منصب نائب الملك البريطاني في الهند حاكماً للهند الإنجليزية في الفترة ما بين 1898-1905م، واضعاً نصب عينيه مصلحة بريطانيا العليا فقط، وتثبيت دعائم إمبراطوريتها التي كانت الشمس لا تغيب عنها، كما يُقال، والَّتي شدَّد خلالها كُرزون القبضة العسكرية والإدارية البريطانية على مستعمرات بريطانيا ما وراء البحار في المحيط الهندي والخليج. وقد أفرزت في منطقتنا الخليجية نظام الوكلاء الإنجليز من العسكريين الَّذين حكموا المنطقة بشكل مباشر، وإن كان نيابةً عن المقيم البريطاني في الخليج.

اتَّضحت سياسة هؤلاء الوكلاء أو المعتمدين الإنجليز، ومعهم بعض المستشارين كذلك، بعد العام 1900م، بشكل واضح في البحرين، التي كانت قد عرفت قبل حوالى قرن نظام الوكلاء المحليين الَّذين تعيّنهم سلطات الهند البريطانية الاستعمارية منذ العام 1816م، وكذلك في الكويت وعُمان وساحل الإمارات، حيث عيّنت بريطانيا أول معتمد سياسي إنجليزيّ لها في البحرين في العام 1901م، وهو الرائد جاسكن، وعيّنت في الكويت العقيد نوكس في العام 1904م.

توجّه كُرزون إلى هذا التنظيم بعد أن قام خلال فترة ولايته للهند بزيارته المشهورة لمنطقة الخليج ومشايخها، بموافقة الحكومة المركزية في لندن في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1903م، والتي كان من أهم أهدافها: تفقّد المؤسسات الهندية البريطانية في الخليج، ولقاء شيوخ الإمارات الصغيرة آنذاك في الساحل المتصالح (الإمارات الحالية اليوم)، والبحرين، والكويت، ومسقط، التي كبَّلتها بريطانيا بمعاهدات مقيدة سابقة، إضافةً إلى تثبيت النفوذ البريطاني في الخليج وبسطه سياسياً وتجارياً، وإن كان بالقوة العسكرية.

وقد استقلَّ السفينة الملكية المعروفة بـ “إس. إس. هاردينـﮔ” أو “أرﮔونوت”، في تلك الرحلة الخليجية، من ميناء “كراتشي”، ومعه زوجته الثانية “ﮔراس إلفينا”، بمرافقة أسطول ضخم من السفن الحربية البريطانية.

قام كُرزون بثلاث رحلات طويلة خلال حياته، أنتجت ثلاثة كُتب معروفة هي “روسيا في آسيا الوسطى”، و”فارس والسؤال الفارسي”، و”مشاكل الشرق الأقصى”. وما نرمي إليه في وثيقة العدد هو القسم الخاص بالبحرين في أهمّ كتاب تركه كُرزون، وصدر خلال حياته في كلّ من لندن ونيويورك العام 1892م، وهو “فارس والسؤال الفارسي” أو “بلاد فارس والشأن الفارسي”.

يتكوّن الكتاب من مجلَّدين ضخمين، الأول يتألف من 639 صفحة، والآخر من 653 صفحة. وهنا، سوف نستطلع ما ورد في المجلد الثاني في الفصل 27، الذي عُنون بالخليج، حول جزر البحرين التي زارها كُرزون لاحقاً في مطلع القرن العشرين في العام 1903م، ضمن زيارته التاريخية لمنطقة الخليج وإماراتها، وما أسفر عنها من قرارات وترتيبات إدارية مهمة جداً.

في هذا الفصل، يقول كُرزون عن البحرين في هذه الوثيقة: “إنَّ الإدارة العثمانية في القطيف، ممثلة بمتصرف الأحساء التركي، كانت تحاول دائماً مدَّ سيطرتها على جزر البحرين، باعتبار أن هذه الجزر بقيت مستقلَّة عن الأحساء منذ ما يقارب 100 عام حتى تلك السنوات” (1).

وعند ذكره جزر البحرين وشهرتها بأنها تتمتَّع بأفضل مصائد اللؤلؤ في العالم، مقارنة بلؤلؤ جزيرة سيلان، يضيف في هامش الحديث عنها معلومات تاريخية عن حضارتي دلمون وتايلوس، وعلاقتهما ببلاد الرافدين، وسبب تسميتها بالبحرين، وأنَّ أكبر جزرها هي البحرين والثانية المحرق.

كما يذكر أنه في نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، كانت هناك مدينتان مهمتان فقط في البحرين، هما المنامة والرفاع، والأخيرة تقع على هضبة تبعد 7 أميال إلى داخل الجزيرة. ثم يورد كُرزون معلومة عن وجود 360 مدينة وقرية في البحرين، نقلاً عن كارستن نيبور. ثم يُعرج على السيطرة البرتغالية على الخليج والبحرين، ذاكراً أن البرتغاليين سيطروا على ميناء البحرين، وكذلك الميناء المقابل لها على الضفة الشرقية للجزيرة العربية، وهو القطيف، بهدف السيطرة على تجارة اللؤلؤ في المنطقة.

ويقول إنَّ القلعة التي سُميت باسم البرتغاليين ما زالت موجودة وشاهدةً عليهم، كما يؤكّد وجود مشهد ذي المنارتين، كما يسميه، أي مسجد “الخميس”، وهو يُثبت الفترة الإسلامية التي عاشتها الجزر. ويشير إلى اكتشافات الأثري ثيدور بنت في البحرين في العام 1889م، ثم يورد معلومات ووصفاً لصيد اللؤلؤ ومصائده في البحرين ومواسم صيده، ويشير إلى أن صيد اللؤلؤ والضرائب التي تفرض عليه تشكِّل المورد الرئيس للشيخ الحاكم للجزيرة.

ويُضيف أنه في مصائد اللؤلؤ الغنية في مياه البحرين، يتواجد سنوياً حوالى 4500 مركب لصيد اللؤلؤ من جميع الأحجام، منها 2000 من ساحل إمارات عُمان الشمالي، و1500 من البحرين، و1000 من مناطق بين الكويت وشبه جزيرة قطر. ويحمل كل مركب على ظهره ما بين 5-14 رجلاً لمهنة الغوص. وفي المجموع العام، هناك حوالى 30 ألف إنسان من هذه المناطق العربيَّة يعملون في هذه السفن بمهنة الغوص. وهذه المهنة تواجه صعوبات جمة، أهمها مواجهة الموت في البحر عند الغوص لعدة أسباب. وقد تُوفّي 250 رجلاً في العام 1885م بسبب أخطار مهنة الغوص (2).

ويستمرّ كُرزون في الحديث، في صفحتين متتاليتين في هذا الفصل من كتابه، عن مهنة الغوص في البحرين، من حيث الصعوبات، وأنواع الغوص وأرباحه، ومقارنة لؤلؤ البحرين بمثيله في سيلان، وتفوّق البحريني عليه من حيث الحجم والاستدارة والنقاوة.

ويعرض إحصائية عن أرباح تصدير اللؤلؤ بين العامين 1888-1889م في أسواق البحرين والساحل العربي في غرب الخليج، بحوالى 430 ألف جنيه إسترليني، يعود ثلثاه إلى البحرين فقط، ما يدل على غناها مقارنة ببقية مناطق الخليج الأخرى (3).

كما يورد كُرزون في الصفحتين 457-458 من المجلَّد الثاني من كتابه، معلومات عن الغزوات والأطماع التي تعرَّضت لها جزر البحرين، سواء من قبل القبائل العربية في عمان وشبه الجزيرة العربية، أو الفرس على الساحل الشرقي من الخليج، أو الأتراك العثمانيين من موقعهم في العراق والأحساء.

ويؤكّد أنهم كانوا جميعًا يتطلَّعون إلى البحرين لاحتلالها، نظراً إلى موقعها الاستراتيجي في الخليج وثرواتها، من اللؤلؤ والزراعة والمياه العذبة، حتى نجحت بريطانيا في السيطرة على البحرين أخيراً، كما بقية إمارات الخليج، عبر اتفاقيات طويلة للحماية والعلاقات المتبادلة مع شيوخها، وخصوصاً بعد سيطرة العتوب على هذه الجزر في العام 1783م.

وبدأ توقيع بريطانيا على اتفاقيات السلم العامة في العام 1820م، واتفاقية منع تجارة الرقيق في العام 1847م، وصولاً إلى اتفاقية العام 1861م، والنقلة الأسرية للحكم التي تدخلت فيها بريطانيا مباشرة بين الأخوين محمد بن خليفة بن سلمان آل خليفة وعلي بن خليفة حتى العام 1867م.

ويتفاخر كُرزون في نهاية ما كتبه عن البحرين، بأنَّ خلاصة الحكمة السياسية الذي اتبعتها بريطانيا العظمى في الخليج، تمثّلت في أنموذج البحرين السياسي (4).

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

المراجع:
1 – انظر:
Curzon, George N., Persia and The Persia Question (London, 1892), Vol. II, p. 455.
2 – انظر:
Curzon, George N., Persia and The Persia Question, Vol. II, p. 456.
3 – انظر:
Curzon, George N., Persia and The Persia Question, Vol. II, p. 457.
4- انظر:
Curzon, George N., Persia and The Persia Question, Vol. II, p. 458- 459.
________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: اللورد الإنجليزي جورج ناثانيل كُرزون

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

* د. محمّد السّلمان: باحث بحريني متخصّص في التاريخ، أعدّ أطروحة دكتوراه في جامعة “هال” البريطانية حول المظاهر السياسية والاقتصادية للحكم البرتغالي في الخليج. صدرت له مجموعة من الكتب التاريخية والترجمات.

للتواصل عبر الإيميل: adoommoon@gmail.com

أرشيفو  11 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>