الأرشيف العثمانيّ يعيد قراءة التاريخ العربي في زمن السّلطنة

المؤرخ اللبناني الدكتور عبد الرحيم أبو حسين:

 الأرشيف العثمانيّ يعيد قراءة التاريخ العربي في زمن السّلطنة

زينب الطحان*

عند ضفاف البوسفور في إسطنبول، وفي قصر “جيراغان” الَّذي شيَّده السلطان عبد العزيز العثماني، كرَّمت الجمعية التاريخية للدراسات التركية البروفيسور عبد الرحيم أبو حسين، مدير مركز الفنون والإنسانيات وأستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية في بيروت. الجمعية التي تقوم بعد عملية تقييم طويلة على عدة مستويات، باختيار نخبة من الباحثين والمؤرخين في التاريخ التركي والعثماني، كان أبو حسين اللبناني الفلسطيني الوحيد الذي اختارته لينضمَّ إلى 34 مؤرخًا من كل أنحاء العالم، بعدما قدّم له الوزير عباءة شبيهة بعباءة السلطان سليم الأول.

يشهد للمؤرخ أبو حسين تعمّقه في أرشيف الإمبراطورية العثمانية، وكشفه العديد من المحطات الأساسية في تاريخها العريض في منطقتنا، في المشرق العربي، وتحديدًا في القرنين السادس والسابع عشر، ولكن هذا التخصّص لم يمنعه من الولوج أحيانًا إلى القرن التاسع عشر، وإلى حقبات مختلفة من قرون أخرى، لينشر العديد من الكتب التي أحدثت “خرقًا” مهمًا في أكثر من مسألة تاريخية بقيت لوقت طويل مغلقة ومجمعًا عليها.

تنوّع “الدفاتر” العثمانيّة

الأرشيف العثماني ليس كيانًا واحدًا متصلًا، يقول البروفيسور عبد الرحيم، والدولة التركية الحديثة تعتمد على هذا الأرشيف، وهو ينقسم وفق تصنيفات مختلفة، يتوزَّع بناء عليها على مختلف المناطق، فالأرشيف العقاري مثلًا، المتعلّق بالأملاك، موجود في الأناضول، وأرشيف الأوقاف موجود في أنقرة. أما الأرشيف الإداري والسياسي، فغالبيته في إسطنبول في “دفلة باش باكنليك أرشيفي”، أي أرشيف رئاسة الوزراء. ويضيف: “هذا هو الأرشيف الذي أستخدمه، وهو يحتوي أنواعًا مختلفة من الوثائق المهمة والنادرة”.

احتفاظ العثمانيين بكل ما كان يصدر من وثائق وعقود عن إداراتهم الرسمية لم يكن الهدف منه أن يصبح “تاريخًا ومادةً للبحوث”، بل إنهم كانوا يهدفون من خلاله إلى إدارة شؤون رعاياهم، وهو ما يعطي الأرشيف، في رأي أبو حسين، قيمة مضافة من الناحية التاريخية والعلمية، فعلى سبيل المثال، كان لديهم دفتر “الشكايات”، الذي خُصِّص للشكاوى القادمة من صوفيا في بلغاريا، بوخاريست في رومانيا، بغداد، القاهرة، طرابلس الغرب، ودمشق، وذلك من دون أي تصنيف… وتوجد دفاتر “الطابو” ودفاتر “إجمال” ودفاتر أخرى.

يقول أبو حسين: “دفاتر “الطابو”، مثلًا، تتضمن إحصاء للسكّان، من مثل جبل لبنان أو جنوب لبنان، حيث نجد قائمات مفصَّلة بأسماء القرى، ومحصولها الزراعي والصناعي، وعدد سكانها، وطوائفها، وعدد رجال الدين في كلّ طائفة، فيتمّ تحصيل معلومات غنية جدًا، اقتصادية واجتماعية وديموغرافية، تساعد المؤرخ اليوم في أن يتصوَّر طبيعة الحياة في تلك الحقبة ويكتب عنها”.

يشير أبو حسين أيضًا إلى ما يُسمّى “دفاتر المهمة”، وهي دفاتر الشؤون العامة، فإذا رفع أحد الأشخاص قضيّة في منطقة ما، فإنها تُرفع بدورها إلى كرسي الدولة في إسطنبول؛ أعلى سلطة في الدولة بعد السلطان، وهو الديوان الهمايوني. كما أنّ معظم هذه الوثائق صادرة عن الديوان الهمايوني، الذي يماثل مجلس الوزراء أو ديوان مظالم للدولة العليا بالاستئناف.

ويتابع شارحًا: “إذا عجز أحدهم عن حلِّ مشكلته، فإنه يرفعها إلى الديوان الهمايوني الذي كان يجتمع أربعة أيام في الأسبوع برئاسة السلطان. هذا التقليد بدأ في عهد السلطان سليمان. وبعد عقود، راح الصَّدر الأعظم، رئيس الوزراء، ينوب عن السلطان في رئاسة هذا المجلس، وإن حرص السلاطين أحيانًا على الحضور خلف شباك، فيشرفون ويشاهدون ويسمعون. معظم قرارات “الفرمانات” كانت تصدر باللغة التركية، وهذا يفرض على المؤرخ الباحث الإلمام بهذه اللغة”.

درس المؤرخ أبو حسين اللغة التركية القديمة في إحدى الجامعات في “تركيا الحديثة”، وهو ما ساعده إلى حد بعيد في الكشف عن الكثير من المعلومات التاريخية المستقاة من هذا الأرشيف. أما العقبة الأخرى التي واجهها للاطلاع عليه، فهي تتمثل في أنَّ وثائق القرن السادس والسابع والتاسع عشر مكتوبة بخطِّ اليد، الأمر الّذي يتطلَّب مهارة خاصة في فكِّ أسرار هذا الخط اليدوي، فقد كانت أجيال المؤرخين تعتمد على بعضها البعض تباعًا في قراءة هذه المخطوطات والوثائق.

ويضيف: “وفَّقني الله بأستاذ تركي حذق للغاية، يُدعى خليل ساحلي أوغلو، كان ينظر إلى الوثيقة فيقرأها مباشرة. ومع تكرار المحاولات، يصبح المؤرخ والباحث قادرًا على القراءة السريعة ومعالجة الكلمات الصعبة. يضافُ إلى ذلك، ضرورة معرفة الأنظمة العثمانية في ضبط ملفّات إداراتها ومخطوطات دواوينها على اختلافها وتقادمها”.

 

توزّع الأرشيف العثماني في العالم

الإمبراطورية العثمانية كانت دولة مترامية الأطراف في العالم، فهل استطاعت دولة مصطفى كمال أتاتورك حصر كل الوثائق والأرشيف وجمعه في تركيا الحديثة؟ يؤكّد المؤرخ أبو حسين أنّ هناك أعدادًا من صناديق الأرشيف العثماني موزّعة في بلدان عديدة، كان تربطها بالإمبراطورية آنذاك علاقات دبلوماسية، أو كانت من الأقاليم الخاضعة للسلطة العثمانية. ففي فيينا مثلًا، يوجد نوع من الأرشيف يسمى “دفتر المهمة”، وفيه دفاتر تحتوي 300 فرمان، وأخرى تضمّ 700 فرمان، وأخرى تتضمن أكثر من 1000 فرمان. السؤال إذًا: لماذا تتواجد هذه “الدفاتر” في فيينا؟ يعود ذلك إلى أنّ بعض السلاطين كانوا يقودون الجيوش بأنفسهم في الحروب، من مثل السلطان مراد والسلطان سليمان. وعادةً ما يخرج مع كل سلطان إلى أرض المعركة دوائر القصر الَّتي تهتم بخدمته ومتابعة كلّ شؤونه، ومن ضمنها الكتَبة. وفي مقال له، يصف ابن طولون، مثلًا، الجيش العثماني عندما وصل إلى دمشق، وكان السلطان سليم حينها على رأس الجيش، ويعدّد أصحاب المهن المتواجدين مع حاشية السلطان، حتى عدد الطباخين، وكانوا حينها 14 طباخًا بالتحديد.. وهكذا، فإنَّ فيينا التي حاصرتها الجيوش العثمانية مرتين؛ المرة الأولى في العام 1529، والمرة الثانية في العام 1638، لم ينجح الحصار في الإطباق عليها، وكان الجيش العثماني يتراجع، فيترك وراءه مخلّفات لا تحصى، ومن ضمنها العديد من تلك الدفاتر والوثائق. أيضًا، تتواجد وثائق عثمانية في فرنسا وألمانيا وغيرها من البلدان الغربية، نظرًا إلى المعاهدات والاتفاقيات فيما بينها.

آليات البحث في الأرشيف

إنَّ الأرشيف العثماني لم يكن مصنّفًا وفق الأساليب الحديثة الشائعة اليوم، وقد مرّت مراحل تصنيفه وترتيبه بآليات عديدة، ولا تزال هناك إلى اليوم المئات من الصناديق التي لمّا تصنّف بعد. ويضيف: “من هنا، ليس هناك معلومات يتحفَّظ عليها الأتراك في هذا الأرشيف أو يمنعون الباحثين أو المؤرّخين من الاطلاع عليها…”.

يقول الدكتور أبو حسين: “كنت أقصد أماكن توافر هذا الأرشيف على مدى سنوات حتى التسعينيات، وكان الوصول إليها صعبًا إلى حدّ ما. كان القانون يفرض تقديم طلب عن طريق السّفارة، ليُرفع إلى وزارة الخارجية، وبعدها إلى وزارة الثقافة، فيمرّ وقت طويل للحصول على الموافقة. أحيانًا، كانت تتم الموافقة على الطلب بعد سنة أو سنتين. كان هذا في العام 1980 – 1981. بعدها، كان على الشَّخص أن ينال حق الإقامة في تركيا، وعندما يغادرها يُلغى الإذن مباشرة، وكان يسمح له بإعداد مئة صفحة فقط. أما اليوم، فأصبح الموضوع سهلًا، إذ يستطيع أيّ شخص من خلال جواز السفر أو الهوية أن يتوغّل في الأرشيف، فيطّلع على الكاتالوغات…”.

ويردف قائلًا: “اليوم، أصبح الاطلاع عليها يتمّ بشكل إلكتروني، فيجلس الشخص خلف الحاسوب، ويطّلع عليها من خلاله، ويقوم بتحديد ما يريد. قد تتواجد هذه الوثائق أو الكتالوغات في المبنى نفسه، فيحصل عليها خلال ساعة أو نصف الساعة، وبعضها يتواجد في أماكن أخرى، فيحدد المسؤولون موعدًا للحصول عليها، ومن ثم يستطيع الاطلاع عليها وإعادتها. اليوم، لا تُقدّم الوثائق الفعليّة ما لم تكن ضمن نظام “ديجيتال”، لأنهم يعتمدون على الطرق الأكثر حداثة، ولكن لا تزال ثمة كمّية هائلة من الوثائق، مما يتطلَّب وقتًا طويلًا لأرشفتها وتصنيفها. وتوجد وثائق يقومون بتصويرها لأنها غير مصنّفة. وإذا ما أراد شخص ما الحصول عليها، فإنهم يقدمونها له على قرص مدمج مقابل بدل مادي بسيط”.

ويقول: “كنت أقوم بالبحث في “دفاتر المهمة”، وهي تشمل الأحكام المتعلّقة بكلّ ولايات الدولة العثمانية والمدن والمناطق من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ففي الوثائق التي تبحث في تاريخ بغداد خلال الحكم العثماني، لا يمكن الاكتفاء بقدر معيَّن من الوثائق، بل يضطر الباحث إلى الغوص في الوثائق كلّها، ذلك أنه ليس هناك دفتر مصنّف خاص ببغداد مثلًا أو غيرها. وإن وُجدت بعض التصنيفات، فإنها تفتقد إلى الدقة، لأنها تمت في ظروف صعبة، فالبعض كان يتقن اللغة العثمانية، والبعض الآخر لم يكن ملمًّا بها، ولذلك يضطر الباحث إلى إجراء نوع من المسح”.

وثائق وحقائق مغيّبة!

ويضيف البروفيسور أبو حسين: “في تلك المرحلة، كنتُ أعمل بشكل خاص على الحركات الموجودة في ريف بلاد الشام، وكنت قد قرأت سابقًا للمؤرخين كمال صليبي وعبد الكريم الرافي وغيرهما عن علاقة الدروز بالسّلطنة العثمانية، فبدأت الشكوك تراودني. قرأت للمؤرخ الماروني البطريرك إسطفان الدويهي عن أشخاص أرذال أشقياء هجموا في العام 1586 على قافلة المال المصرية التي كانت في طريقها إلى إسطنبول وسرقوها. ويقول إنَّ العثمانيين، على خلفية هذا الحدث، هجموا على قرطماز معن في الشوف، ووقع النهب في عكار في الشمال، بينما كان رد الفعل في الشوف، فشعرت بأنَّ ثمة أمرًا ما غير واضح، وقمت بعد عمليّة بحث مضنيّة بإصدار كتاب “لبنان والإمارة الدرزية في العهد العثماني”، الذي يقدّم صورة مختلفة عن تلك التي قدّمتها الكتابات المحلية التقليدية والمؤلفات الحديثة حول علاقات الدروز بالعثمانيين قبل العام 1585، أو عن الفترة اللاحقة لإطاحة الأمير فخر الدين، فبسبب الغياب شبه التام للمعلومات التاريخية، ساد الاعتقاد بأنَّ علاقات الدورز ودية مع العثمانيين، وأن الزعماء الدروز كانوا محل ثقة وذوي مقامات رفيعة وكانوا يشغلون وظائف مهمة… وغالبًا ما كان التفسير التقليدي لحملات العثمانيين التأديبية ضدهم، يُعزى إلى التهم الكاذبة التي يلفّقها الخصوم المحلّيون لآل معن، لكن الحقيقة التي تؤكّدها وثائق “دفاتر المهمة”، والتي تغطّي الفترة الممتدة بين الأعوام 1553 و1905 من تاريخ لبنان، تقول إن العلاقات الدرزية العثمانية منذ منتصف القرن الثامن عشر كانت محكومة بحال شبه دائمة من التمرّد الدرزي”.

ولأنَّ التفاوت كبير بين التوثيق المحلي في القرن الأول والثاني من حكم العثمانيين من جهة، والقرنين الأخيرين من جهة ثانية، والذي يُعزى إلى حقيقة أنَّ لبنان لم ينفصل عن محيطه السوري – العثماني، لكونه كان وحدة تاريخية مستقلة قبل القرن الثامن عشر، يكتسب التوثيق العثماني أهمية كبرى، لأنه يقدّم الموقف الرسمي والتعليمات الحكومية التي تتناول حوادث تلك الفترة ومشكلاتها منذ الفتح العثماني في العام 1516 وحتى إيجاد نظم الالتزام لإمارة جبل لبنان تحت حكم الشهابيين في العام 1711، ولم تتمكَّن المناطق التي تسمّى “لبنان” اليوم من أن تكون وحدة تاريخية متكاملة، لكنها كانت مقسمة تبعًا لولايات سوريا العثمانية المختلفة، يضيف.

ويؤكّد أبو حسين أنَّ تاريخًا متسلسلًا ومفصّلًا تقدّمه وثائق “دفاتر المهمة” عن تمرد الدروز، الَّذين كانوا مزوّدين على الدوام بأسلحة نارية تتفوَّق أحيانًا على أسلحة العثمانيين، وذلك منذ أربعينيات القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن السابع عشر. هذا التمرد الذي أحدث حالة طوارئ طويلة الأمد انعكست تلقائيًا في الوثائق، دفع السلطات العثمانية إلى إعادة النظر في الوضع الإداري للواء صيدا – بيروت، إضافةً إلى تغيير تبعيته بين ولايتي دمشق وطرابلس في تسعينيات القرن السادس عشر، وكان هذا اللواء قد تحوَّل إلى ما تسمّيه الوثائق “كلربكليك ولايت الدروز”. لذلك، ونظرًا إلى تواتر “الثورات” فيه، جاءت الوثائق المتعلّقة به أكثر عددًا وأشد تفصيلًا من الوثائق المتعلقة بأية منطقة لبنانية أخرى.

يرى الدكتور أبو حسين أنّ الشرح الذي تقدمه المصادر المحلية عن الاحتلال العثماني للشوف في العام 1585، على سبيل المثال، يعدّ نموذجًا عن بعض المغالطات التي وقعت فيها المصادر المحلية فيما يتعلّق ببعض الإجراءات التي اتخذها العثمانيون، فالبطريرك المؤرخ إسطفان الدويهي، أول مؤرخ محلّي يذكر احتلال الشوف، يربط ذلك بسرقة قافلة الضرائب المصرية المتجهة إلى إسطنبول، التي ذكرناها أعلاه، رغم أنَّ الضرائب وصلت بالكامل، بينما توضح وثائق “دفاتر المهمة” أنَّ ذلك الاحتلال جاء لوضع حدّ لتمرّد الدروز.

تاريخ آخر أغفله النسّاخ!

يبدو غريبًا اقتصار الإشارات إلى ثورة الأمير فخر الدين معن (ت. 1635) على إشارتين عرضيتين حول سفره إلى توسكانا، فهذا الأمير، الذي يشكّل عنوانًا للفخر في التواريخ اللبنانية التقليدية، بوصفه البطل الوطني الذي منحه العثمانيون لقب “سلطان البرّ”، يظهر في وثائق “دفاتر المهمة” أميرًا للواء صفد أكثر من كونه أميرًا للواء صيدا – بيروت، إضافةً إلى أنه لم يُمنح البتة رتبة أعلى من رتبة “أمير لواء”، وليس هناك أيّ وثيقة تسند إليه لقب “سلطان البر”.

يردّ المؤرخ أبو حسين عيوب هذه الوثائق إلى أنها ليست النسخ الأصلية، فقد أنجزها نسّاخ لم يكن جميعهم دقيقين أو أمينين في النقل، أو لم يكونوا يعرفون المناطق التي تتحدث عنها هذه الوثائق. بالطبع، لا يقلّل هذا العيب وسواه من قيمة هذه الوثائق بصفتها مصادر أولية فائقة الأهمية لدراسة تاريخ بلاد الشام في العهد العثماني، وعملًا مرجعيًا كسر احتكار المصادر المحلية والأوروبية لكتابة تاريخ لبنان في القرنين السادس عشر وما بعدهما. هذا الأمر يظهر أنّ الاهتمام بالأرشيف العثماني لم يكن كافيًا، يخبرنا البروفسور أبو حسين. وقبل العقود الأخيرة، لم يكن عدد الباحثين فيه يتجاوز أكثر من ثلاثة، ولكنّه اليوم في تصاعد، ذلك أن هذا الأرشيف يعيد النظر في رواية التاريخ العربي في الحقبة العثمانية، وخصوصًا فيما يتعلق بقضية الهويات، ومنها الهوية اللبنانية، التي عالجها أبو حسين استنادًا إلى الأرشيف العثماني.

وهناك قضايا أخرى كانت محطات مهمَّة توقف عندها أبو حسين حين أصدر عدة كتب تغطّي تقريبًا المساحة الزمنية للحقب التاريخية التي نقّب فيها، فأصدر في العام 1998 كتاب “الكنائس العربية في السجلّ الكنسي العثماني”، الذي يضم وثائق تنشر لأول مرة عن التراخيص التي منحتها الدولة العثمانية للطوائف والمؤسَّسات المسيحية واليهودية والإرساليات التبشيرية الأجنبية المختلفة في بلاد الشام والعراق. وفي دراسة مهمة نشرها في مجلة “أسطور” في العام 2017، يتناول أبو حسين رحلة العالم الدمشقي محمد بدر الدين الغزي بُعيد الفتح العثماني لبلاد الشام إلى إسطنبول (1530). تفيدنا رحلة الغزي في تلمّس طبيعة العلاقة بين العرب والأتراك وما انطوت عليه من سوء الفهم أو الأحكام المسبقة في هذه الفترة المبكرة من دخول بلاد الشام تحت الحكم العثماني. كما تكشف لنا هذه الرحلة عن شبكة العلاقات التي نسجها العلماء العرب مع أقرانهم وكيفية استمرارها عبر الأجيال.

للبروفيسور عبد الرحيم أبو حسين إصدارات أخرى، من مثل “حوران في الوثائق العثمانية”، “صنع الأسطورة وبناء الأمة”. يوضح في الكتاب الأوَّل العلاقة بين مركز الإمبراطورية العثمانية وحوران التي أدّت دورًا مهمًّا في زمن الإمبراطورية العثمانية لوقوعها على طريق الحجّ، فعُرفت بحمايتها له من قطَّاع الطرق وقبائل البدو، وهو يعتمد في دراسته على الوثائق التاريخية العثمانية، ومنها ما كان رسالة بين متصرِّف حوران والسلطنة، ما يبيِّن الوضع السياسيّ والعسكريّ في الإمبراطورية العثمانية آنذاك. ويؤكِّد في كتابه تعاون السلطنة مع حوران في معظم الأحيان، بخلاف ما تعرضه بعض المصادر التاريخية.

ويدرس أبو حسين في كتابه “صنع الأسطورة وبناء الأمة” أُسُس بناء الدولة القومية والقواسم المشتركة التي تجمع المُنتَمين إلى تلك الدولة. ويبحث الكتاب في التاريخ اللبناني من خلال الوثائق العثمانية، فيشير إلى أثر المؤرِّخين المارونيِّين الإشكاليّ في التدوين التاريخيّ اللبنانيّ، أمثال إسْطفان الدوَيْهي وطنُّوس شدياق. ويشير أيضًا إلى آراء أستاذه كمال صليبي في ما يتعلَّق بالتاريخ اللبناني، وإلى أنَّ اختلاف اللبنانيّين حول تاريخهم قد يشكِّل سببًا في بناء “أمَّة لبنانية أقوى وأكثر تنوُّعًا”. ولكن للأسف الشديد، يراوغ البعض في هذا التاريخ، فعندما يكتب الموارنة عن الفترة العثمانية، نجد الحديث عن “أنها استعمار”، ويقول البعض: “أجاعونا في الحرب العالمية وأوجدوا الطائفية”، ولكنّ العثمانيين عندما أوجدوا متصرفية جبل لبنان كانوا يهتمون بإشراك المسيحيين والدروز مع المسلمين في انتخاب العضو الماروني في مجلس الإدارة، والعكس أيضًا بالنسبة إلى الأعضاء الآخرين… وما حرب العام 1860 إلا فتنة أشعلتها الدول الأوروبية مع الموارنة كي تحبط مساعي السلطنة في تحديث الدولة، وبسط قوانين واحدة تساوي بين جميع رعاياها، وهذا أيضًا حدث مفصلي تؤكده الوثائق بالأرقام والأدلة، يختم أبو حسين.

 

 

المقطع:

الشرح الذي تقدمه المصادر المحلية عن الاحتلال العثماني للشوف في العام 1585 يعدّ نموذجًا عن بعض المغالطات التي وقعت فيها هذه المصادر

 

 

زينب الطّحان: أستاذة جامعيّة وكاتبة وصحافيّة لبنانية. تخصّصت في النّقد الأدبي والسّرد الروائيّ، وأعدَّت أطروحة الدكتوراه حول الهجرة والهوية في رواية “بدايات” لأمين معلوف. صدر لها كتابان حول آداب ما بعد الكولونيالية.

للتّواصل عبر الإيميل: riza_zein@hotmail.com

 

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: الأرشيف العثمانيّ يعيد قراءة التاريخ العربي في زمن السّلطنة

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

*زينب الطّحان: أستاذة جامعيّة وكاتبة وصحافيّة لبنانية. تخصّصت في النّقد الأدبي والسّرد الروائيّ، وأعدَّت أطروحة الدكتوراه حول الهجرة والهوية في رواية “بدايات” لأمين معلوف. صدر لها كتابان حول آداب ما بعد الكولونيالية.

للتّواصل عبر الإيميل: riza_zein@hotmail.com

أرشيفو  12 بصيغة PDF

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>