العرائض السياسية البحرانية المفقودة في أرشيف الوكالة البريطانية
إن إعادة قراءة الماضي هي إعادة بناء، وأحيانا على حساب تهديمات مكلفة..بول ريكور(1).
تنطلق هذه المقالة من فضاء الأسئلة الكبرى الرئيسية في مجال كتابة الذاكرة الجماعية، كأن تُطرح الأسئلة التالية: كيف يمكن استعادة الذاكرة الجماعية؟ ولماذا تعاد كتابة التاريخ؟ ومن يقوم بعملية تفسير الأرشيف السياسي وترتيبه ؟ ومتى يمكن أن تتحول الذكريات إلى ذاكرة أرشيفية؟
هي أسئلة يصعب الإجابة عنها في ظل غياب سياسة عادلة للذاكرة كما في حالة ذاكرة البحرانيين في بلدهم، حيث تكتسب المسألة بعدا معقدا وتصبح معقدة ومركبة، عندما تصبح الذاكرة الجماعية لجماعة ما عرضة للإقصاء والكبت، لكونها ذاكرة أناس مغلوبين. وهذا ما تعانيه الذاكرة الجماعية لأهل البحرين، فذاكرتهم الجماعية مشتتة كتشتّتهم، وهي عرضة للإقصاء وفق قانون كم الأفواه، ولا يسمح لهم بالظهور والتحدث عند كتابة تاريخ البحرين.
يظهر البعد المعقد والمركب في مسألة العودة دائما لإعادة كتابة التاريخ في كل لحظة مفصلية تقوى فيها الذاكرة الجماعية للبحارنة، او عندما تستعيد بعض حضورها وقوتها، كمحاولة لاستعادة الأمكنة والأزمنة التي اختفت فعلا بسبب الهدم أو النسيان. ربما ارتكز بعض الناس على الأرشيف المحفوظ والنظر إليه على أنه مضمون ومحتوى الذاكرة الجماعية، إلا أن الأرشيف برغم غناه، فهو لا يشكل سوى «لحظة الدخول في الكتابة لعملية كتابة التاريخ» وتتجلى أهمية الوثيقة في طريقة اشتغال المؤرخ وأدواته؛ لأن الوثيقة ليست معطى، بل هي شيء مبحوث ومهيء ومؤسَّس. من هنا لا تكتسي الأرشيفات سوى قيمة نسبية، لأنها تبقى موقعا اجتماعيا تتحكم فيه إجرائية الوثائقيين ثم المؤرخين. ان المسألة الأساسية تبقى في كل هذه الأمور مسألة كتابة وإعادة كتابة، مسألة بناء وإعادة بناء، مسألة رؤية، مسألة تأويل. ومعنى ذلك، أن ما يظهر عندما نغير المقياس ليس هو التسلسل، وإنما العلاقات التي بقيت خفية على المستوى الانساني.سنحاول هنا استعراض نماذج من العرائض السياسية التي قدمها البحارنة للتخلص من واقعهم السيئ، لما لها من أهمية في رصد الواقع أنذاك، والمطالب التي طرحت من جهة، ومن جهة ثانية التعرف إلى نتائج تلك العرائض ومدى الاستجابة لها.
جذور الاضطهاد ليس عسيرا على الباحث أن يتلمس جذور المطالبة بالإصلاح وتحقيق العدالة لدى البحارنة في بداية القرن العشرين، مقارنة بالفترات التاريخية السابقة التي يصعب الحصول فيها حاليا على وثائق كافية لتعيين بداية الثورة على المظالم. وباستثناء الإشارات القليلة التي سجلها التاريخ القديم عن ثورة البحارنة على الحكم القرمطي في القرن الثالث الهجري، إضافة إلى بعض المعلومات الضئيلة التي وصلتنا عن مقاومتهم للغزو البرتغالي فإن هناك نقصا واضحا وكبيرا في استكمال التاريخ السياسي للبحارنة.
تبدأ بداية مطالبة البحارنة بالإصلاح الإداري والسياسي مع فترة ديسكون (Harold Richard Patrick Dickson) الذي شغل منصب المعتمد البريطاني(2) في البحرين من 1919 حتى 1920. فخلال هذه الفترة تصاعدت رغبة بريطانيا في تنحية الحاكم عيسى بن علي ال خليفة (حكم البحرين من 1869 – 1923) باعتباره رجلا طاعنا في السن وإداراته الداخلية أخذت تسوء بشكل لا يحتمل. وفي رسالة المقيم تريفور المؤرخة ب 6 يناير 1922 يصفه فيها بأنه « مصاب تمامًا بالخرف وخاضع بالكامل لزوجته بحيث لا يمكنه فعل أي شيء في هذا الخصوص»(3). هذا الرجل العجوز لم يكن قبل ذلك خرفا، لكنه كان ضعيفا في إدارة البلاد التي تولى أمرها منذ 1869 وظل يحكم البحرين بمشاركة عمه أحمد بن خليفة، الذي كان يعتبر الرجل الاقوى وقتها، وكانت حصته تبلغ نصف الثروات وعند موته في 1893 حجزت ثروته وتقاسم أبناء الشيخ عيسى وإخوانه البحرين، وفق نظام مقاطعات فريد، وهذا ما جعل سوء الإدارة وشيوع المظالم وزيادة الاستبداد طابعا عاما للنظام الحاكم(4). سوء الإدارة والاستبداد هما من المظاهر الواضحة التي لم يكن بمقدور أحد ان يغمض عينيه عنها، فهناك فئة يقع عليها الحيف والظلم بشكل دائم ومقصود برغم أنهم كانوا الملاك الأصليين للأرض وهم الذين كانوا يسكنون البحرين قبل قدوم عائلة الخليفة سنة 1783 واحتلالها لها. إلى جانب ذلك كانت هناك فئات تعفى من الضرائب، ولها مكانة اجتماعية وسياسية لمجرد أنها متحالفة مع العائلة الحاكمة كما في حالة قبيلة الدواسر، أو لأنها كانت تستخدم كثكنة للجنود في حالات الحرب مثل قبيلة النعيم، فكان الحاكم يصرف كثيرا من موارد الدولة لاسترضائهم أو إكراما منه لهم.
يصف لوريمر وضع البحارنة مطلع القرن العشرين « 1904» بأنهم من حيث العدد هم أكبر طبقة، إلا أنهم لم يكونوا مهمين من الناحية السياسية، وفي الواقع كان وضعهم أحسن قليلا من وضع العبيد، وفي أيديهم معظم زراعة النخيل ،والزراعة في الجزر، ولكنهم أيضا يعتمدون أقل من إخوانهم السنة على صيد اللؤلؤ، وعلى أعمال ملاحية أخرى»(5).
ويضيف لوريمر عن طبيعة الإدارة المحلية والامتيازات الطبقية: حكومة البحرين ذات طبيعة مفككة غير منظمة ، ويحكمها في الوقت الحاضر شيخ يدعى عيسى بن علي بمساعدة وزير أو مستشار رئيسي، يصرف الأمور ذات الأهمية السياسية أو العامة….ويقيم الشيخ في المنامة أثناء الشهور الأربعة التي يكون فيها المناخ حارا ومركزه الرئيسي في بقية العام هومدينة المحرق، ولكنه ينهمك في رحلات متكررة، ويستولي الأخ والأبناء وأبناء الأخ وأقرباء آخرون قريبون على إقطاعات في أماكن مختلفة، يمتلكونها امتلاكا مستقلا تقريبا مدى الحياة، وهم يجمعون الضرائب من هذه الإقطاعيات لمصلحتهم، ويمارسون الحقوق القضائية والسيادية عليها، والأمكنة شبه المستقلة من هذا النوع في الوقت الحاضر هي في تصرف أحد أخوة الشيخ، وتشمل جزر سترة والنبيه صالح، كما أن له أيضا جميع القرى في الجانب الشرقي من جزيرة البحرين إلى جنوب خور الكب والقرى الداخلية في الرفاع الشرقي والرفاع الغربي، والمفروض أن هذه الإقطاعيات تسترد عند موت صاحبها ولو نظريا على الأقل، وليس هنالك ما يوجب منحها للورثة(6).
الامتيازات الطبقية:
إن حالة طبقة المزارعين البحارنة تحت حكم الشيخ وأقاربه في البحرين، هي تعسة، فهم يشقون بالسخرة الدائمة، وهم ومراكبهم وحيواناتهم ووضعهم بالنسبة للأرض هو وضع القن أي «عبد الأرض» لا وضع المستأجر الذي يملك الحرية. وإذا عجزوا عن أن يسلموا كمية معينة من المحصول يزداد الظلم والعدوان بواسطة خدم الشيخ وأقاربه فسرعان ما يطردون من منازلهم وفي بعض الحالات يضربون ويسجنون أيضًا… ولبعض البحارنة ملكية اسمية للأراضي بعد أن سمح لهم في الماضي أن يشتروا حدائق، ويحصلوا على سندات لها، ولكن أملاكهم غالبا تسترجع من دون سبب معقول، حتى أبناء الحاكم الحالي يشبهون بهذا الظلم أسلافهم ،وغالبا ما يسرق البدو محاصيل البحارنة فيما هم وحيواناتهم يطوفون بالجزيرة.
في الظاهر، يبدو أن البحارنة لا يعدمون من دون محاكمة منظمة من القاضي، ولكن هناك ما يدعو إلى الشك في أن الموت قد يحدث نتيجة سوء المعاملة التي يلاقونها، وهم محتجزون في بعض الأحيان، كذلك فنساؤهم عرضة لمضايقات خدم الشيخ، وإذا اضطهد البحارنة أكثر مما يتحملون، فإنهم أحيانا يهاجرون إلى واحات القطيف وهي وسيلة تعتبر العلامة الأساسية على عدم إنسانية أسيادهم(7)». تجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ عيسى بن علي ال خليفة جرى تنصيبه حاكما على البحرين برغبة وبقرار بريطاني سنة 1869، بعد ان تدخلت العسكرية البريطانية في البحرين، واحتجزت كلا من الشيخ عبدالله ال خليفة والشيخ محمد بن خليفة، ونفتهم عن البحرين وكان عيسى بن علي لاجئا في قطر مع عائلته بعد مقتل ابيه من قبل رجال محمد بن خليفة في1867 . استمر هذا الوضع من دون تدخل من قبل الإدارة البريطانية تحت حجة أنها أمور داخلية ومن خصوصيات الشيخ الحاكم، وبتعبير أخر كانت السياسة التي اعتمدتها الإدارة البريطانية بعد أحداث عامي 1904 – 1905 تقوم على أن «إصلاح الحكومة الداخلية ينبغي أن يتحقق عبر الوسائل غير المباشرة والمسالمة من خلال زيادة نفوذ الشيخ وكسب ثقته» ولكن عندما اصبح موضوع الجمارك مهما جدا وملحا بالنسبة للمصالح البريطانية السياسية، ومصالح السفن التجارية البريطانية، كثف المسؤولون البريطانيون جهودهم لترسيخ استبداد الحاكم عيسى بن علي.
ليس خافيا إذاً أن حالة العجز والاضطهاد التي كان البحارنة يعيشونها أنذاك هي نتيجة متوقعة لسيطرة النسق القبلي، وإحكامه السيطرة التامة على الخيرات والموارد الاقتصادية كما يقول الخوري(8)، إلا ان الأهم هو حالة الإنهاك العسكري، الذي شهده المجتمع البحراني منذ 1783 إذ اصبح ساحة مفتوحة لصراع قبلي وإقليمي واسع النطاق. نتيجة لذلك فإن البحارنة، ومنذ ذاك التاريخ على الأقل تعرضوا لهزات عسكرية وسياسية، تقوم على ما يمكن تسميته اقتصاد الحرب أو اقتصاد العنف، فخلف الحرب والقمع تقع الغنائم والثروات والخيرات، التي يمكن الحصول عليها من اصحاب الأرض الباقين او مصادرة املاك المهاجرين والقتلى. في مقابل اضطهاد البحارنة توسّع النسق القبلي عبر توسيع التحالف بين القبائل المستولية على البحرين، ودعوتهم للاستقرار في هذا البلد، وتوفير ما يمكن أن يشجعهم على البقاء كما في حالة قبيلة الدواسر التي تحالفت مع عائلة آل خليفة في 1843، ونزحت للاستقرار في البحرين، لكنها سرعان ما أصبحت قوة نافذة، تسطير على الغوص وتقيم مناطق محمية لها تُعفى من الضرائب.
منذ 1919 أصبحت بريطانيا أكثر قلقا مع تزايد حالات عدم الاستقرار وتهديد الأمن الداخلي للمصالح التجارية والسياسية البريطانية، وعبر الوكيل ديسكون أعادت بريطانيا تشغيل المجلس البلدي وجعلته نشطا، كما أسست محكمة عليا خاصة للفصل في النزاعات بين الاجانب المقيمين في البحرين(9). لقد أدى إدخال بعض مظاهر البيروقراطية الحديثة على نظام الحكم إلى شيوع رغبة واسعة في التحرر لدى البحارنة واصبحوا يعملون كقوة صاعدة، ترفض التهميش والإقصاء. وما من شك أن هذا الشعور التحرري والرغبة في إنهاء المظالم الواقعة عليهم، له صلة بمجريات إقليمية من جهة، وبسبب التواصل الثقافي والإيمان ببعض شعارات تلك الفترة التي قدمت من قبل رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون للكونغرس الأمريكي في 8 يناير 1918، وكان من ضمنها حق تقرير المصير للشعوب. لقد وجد هذا المبدا صداه الواسع ليس لدى البحارنة وحدهم بل إن الحاكم الشيخ عيسى بن علي ال خليفة استعان به وحاول توظيفه في مقاومته لفرض الإصلاحات الإدارية.
وخلال الفترة ما بين عامي 1919 – 1923 تصاعدت رغبة بريطانيا في تنحية عيسى بن علي آل خليفة الذي حكم البحرين من 1869 إلى 1923، باعتباره رجلا طاعنا في السن وإداراته الداخلية أخذت تسوء بشكل لا يحتمل.
وفي رسالة المقيم تريفور لوزير خارجية حكومة الهند المؤرخة ب 6 يناير 1922 نجده يستعير وصف الميجر ديلي للشيخ عيسى بن علي ال خليفة، ويوافق عليه عندما يصفه بأنه « مصاب تماما بالخرف وخاضع بالكامل لزوجته بحيث لا يمكنه فعل أي شيء بهذا الخصوص(10)». يذكر الميجر ديلي في تقرير كتب في نوفمبر 1921 قبيل زيارة المقيم تريفور أن « مستوى الظلم في السنتَين الأخيرتَين أصبح بمستوى الإرهاب، وقد تبين أنها سياسة مقصودة ينتهجها الشيخ عبد الله ؛ النجل الأصغر للحاكم الشيخ عيسى بن علي للحفاظ على الهيمنة الكاملة(11)» كما يشير في المذكرة نفسها إلى انه يتلقى « دائما اتصالات من قادة جماعات» البحارنة» يطلبون مني مناشدة الحكومة للتخفيف من حدة الوضع قليلا(12)».. ويعود سبب تلك المطالبة المتكررة إلى الإدارة السئية للحاكم وعائلته، وشيوع المظالم الكثيرة تجاه البحارنة من قبل الشيخ الحاكم وأفراد أسرته ومن بعض القبائل المتحالفة معهم.
العرائض الأولى المفقودة برغم دقة المسؤولين البريطانيين وحرصهم على توثيق الأمور كافة والعناية بأرشفة كل ما يقع تحت أيدهم، إلا أن ثمة جوانب أرشيفية لم تعامل كذلك لأسباب موضوعية تارة، ولاسباب سياسية تارة أخرى. وتعتبر عرائض البحارنة المفقودة مثالا جيدا على حدوث نقص في مخزون تلك الارشفة. والمقصود بالعرائض المفقودة هي العرائض التي كتبها مجموعة من البحارنة وجرى تسليمها للوكيل السياسي البريطاني في البحرين، أو إنها رفعت للمقيم السياسي في الخليج ، الذي يقيم في ابو شهر. وتشير تقارير الوكيل السياسي الميجر ديلي إلى وجود العديد من هذه الشكاوي، والعرائض التي رفعها البحارنة بصيغة شكاوي محددة، أو عرائض تحمل تواقيع مجموعات من البحارنة، للمطالبة بتغييرات هيكلية في النظام السياسي، لكن لم نجدها بصيغها الاصلية. يذكرالمقيم البريطاني ترايفور انه تسلم عريضة من أعيان البحارنة، عندما زار البحرين في نهاية ديسمبر1921، حيث احتشد أكثر من 1500 شخص أمام مبنى الوكالة البريطانية، وسلموه عريضة مترجمة، ولكن لم ترفق بالاصل، أو ما زال مفقودا. كما يذكر الميجر ديلي أنه لجأ إلى ترجمة بعض العرائض خوفا على الموقعين أو الشاكين وحسب، من ملاحقة حاشية الشيخ عبدالله واتباع(13). فعلى سبيل المثال، تعرض أحد البحارنة، ويدعي علي بن ابراهيم من قرية توبلي للملاحقة والسجن تحت ذرائع مختلقة عليه وبمكائد سياسية؛ لأنه كان من الموقعين على عريضة مطالب، رفعت للمقيم السياسي أثناء زيارته البحرين في ديسمبر 1921 ، وتوالت التقارير بعد ذلك لتشير إلى أن أتباع الشيخ عبدالله وجماعته يلاحقون بعض الموقعين، الذين فضلوا طلب اللجوء للوكالة البريطانية(14). وبرغم ذلك فإن عريضة أخرى رفعت للوكيل السياسي الميجر ديلي، بقيت ترجمتها وحسب، وعدد الموقعين عليها 64 شخصا، ويقول ديلي أنه اضطر إلى ترجمتها في مكتبه خوفا على الاشخاص الذين وقعوها. ويبدو أن هذه العرائض قد كثرت قبيل إعطاء الوكيل صلاحية منح الحماية البريطانية لبعض هؤلاء، خصوصا الذين يتعرضون للملاحقة والمكائد السياسية والقانونية، وسنذكر هنا نموذجين من تلك العرائض المفقودة،على أمل أن تكون هناك فرصة للحصول علي النصوص الاصلية للعرائض.
العريضة الاولى كتبت أثناء زيارة المقيم البريطاني تريفور للبحرين في 31 ديسمبر 1921، حيث التقى وفداً من البحارنة سلموه وثيقة يشكون فيها تصرفات عيسى بن علي، وشرحوا له حادثة تعرض أحد البحارنة للضرب حتى اوشك أن يموت وجرى تهديده بالقتل، في حال كشف المعتدي عليه، وهو الشيخ خالد. أما ترجمة الوثيقة التي وثقها تريفور فهي: ولذلك انتشر الحديث عن عدالة تلك الحكومة. وقد فاقت عدالتها عدالة أنشروان. ولقد شاهد الناس عدالة الملكة الراحلة فيكتوريا، التي تقيم العدالة للمظلوم حتى على نفسها. وبعدها جاء الملك الكبير ادوارد وبعده الملك الحالي جورج الذي انتشرت عدالته في كل العالم .
الحمد لله الذي جعل الملوك ملاذ اللاجئين والعاجزين في أوقات الشدائد، وجعلهم ملاذا لمن لا حول لهم ولا قوة في أوقات الشدة، الذي جعل عدلهم سببا للبركة. إذا ما تصرف أحد الملوك بوحشية، فإن الزمن يتغير وينبغي لأي إنسان حكيم أن يأخذ العبر من سلوك سلفه. انظر إلى الفراعنة الذين لم يبق لهم أثر، وانظر للعدالة كيف تستمر وتبقى. إن الحكومة البريطانية مثلا لم تخسر اسمها وسمعتها. ولقد منّ الله على المخلوقات بتقوية هذه الحكومة،على أن تسود عدالة الحكومة؛ إذ إن عدالتها فاقت عدالة أنوشيروان Anawsherawan. لقد عايش الناس عدالة الملكة الڤكتورية السابقة التي قد تحكم بالعدل لمصلحة مظلوم حتّى لو على حساب مصلحتها من أجل حماية مصالح مواطنيها وسمعتها. وبعد الملكة أتى الملك إدوارد Edward ، وبعده الملك الحالي جورج George، الذي سادت عدالته جميع العالم.
ثانيا، نود أن نقول لصاحب الحكمة الكبيرة والمزاج الطيب رئيس الخليج: إن الطائفة الشيعية تعيش حالة إذلال كبير وتتعرض لمجازر علنية. وليس لهم ملجأ ولا تقبل شهادة أحد منهم، وممتلكاتهم معرضة للنهب وهم معرضون لسوء المعاملة في كل لحظة، والظلم يزداد كل يوم. وإذا أردنا أن نحصي المظالم، نستطيع ذلك ولكن مراعاة لاحترام الرئيس لا نفعل ذلك، ولكن نشير إلى واحد من ألف منها لا شكّ في أن الحكومة مسؤولة أمام الله عن إراقة دمائنا، وعن الظلم الذي نتعرض له؛ لأنها قادرة على مساعدة الضعيف والفقير وإنقاذنا من أيدي الظالمين. ولذا نقول: انقدنا يا رئيس قبل أن نفنى. ولذلك فقد اجتمع سكان القرى هذا اليوم ليأتوا ويلجأوا إليك، ولكن نصيحة الرجلين الطيبين؛ محمد شريف والحاج عبد النبي منعتهم من ذلك، ورفض الأعيان وأصروا على مقابلة سموكم. إننا نتقدم إليك باسم الله أن تساعدنا وإذا لم تعطنا حقوقنا ولم تساعدنا، فإنك تساعد الظالمين على الاستمرار في ظلمهم. فقد نفد صبرنا وطاقتنا، وإذا تركنا هذا الملجأ ولم يساعدنا الرئيس فإننا سنواجه الموت، وستكون مسؤولا أمام الله.
هذه العريضة هي من شيعة البحرين جميعهم، ومن مضمون هذه العريضة نجد أن مطلب البحارنة، كان مطلبا أمنيا ووطنيا، وهو يتمثل في رفع المظالم عنهم ومعاملتهم كمواطنين، بدلا من حالة الإذلال التي كانوا عليها. وتظهر العريضة مقدار الوعي والمحاججة التي بُنيت عليها العريضة ،وهي أن الشيخ وحكومته يتمتعان بالحماية البريطانية، وهو ما يزيد حالة الاستبداد الداخلي وهذا يقتضى بمطالبة بريطانيا بتحمل مسؤليتها السياسة والأخلاقية تجاه البحارنة.تضيف التقارير البريطانية أن الشيخ عيسى بن علي حاول بعد ذلك الحصول على عريضة مضادة، لما احتوته العريضة المشار إليها، إلا أنه فشل في الحصول على أي توقيع، ونتيجة لذلك تعرض بعض الاشخاص للمكائد السياسية والملاحقات، كما أشيعت حالة من الاضطراب الأمني من خلال إطلاق النار على بعض رجال الشرطة.
العريضة الثانية، في 24 يناير كتب ديلي مذكرة أوضح فيها أنه تسلم عريضة جديدة موقعة من شخصيات شيعية» 64 شخصا يسألونه فيها عن مصيرعريضتهم الأولى، وقال: « قمت بترجمتها وإرفاقها هنا؛ لأنني اعتقدت أنه من الأفضل عدم ترجمتها في مكتبي خوفا من اضطهاد محتمل لأصحاب التواقيع، إذا ما جرى الكشف عن أسمائهم» إلى الوكيل السياسي، تحية وبعد.
منذ فترة قصيرة تواصلنا معك ومع المقيم السياسي، شفهيًّا أو خطيًّا وأبلغناكما عن حالنا، أرسلنا أيضا عريضة إلى «بوشهر» إلى فخامة المقيم السياسي، ولكن لم تردنا بعد أي نتيجة، من شأنها أن تهدئ من مخاوفنا وتحدّ من ظلم الحكام واستبدادهم.
وبرغم كل حالات الظلم التي تمارسها عائلة آل خليفة، إلا أنّهم ليسوا كلهم سواء؛ قبل أن يتسلّم الشيخ عبدالله زمام الحكم كان الظلم سائدا، ولكن عند تسلّمه السلطة رسميًّا، بات الاستبداد يمارَس إلى درجة المساس بأعراضنا، ما يشير إلى الأمان الذي افتقدته النساء، حتى إن الفتيات أصبحن يؤخذن من بيوتهن بالقوة، وكان يمتنع والد الفتاة أو والدتها عن التكلم عن ذلك بسبب الخوف. والآن فإ ن الشيخ عبد الله ليس في السلطة رسميًّا ولكنه يتابع في الكواليس العمل بصلاحياته السابقة، وبوتيرة أكثر ولا تتوقف محاولاته. والسبب في ذلك يعود إلى أن والده هو الشيخ عيسى ووالدته مثله تساعده في أفعاله، والشيخ عيسى هو حتى اليوم، ليس سوى ألعوبة في أيدي عبد الله إذ إنه يساعده في كل ما يريده. نرجو منك إنقاذنا من استبداد وظلم الشيخ عبدالله، ونسألكم باسم المسيح إنقاذنا في أسرع وقت ممكن من أيدي هذا المستبد، إذ نفد صبرنا ولم نعد قادرين على التحمّل. أنت مسؤول أمام الله في ما يخص صلاح أمرنا.
وقّع العريضة 64 شخصا يمثلون الشعب البحراني(15).
كان واضحا في كلتا العريضتين أن البحارنة استهدفوا حماية أنفسهم، ورفع المظالم عنهم. وتثير هذه المسألة قضية فقدان البحارنة لأي قنوات عادلة أو محايدة تربطهم بمؤسسة الحكم؛ فالوزراء والأمراء الذين يُعيّنون تحولوا إلى جباة ضرائب وأدوات لتنفيذ مطالب شيوخ المقطاعات، ولم يعد بإمكانهم حماية الناس، أو رفع الأذى عنهم. ويبدو أن تلك العرائض حثّت المسؤولين البريطانيين؛المقيم السياسي على تبني مطالب البحارنة، لكونها مطالب عادلة من جهة، وأن ترفع بريطانيا حمايتها عن الشيخ ليتخذ البحارنة ما يرونه مناسبا لهم من جهة أخرى. وهذا يظهر في اجتماع الميجر ديلي مع كلا من الشيخ عيسى بن علي الحاكم ونجله الشيخ عبدالله، بعد رسالة وزير خارجية حكومة الهند إلى المقيم تريفور خطابا ردا على رسالته في 30 يناير 1922 إذ كتب ذلك الخطاب على جملة أمور أهمها: اليه بتاريخ 13 يناير ،1922 واحتوى حث حكومة لندن على:
أنه ينتظر رد تفاصيل الموضوع والإجراءات المقترحة، للأفراد يجب أن يكون.
إن منح الحماية محدود كي لا يساء فهمه.
أنه يمكن استخدام القوة في حالة إهانة طالبي الحماية البريطانية.
أنه سيقوم بزيارة للبحرين لتقوية ومساندة موقع المقيم، لفرض نفسه على الشيخ الحاكم وعائلته.
ينبغي تحذير الشيخ بأنه معرض لخطر كبير من مواطنيه وينبغي له بوضوح فهم أنه سيصعب على الحكومة منحه أي دعم، إذا ما أدى فساد حكمه إلى حدوث ثورة.
الإيحاء للشيخ عبدالله بضرورة تحسين سلوكه بعد عودته من الحج، وإلا فسيواجه مصير ابن عمه علي بن أحمد سنة 1905.
التأكيد للشيخ حمد أن تسلمه ولاية العهد مرتبط بأدائه الجيد ونجاحه في إدارة الامور.
في 13 فبراير 1922 كتب ديلي مذكرة طويلة، ضمنها اقتراحه في زيارة تريفور المقررة للبحرين، وهو أن تكون الزيارة أكثر من يوم، وأن تكون واضحة و«أن يفهَم أنكم جئتم لسبب محدد،هو إيصال التحذير» وأشار تاليا إلى أنّ البحارنة «نظّموا مظاهرة ضخمة قبل أيام عدة، وأغلقوا السوق، وحرروا بالقوة من قبضة أحد الفداوية رجلا كان قد تعرض لسوء معاملة. فألقى هذا العمل الرعب في نفوس الشيوخ، ما دفع الشيخ عيسى إلى إرسال الشيخ حمد ليسألني عن كيفية التعامل مع هذا الوضع. رفضت التدخل رسميًّا، ولكن على نحو غير رسمي، قلت لحمد: إنه ليس من الحكمة استخدام المزيد من القوة للسيطرة على الوضع، وإنه ينبغي لهم محاولة إيجاد وسائل لتهدئة الناس. وكانت النتيجة أنه طلب من القصيبي ويوسف كانو ومحمد شريف الذهاب مع بعض الممثلين عن البحرانيين لمقابلة الشيوخ.
وكان للبحرانيين مطالب عد ة استجاب لها الشيخ عيسى، بعد تأخر دام حوالى يومين، وبعد اجتماع لعائلة آل خليفة، باستثناء طلب واحد يتعلق بفرض ضريبة دينية على الطائفة الشيعية. في البداية، أجرى الشيخ عدة تعديلات تافهة على الشروط، وكان هدفه الوحيد من وراء ذلك الحفاظ على ماء وجهه، فظهر كأنه لا يفسح المجال أمام البحرانيين، ولكن في النهاية حصلت التغييرات.
أتفهم أن البحرانيين قد طالبوا بالنقاط التالية التي جرى الاعتراف بها، أما مسألة تنفيذها أوعدمه فهي أمرآخر.
لا يحق لأحد، باستثناء الحاكم والشيخ حمد، أن يبتّ القضايا أو أن يعاقب الآخرين بأيّ شكل من الأشكال.
يرجئ الشيخ حمد القضايا التي لا يستطيع بتّها على نحو يرضي فيه كلا الطرفين إلى مجلس الشريعة العرفي، أو السالفة، حسب نوع القضية.
يجري جرّ الشخص الذي سيخضع للمحاكمة إلى محكمة الحكام، من دون سابق إنذار، على أن يجري ذلك بتوقيع من الشيخ حمد.
تحرَّر الوثائق المتعلقة بالحدائق المؤجّرة لرعايا العائلة الحاكمة بنسختين، ويتسلّم كلّ طرف نسخة، ويشهد عليها شهود مستقلون. ولا يُنفّذ أي شرط غير ما ورد في هذه الوثائق.
يجب اتخاد خطوات تهدف إلى منع جمال الشيوخ من دخول الحدائق الخاصة والرعي فيها.
توقف «سخرة» الحمير.
إيقاف الممارسات التي تهدف إلى وضع عجول العائلة الحاكمة مع بقر الرعايا البحرانيين بغية تسمينها مجانا.
تنظيم السجون بشكل ملائم وكذلك تأمين مبنى مناسب للغاية نفسها.
ويذكر أن الشيخ عبدالله كان متعاونا في منح البحرانيين هذه الامتيازات.
إذا كان ما ورد حقيقيًّا، فقد يكون دليلا على أنه ينوي فتح صفحة جديدة. وإذا كان ذلك صحيحا فهو خير، ولكنها تعد اليوم خطوة متأخرة، وأعتقد أنه سيقوم بهذا الأمر؛ لأنه يظن أن بعض الاجراءات ستتخذ ضده. وفي حال استعان بكم البحرانيون مرة أخرى، ينبغي عندئذ أن نكون في موقع، يخولنا القول إنهم قد تمكنوا من الحصول على بعض التحسينات، ويجب منحهم حق المحاولة. وإن تحذير حضرتكم للشيخ، يوضح له على نحو مضاعف أن عليه اتخاذ موقف أفضل تجاه رعاياه في المستقبل(16)» هذا التقرير الذي كتبه ديلي وأورد فيه مطالب البحارنة، يبدو غامضا من حيث كونه عريضة تقدم بها البحارنة، أو هي خلاصة المفاوضات التي حدثت بين البحارنة والشيخ عيسى بن علي وابنيه حمد وعبدالله.المؤكد هنا أنه وعبر هذه السلسلة من العرائض والاعتصامات والمظاهرات استطاع البحارنة أن يخففوا بعض الظلم الواقع عليهم، لكنهم ظلوا مبعدين في الوقت نفسه عن المؤسسات الإدارية والسياسية، التي سوف تنشأ لاحقا وهو ما سيعيد كرة الممارسات السياسية مرة أخرى.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: العرائض السياسية البحرانية المفقودة في أرشيف الوكالة البريطانية
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- جدليات تاريخية بنظرة مغايرة
- ابن الحكاية الدرزية المتأصّلة منذ أيام الفاطميين
- حصاد الهجرة وأشتات الذاكرة
- المؤرخ حسن نصر الله.. من أعمدة بعلبك
- التّأريخ الّلبناني معظمه مختلف
- دار حفظ التراث البحراني..
- التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة”
- الشيخ الدكتور “جعفر المهاجر”
- من الأرشيف المحلي إلى العالم.. وثائق تاريخيّة تُنشر للمرة الأولى