المؤرخ حسن نصر الله.. من أعمدة بعلبك
في أيام الأتراك، كانت المدرسة تسمّى «الكُتّاب». كانت تضمّ شيخًا أو شيخةً وبضعة تلاميذ، يجلسون على حصيرٍ. في بغداد، كان يُطلق على مشايخ الكتّاب اسم الملالي. كانوا من أفغانستان وباكستان، ويلفظون القاف غيناً. وقد ورد في كتب التاريخ، أنَّ تلميذًا أتى إلى والده ليقرأ له، فقرأ القاف غينًا، فاستاء الوالد وذهب إلى الملّة، وقال له: أنتم تعلّمون أبناءنا اللغة العربيَّة خطأ، فقال له: كيف؟ فسأل الوالد: هل تعلّمونهم القاف غيناً؟! فقال الملّة مستنكراً: «لا أبداً، ومن يغول ذلك؟!».
في جعبة الدكتور المؤرّخ حسن نصرالله حكايات شيّقة عن التاريخ العربي والإسلامي، وعن الأدب والدين والفقه واللغة والشعوب والمدن. يعود بنا بذاكرته الغضّة التي لا تنسى شيئاً إلى كلّ تلك التواريخ. كانت بداية عهده مع الكلمة والقلم في «كُتّاب بعلبك» لدى «الشيخة». أمّا المدارس، فقد بدأ انتشارها في لبنان في العام 1950، وكان اسمها المدرسة «الروفديّة»، وهو اسم تركي. كانت تعلّم العلوم العصريّة إلى جانب اللغتين العربية والأجنبية، والعلوم الطبيعية، والجغرافيا، والتاريخ، وأحياناً الفلسفة. يروي الدكتور نصر الله أنّ هذه العلوم لم تكن تُدرَّس في أيام «الشيخة»، وأنّ اللغة العربية كانت تدرّس وحدها إلى جانب القرآن الكريم. ومن ينهِ دروسه لدى «الشيخة»، يعد إلى أهله، أو يذهب إلى الحوزة العلمية.
يقول الدكتور نصر الله: «تعلَّمت القرآن الكريم لدى الشَّيخة، وحفظت السّور القصار والمتوسطة. وقد كان للقرآن دور كبير في تشكيل ثقافتي الإسلامية، وهو أمر ظاهر في كلّ كتاباتي، سواء من حيث الأسلوب أو المضمون. كان أول كتاب أقتنيته هو القرآن الكريم، ومن ثمّ كتاب نهج البلاغة. من المعلوم أنّ القرآن الكريم هو أول كتاب في اللغة العربية، فنحن لا نجد قبله كتباً مخطوطة أو مطبوعة. طبعاً، كان الشّعر موجودًا، وله ورواة يحفظونه، إلى جانب القصص القصيرة غير المكتوبة، ولكن لم يصلنا قبل القرآن الكريم، ولو قصيدة أو معلّقة واحدة، على قرطاس أو على جلد».
سيرة مع «التكامل المكتبي»
المؤرخ الدكتور حسن نصرالله من مواليد مدينة بعلبك في العام 1941. درس وتعلّم وتخرّج في لبنان. درّس اللغة العربية في مدارس البقاع، ومن ثمّ في جامعاتها. يروي لنا مسيرةً حافلةً له مع الكتاب والمعرفة، وهو الذي نهل أوّل علومه من القرآن الكريم، الذي وردت فيه كلمة الكتاب 250 مرّة، ويعني به الكلمة والحرف والعلم، كما يعني «الله سبحانه تعالى»، الذي يعتبر مفتاح هذا الكنز الإنساني العريق.
يأسف نصر الله لعدم وصول المعلّقات إلينا من التراث العربي الجاهلي، مشيراً إلى أنّ القرآن الكريم كان الكتاب الأول المدوّن باللغة العربية. وقد دُوِّن على أقتاب الجمال، والخشب، والحجارة الرقيقة، والفخار، والجلد، وورق الغزال. كان كتبة الوحي يكتبون الآيات، فيجمعهم الرسول (ص) في غرفة بشكلٍ غير مرتّب. وبعد وفاته، كان جمع القرآن أمرًا لا بدّ منه، وقد كان أوَّل من جمعه هو الإمام علي (ع) بوصيّة من النبي (ص). وعندما طُلب إلى بيعة أبي بكر، قال: «آليت ألّا أضع ردائي على كتفي إلا للصلاة، حتّى أجمع القرآن»، وكتبه على القرطاس.
اليوم، تضمّ مكتبة المؤرخ نصر الله التي بدأ بتأسيسها في العام 1957، عشرين ألف كتاب. لم يعد بيته يتَّسع للمزيد من الكتب التي راح يوزّعها هنا وهناك. كان يجد صعوبة إلى حدٍّ ما في تأمين بعض الكتب والموسوعات، فكان يسافر أحياناً، ويوصي على بعضها من بلدان العالم العربي والإسلامي في أحيان أخرى. وهناك كتب كان يدفع مبالغ طائلة للحصول عليها، وخصوصًا الطبعات الأولى منها. كان الدافع الأساس إلى ذلك كونه باحثاً وكاتباً، وهو ما يفرض عليه تأمين الكثير من الكتب والمصادر والمراجع.
للسيد نصرالله اهتمام خاصّ بالكتب التراثية والقديمة في مختلف العلوم، إلى جانب الكتب الحديثة التي لا تعدّ، ما يمكّنك من أن تطلق على مكتبته اسم «التكامل المكتبي»، وهي صفة يحبّها ويستحقّها بجدارة، فإن قمت بجردة عامة في مكتبته الضخمة، فستجد كتب علوم القرآن، الحديث، المعاجم، التراجم، كتب التاريخ (تأريخ المدن والبلدان)، كتب الفقه، كتب الشعر، المجامع الأدبيّة، كتب الرحلات، والنقد، والبلاغة.. حتّى أضحت مكتبته مرجعاً لأساتذة الجامعة في البقاع ولبنان، ولكلّ باحث يبحث عن كتاب نادر. ولأنه يؤمن بأنّ «زكاة الكتاب عاريته»، لم ينقطع عن هذه العادة منذ سنوات طويلة، حتّى مع طلاب الجامعات والباحثين المبتدئين.
المكتبة القرآنية
تعدّ المكتبة القرآنية التي يقتنيها المؤرخ حسن نصرالله، ابن بعلبك التاريخية، من أهمّ المكتبات في العالم الإسلامي، وهي تضمّ عشرات الكتب في التفسير، من تفسير الطبري الشهير الضخم بكلّ أجزائه، إلى كتابي الثعالبي والزمخشري، وهي من أقدم كتب التفسير، وتعود إلى القرن الخامس الهجري، إلى الرازي، الذي يعود إلى العام 606 هجرية، في كتابه «مفاتيح الغيب» أو «تفسير الرازي الكبير»، كما يسمونه.
ولديه أيضًا التفسير الشيعي الذي يحمل عنوان «مجمع البيان في تفسير القرآن» للطبرسي، وهو معتمد لدى كل المذاهب، لكونه يشمل جميع تفاسير المذاهب الإسلامية عامة، إلى جانب كتابه «مجمع البيان في تفسير القرآن الكريم». وهناك أيضًا الميزان للطباطبائي، وعدد من الكتب للشيرازي، ومحمد جواد مغنية، وعبدالله شبّر، و»روح المعاني» للألوسي. كما يمتلك ما يقارب ألف كتاب متخصّص في علوم القرآن الكريم وتفسيره.
يقول نصر الله: «إضافةً إلى ما تقدّم، لديّ العشرات من كتب التفاسير الّتي تضع تفسيرًا لكل آية من آيات القرآن الكريم، إلى جانب أسباب نزولها. كنت أستدلّ منها على العديد من الآيات القرآنية التي نزلت بحق آل بيت محمد (ص)، لأكتشف من خلال القراءة أنّ لأهل البيت ذكرًا واسعًا جداً في كتاب الله عزّ وجل».
إنَّ أهمّ ما يلاحظه المؤرخ نصرالله في علم أسباب نزول الآيات والسور في القرآن الكريم، أن المسلمين لو اتَّفقوا عليها، لما انقسموا إلى مذاهب. وفي الدرجة الأول، الاختلاف حول آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة: 3). ففي بحث معمّق، يؤكّد أنّ جميع علماء المسلمين أوردوا من ضمن ما أوردوه حول أسباب نزول: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(المائدة: 67)، أنها واقعة غدير خمّ، وتبليغ الرسول (ص) للمسلمين يوم حجّة الوداع، أنّ علياً ولي ووصي من بعده. إذاً، إنَّ الرواية متكرّرة لديهم جميعاً، فلمَ التقصير في إثبات أصالتها، وفي التأكيد أنّها السبب الأوحد لنزول هاتين الآيتين؟! إنّ المجازات اللغويّة ضيّعت الكثير من الحقائق المتعلّقة أسباب النزول.
يقول المؤرخ نصر الله: «هنا، وفي هذا السياق، يدخل كتاب «المجازات القرآنية»؛ هذا الكتاب الذي وضعه أبو عبيدة معمر بن المسلم. لماذا؟ قال: كنت في مجلس عند المأمون العباسي ـ في زمان الإمام الرضا (ع) ـ حيث دارت أحاديث عن القرآن، فتجرأ المأمون وقال: هناك آيات في القرآن الكريم وتشبيهات غير واقعية. مثلاً، نراه يتحدث عن شجرة الزقوم، ويقول سبحانه: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}، فمن هم الشياطين ورؤوس الشياطين؟ هذا الأمر غير حقيقي. فانبرى أبو عبيدة معمر بن المسلّم، وقال إنّ الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مجاراة لأساليب اللغة العربية، فللعرب أساليبهم وتهويلهم وتخويفهم. مثلاً، قال امرؤ القيس: «أيقتلني والمشرفي مضاجعي مسنونة زرق كأنياب أغوال»، هل رأيتم أنياب الأغوال؟! فاقتنع المأمون، وقال: أحسنت. فقال أبو عبيدة: عندها، انصرفت إلى وضع كتابي «المجاز في القرآن الكريم». وبذلك، صار المجاز علماً من علوم القرآن، ثم وُضعت عشرات الكتب حوله، ولديّ الكثير منها. في إحدى المرات، أفردت مقالًا موسعًا عن المجاز في القرآن لابن عبيدة، نشرته في مجلة الفكر العربي».
كلّ هذا، فضلاً عن الكتب التي تتحدث عن الإعجاز القرآني في مجال اللّغة، وتتطرّق إلى الصور البيانيّة والبلاغيّة التي عجز العرب عن الإتيان بها، ناهيك بالقراءات القرآنية، وهي عمل مهم جداً، لأنّها حفظت القرآن من الضّياع.
وفي هذه الأيام، يحضّر نصر الله كتاباً عن علم القراءات في التنزيل. كان الخوف كبيراً من تحريف القرآن بسبب اختلاف القراءات واللغات. يقول: «لنتصوّر مثلاً أن يقرأ أحدهم «قريقن في الحبّة وقريقن في الشعير»، وهي «فريق في الجنّة وفريق في السعير»! لقد نُقِّح القرآن الكريم في عهد الإمام عليّ (ع)، عندما أوكل الأمر إلى أبي الأسود الدؤلي، إذ قال له: «خذ يا أبا الأسود، الكلمة اسمٌ وفعل وحرف، الاسم وُضع للمعنى، والفعل للحدث، والحرف للصلة بينهما». ووجّهه إلى وضع النحو والصرف. وأخيراً، وجَّهه إلى وضع النقاط والحركات».
كتب الدكتور نصر الله العديد من الأبحاث والمقالات عن علوم القرآن الكريم، وتحدّث عن أهم المفاهيم الإنسانية الكبرى التي طرحها، ومنها الحوار، وهو جزء أصيل من لغة الله مع الإنسان، وطالب بأن يكون العماد الرئيس بين الشّعوب.
ويشير إلى أنّ هناك ما يقارب 360 علماً في كتاب الله، تحدّث عنها ولفت إليها، وهو أوّل من أنجز فهرسة للقرآن نشرها في مجلة الغدير. ويردف قائلًا: «يومها، كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وقد سُرَّ بالعنوان للغاية، وقال إنه عنوان جديد، فأخذ الإعلام يتحدّث عنه. إنّ أول علم هو الله، ومن ثمّ الأنبياء (عيسى ومحمد وغيرهما) بأسمائهم، فالأعلام الجغرافية، وهي عبارة عن مسرح الأحداث، يليها أعلام الكفر، مثل فرعون و»أبي لهب»… والأماكن، مثل مدين ومكة وبيت المقدس… كلّ هذه الأعلام جمعتها وفصّلتها، وكانت كلّ فئة منها منفردة. وقد كان هذا البحث جديداً…».
جمهورية الحكمة في نهج البلاغة
يروي نصر الله قصَّة أخرى له مع كتاب «نهج البلاغة»، ويعتبره الكتاب الثاني في اللغة العربية بعد القرآن الكريم، وقد أعدّ حوله كتاباً اسمه «جمهورية الحكمة في نهج البلاغة». ويرى أنّ اسم «نهج البلاغة» اصطلاحي، تماماً مثل حال التسميات مع سور كتاب الله، فقد أُعطيت لها أسماء اصطلاحيّة، لا أسماء توقيفيّة من الله، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ترتيب السور، إذ لم يُجمع القرآن بحسب النزول.
ويعتبر أن ما لدينا هو شروحات لخطب الأمير، فهناك مثلاً كتاب «شروح نهج البلاغة»، ويضمّ نحو 100 شرح. وهناك العشرات من الشروح لـ»نهج البلاغة»، ولكنّ أشهر شرحين هما شرح أبي الحديد في عشرة مجلدات أو أربعة، بحسب الطبعات، وشرح الشيخ محمد عبده، بمساعدة جمال الدين الأفغاني.
يقول نصر الله: «يبيّن كتابي الأحكام الواردة في خطب الأمير، حين يظهر أنّ كلّ حكمة هي مادة دستورية، فيها توجيه في السياسة، والعدالة، والقضاء، والأخلاق، والعمل، بل في كلّ ميادين الحياة. وهذه الحكم إذا اتّبعناها، فإننا نؤسّس لأفضل جمهورية في العالم».
تأتي كتب التراث التي تتعلّق بسيرة أهل بيت النبي (ص)، في المرتبة الثالثة في اهتمامات المؤرخ حسن نصر الله، وتتولى صدارتها «الصحيفة السجادية»، إذ كتب عنها دراسة موسّعة، وقام بجمع كلّ ما يتعلق بهذا التراث الغني، الذي يشكّل مكتبة كبرى بحدّ ذاتها. ويوجد لديه نحو 10 آلاف كتاب في هذه السيرة الشريفة. ولا يزال في خضمّ البحث عن هذا التراث الذي لم تعد تسعه رفوف مكتبته.
تضمّ مكتبة تراث أهل البيت، أولاً، أحاديث الرسول (ص) ورسائله وكتبه، وصحف السيدة فاطمة الزهراء (ع)، التي تحوي الكثير من أحاديث أبيها (ص)، وكانت تعلّمها للنسوة، وكتاب «سيرة أهل البيت في التجليّات الإنسانية». يقول نصر الله: «كان نتيجة بحث مضنٍ من مئات الكتب التي جمعتها عن أهل البيت (ع)؛ تتحدث عن نتاجهم، وما كُتب عنهم، وما قيل فيهم. كان هذا دأبي كلَّما قمت بإنجاز كتاب عن سيرتهم العطرة. ولديّ كتاب اسمه «عنوان الكلام»، كنت أدرّسه في الجامعة. وقد درّسته في الجامعة الأميركية في مجال صناعة الكتابة والبلاغة العربية والعروض العربي وغيره، وهو من علم أهل البيت (ع)».
ويضيف: «إضافةً إلى ذلك، هناك فقه الإمام الصادق (ع)؛ الإمام المشهور بتأسيسه أوّل مدرسة فقهية في العالم الإسلامي كلّه. ومن المعروف أن أصحاب المدارس الأربعة كانوا من تلامذته. أمّا الصنف الثاني من الكتب، فهو دراسات عن علم أهل البيت (ع) وبلاغتهم وفقههم».
ويتابع نصرالله مشيراً إلى مسألة مهمة بقوله: «اللافت أنّ هناك رأيًا يقول بمظلوميّة أهل البيت، ويقصد بها عدم معرفة العالم بهم وبثقافتهم الشاملة، ولكنني أرى أن هذا القول غير صحيح بتاتاً، فلو راجعوا مكتبات العالم، لوجدوا أنّ هناك مئات الكتب، مثلاً، عن الإمام علي (ع) وعن علمه وبلاغته، بينما ليس هناك كتاب واحد يتحدث عن علم أبي بكر مثلاً. فلنأخذ كتاب «العبقريات الأربعة» للعقاد، الذي ينضح بثقافة الأمير وبلاغته!
أمّا في أوروبا، فقد صار لدينا آلاف المجلدات والكتب عن أهل البيت (ع)، وخصوصًا ملحمة عاشوراء، التي أصبحت توازي ملحمة الإلياذة الأسطوريّة، لا بل تتفوّق عليها، لواقعيّتها. أذكر أنّني جمعت في كتابي «الحسين قبس من النبوّة»، أكثر من 100 ألف بيت من الشعر عن ملحمة كربلاء، ولو راجع أحد ما كتب الملاحم، لوجد أنّ أكبر ملحمة لا يصل فيها الشعر إلى 10 آلاف بيت. هذا الكتاب أصبح مطلوباً بكثرة، وبخاصة لقراء مجالس أبي عبدالله الحسين (ع)».
المعاجم والطبقات والتراجم.. رفوف عالية
لم تغب الكتب الأدبيّة والنقديّة عن اهتمام المؤرخ نصرالله، وهو الّذي تخصَّص في اللغة العربية وآدابها، فرسالة الماجستير التي أعدّها كانت عن «ذي الرمة» شاعر الصحراء، في حين كانت أطروحة الدكتورة عن «الحركة الأدبية في النهضة العراقية».
يقول نصر الله: «ذهبت في هاتين الفترتين إلى العراق وسوريا، وجلبت العشرات من الكتب الأدبية، إلى أنّ صار لديّ مكتبة قيمة. وكرَّت السبحة، فصرت أجلب كلّ كتاب يعزّز دراساتي وأبحاثي في النقد الأدبي».
ولأنّ اللغة هي الأصل، اهتمَّ الباحث نصرالله بكلّ المعاجم اللغوية العريقة والقديمة، وجمع في مكتبته نحو ثلاثين معجماً ضخماً، ذلك أنَّ لغتنا العربية لا تزال تدهشه، وهي التي تحوي ثلاثة ملايين مفردة، بينما هناك لغات لا تتجاوز المفرادت فيها أكثر من سبعين ألفًا، كما يقول. والعرب على امتداد تاريخهم، لم يستخدموا كلّ هذه المفردات الغنيّة.
ومن شدة شغفه بهذه المعاجم، اهتمَّ بتأليف معجم ضخم جداً حول الحيوان وتسمياته اللغوية، جمع فيه كلّ ما يرتبط بالحيوان من حركة وفعل ولون وصوت ووبر وشعر، وتبيّن معه أنّ للحيوان في اللغة العربية تراثًا وحضارة مختلفين عن سائر اللغات، وقد أجرى بعض المقارنات فيها، فأشار مثلًا إلى اسم كل جزء من الحيوان، واسم كل حيوان في مراحل مختلفة، وكلّ أفعاله الخاصّة به.
ولا ينسى نصرالله كتب التراجم، فقد كان لها نصيب كبير من اهتمامه وشغفه بالجمع والشراء، فمكتبته تحوي عشرات التراجم، مثل تراجم رجال القرنين، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، إلى جانب كتب الطبقات؛ طبقات خاصة وطبقات عامة، وأولها كتاب الطبقات لابن سعد، وطبقات الصحابة. سموا الطبقة الأولى الصحابة والتابعين، مثلاً طبقة الشعراء في الجاهلية، امرؤ القيس وغيره كثر، وطبقات ثانية في العهد الإسلامي، وطبقة النحّات. وكانت أول طبقة عنده عن «أبي الأسود الدؤلي»، والفراهيدي، وابن مالك، ومن ثمّ القراء.
وهناك الطبقات الصوفية؛ طبقات الشافعية، الحنفية، الشيعة، وطبقات العلماء، وطبقات الأطباء، وطبقات القراء، المفسرين، الشعراء… والمجامع الأدبية، حيث يمتلك عددًا كبيرًا منها، في مقدمتها «الأغاني» و»يتيمة الدهر» للثعالبي.. وغيرها الكثير، وقد جلب العديد منها من مصر.
تأريخ مدينة الشمس
أما التاريخ، فكان له وَلَهٌ آخر عند المؤرخ نصر الله، الذي انصبّ عمله فيه على تاريخ منطقته «مدينة الشمس». وقد كتب موسوعة حول مدينته، تتحدّث عن التاريخ السياسيّ والثقافيّ والعمرانيّ، في مجلدين، وعن الحياة الاجتماعية وحركة التصوف والحركات الحزبية في بعلبك.
وقد أبدع في البحث التاريخي والفلسفي. وتشهد مشاركته في المؤتمرات الفكرية والتاريخية على باعه الطويل في هذا الميدان.
كتب الدكتور نصرالله عن تاريخ بعلبك الكثير من المقالات التاريخية، تبعاً للمراحل المختلفة. ويروي أنّه استفاد حتّى من سيرة النبي والغزوات، وكتب التاريخ المشهورة، من مثل الكامل بن الأسير، فيصل ابن الخياط، تاريخ الفتوحات، تاريخ المدن، تاريخ مكة للأزرقي، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، تاريخ دمشق لابن العساكر، تاريخ حلب، وعشرات الكتب التاريخية التي اقتناها. من هنا، راح يقتني أي كتاب تاريخي ذات صلة، ليقارنه مع تاريخ مدينة بعلبك، الذي قام بتأليفه.
وقد كتب نصرالله عن تاريخ بعلبك من العصر الأسطوري إلى اليوم، وهي من أقدم المدن على وجه الأرض. تأسَّست قبل روما بحوالى 4000 سنة قبل الميلاد على الأقل. وهناك إشارات إلى ذلك لدى مؤرخين قدامى، مثل بنيامين الطوريطري، وهو رحّالة أجنبي يهودي من الأندلس، زار هذه البلاد في زمن العز العربي، وقال إنّ بعلبك أقدم مدينة بناها الإنسان على الأرض، وهي «مدينة شيّدها الشيطان»، وبناها قابيل بعد قتل أخيه هابيل، فأصابه الارتعاش والخوف، فشيّد الهياكل حتى يلتهي بها.
هناك الكثير من الأساطير التي تتناول قصة بناء هذه المدينة الغارقة في التاريخ. ومعظم الرحالة العرب المسلمين وغيرهم ممن زاروا بعلبك، قالوا إنّها حجارتها من صنع مردة سليمان، وليست من صنع البشر. ويضيف: «الحقيقة التي أكدتها في كتابي، أنّ هذه الهياكل بنيت خلال 400 سنة في عهد الرومان، وقبل 100 ألف عام قبل الميلاد. استغرق بناؤها مئة سنة كاملة، من عهد بومبيوس 64 ق.م إلى عهد قسطنطين الكبير 332 أو 333م، أي فترة 397 سنة، ذلك أن كلّ امبراطور روماني له اسم منقوش على هذه الهياكل».
ويقال إن الإمبراطور جوليانوس هو من قدّم مدينة بعلبك إلى ابنته جوليا دومنا، وهناك عملة منقوشة باسمها. وقد ورد اسم «بعل» في القرآن الكريم في قصة النبي إلياس (ع)، ويقول كلّ المفسرين إنّ آية «أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين»، نزلت في بعلبك، بحقّ النبيّ إلياس. ولا يزال ضريحه موجوداً في المدينة… وهناك الكثير الكثير حول تاريخ هذه المدينة العريقة، يرويه نصر الله في مجلدين كبيرين.
في الختام.. الكتاب روح وحضارة
قديماً، كان شعار الدكتور المؤرخ حسن نصرالله، ابن بعلبك البار، إدخال الشّهادة الجامعيّة إلى كلّ بيت في بعلبك. وبعدما أضحى أهل مدينته أكثر قرباً من العلم واهتماماً به، أضحى شعاره اليوم إدخال الكتاب إلى كل بيت في بعلبك، لكونه دليل الحضارة والمعرفة. ويختم لقاءه معنا بالدَّعوة إلى ضرورة اقتناء عامة الناس للكتاب، ذلك أنّه يشكّل الضّمان الأكيد لتحصيل الرّقي الإنسانيّ.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: المؤرخ حسن نصر الله.. من أعمدة بعلبك
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- جدليات تاريخية بنظرة مغايرة
- ابن الحكاية الدرزية المتأصّلة منذ أيام الفاطميين
- حصاد الهجرة وأشتات الذاكرة
- التّأريخ الّلبناني معظمه مختلف
- دار حفظ التراث البحراني..
- التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة”
- الشيخ الدكتور “جعفر المهاجر”
- العرائض السياسية البحرانية المفقودة في أرشيف الوكالة البريطانية
- من الأرشيف المحلي إلى العالم.. وثائق تاريخيّة تُنشر للمرة الأولى