“المركز الوطني للأرشفة والتوثيق” في لبنان
تعرّفوا إلى الأرشيف الأصفر
قبل افتتاح المركز الوطني للأرشفة والتوثيق في بلدة النبطية في جنوب لبنان، كانت الفكرة بسيطة. كان المركز يسعى إلى إنجاز عمله في الأرشفة والتوثيق للمعنيين به، ولكنَّه اتخذ منحى آخر، عبَّرت عنه المديرة العامة للمركز كارين إبراهيم عاصي قبل خمس سنوات من اليوم بقولها: “جئنا إلى بلدية النبطية لننظّم أرشيفًا، فأصبح لنا في مدينة النبطية المركز الأول في لبنان للأرشيف، وهو المركز الوطني للأرشفة والتوثيق، وهذا بنتيجة اهتمام رئيس المجلس البلدي لمدينة النبطية وأعضائه بعلم الأرشفة، ورغبته في نقل محفوظات البلدية من أرشيف مُبعثَر إلى أرشيفٍ منظّمٍ وممكننٍ ومصوّر، عبر التصوير المصغّر – الميكروفيلم، لأنَّ المحفوظات مرتبطة بصورة عامّة بالإنسان، فهي نتاجه الذي تركه منذ ظهوره على الأرض وتأقلمه مع الطبيعة، والأثر الباقي لتفاعله مع مقوّمات الحياة منذ الخلق وحتى هذه اللحظة، إلى أن أصبح يعتمد الفكر والمعرفة”.
يومها، اعتبرت عاصي أنَّ المحفوظات المرتبة والجميلة ولكن غير المنظّمة ترضي العين ولا تشبع الفكر، وأن تنظيمها لا يعني تأمين مكان خاصّ بها، ولكل نوع منها، في مستودع الحفظ، ليصبح التنظيم أمرًا واقعًا ومؤمنًا. وبذلك، كانت مهمة المركز تنظيم حفظها بشكل سليم، وتأمين الاستفادة منها بشكل سريع، والقدرة على توثيق مواضيعها بشكل دقيق، وذلك من خلال مجموعة من المبادئ والأصول والخبرات التي صنع لها المركز دراسات علمية تحمي تراثًا غاليًا، وتساعد مجتمعًا فعالًا في تنظيم محفوظاته، فأدى دورًا مهمًّا ورئيسيًا في تنظيم المحفوظات والوثائق، يتجلّى “في تحويل كلّ الأصول والعمليات والنُظم المطبّقة على المحفوظات من واقع جامد إلى علم متحرك على الصعيد النظري الفكري، وعلى الصّعيد العمليّ التّطبيقيّ، ووضع أسس لها، تبدأ بفرز المحفوظات وتنظيمها وتنظيفها باعتماد منهجيّة مرتكزة على المبادئ”.
واليوم، يعدّ المركز الوطني للأرشفة والتوثيق من بين المراكز القليلة التي تُعنى بالأرشفة وحفظ الوثائق والمخطوطات وترميمها في لبنان. انطلق المركز في العام 2012، واستطاع بعد ثلاث سنوات من تأسيسه أرشفة وترميم ومكننة أكثر من إحدى عشرة بلدية في مختلف القرى اللبنانية، فضلًا عن اتحادَيْ بلديات.
أرشفة خاصَّة بالبلديات
يقع المركز في النبطية – جنوب لبنان، وهو يقوم بتنفيذ مشاريع في جنوب لبنان وبيروت. تقول عاصي إنَّ هذا المركز الأرشيفيّ يعدّ “الوحيد بين نظرائه الذي يتولى القيام بشؤون الأرشفة الورقية والإلكترونية، وإعداد البرامج للإدارات الرسمية والبلديات والقطاعَيْن العام والخاص، وتنظيم المكتبات بتصنيف “ديوي” (DEWEY أو نظام تصنيف المكتبات)، وذلك من خلال فريق عمل متخصّص في هذا المجال، قوامه خريجون من الجامعة اللبنانية، متخصّصون في الأرشفة والتوثيق”.
تشير عاصي إلى أنَّ فكرة المركز انطلقت من إيطاليا، وهو يتولّى العمل في البلديات والإدارات الرسمية بغرض الأرشفة الورقية وتنظيم الأرشيف، وذلك يشمل فرز جميع المستندات والوثائق الموجودة لديها، إضافة إلى عنونتها وترقيمها ووضعها في علب خاصة للحفظ خالية من الحموضة و”الأسيد”، وتجهيز غرف الأرشيف مع نسبة الرطوبة اللازمة لها، وتجهيزها بأدوات إطفاء وخزائن خاصَّة بالأرشيف، ثم الانتقال من الأرشيف الورقي إلى الأرشيف الإلكتروني.
وتتابع: “لدينا برامج خاصة بالأرشيف فائقة الجودة بمعلومات وافية جدًا للإدارات والبلديات، فأي معلومة تريد استرجاعها، تستطيع استرجاع ملف “بي دي أف” (PDF أو نسق الوثائق النقّال) الذي يتضمَّنها. وأيضًا، نقوم بتصوير جميع المستندات المهمة في الإدارات الرسمية أو البلديات عبر تصويرها على “ميكروفيلم” (MICROFILM أو التصوير المصغّر)، ونعتمد السرية المطلقة حفاظًا على المستندات”.
تخلو السّاحة الأرشيفيَّة في لبنان من مشاريع مشابهة، بحسب عاصي. تشير مديرة المركز إلى توليه أرشفة وثائق بلدية الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي إحدى أكبر البلديات الموجودة في لبنان. بعدها توالت الخدمات التي قدّمها، حين طلبت بلدية النبطية – في جنوب لبنان عَمَل أرشيف خاصّ بها.
بعد ذلك، تبلورت الفكرة بشكل أكثر شمولية واتساعًا، فما دامت بعض البلديات والإدارات على اختلافها قد طلبت الأرشفة، فإن ذلك يعني وجود حاجة ملحّة إلى التوثيق والحفظ. من هنا، انطلق المركز لإنجاز جميع أنواع الأرشفة والمكننة، ضمن فريق متخصّص بترميم الوثائق والسجلات، واستطاع حتى العام 2015 أرشفة ومكننة وثائق بعض البلديات ومستنداتها وأرشيفها، إضافةً إلى التعاقد معها سنويًا، لإنجاز كلّ ما يصدر عنها، وهو يعمل مع معظم بلديات الضّاحية الجنوبية لبيروت وبلديات الجنوب، تقول عاصي.
الأرشيف الأصفر!
هل يمتلك المركز نظامًا أرشيفيًا خاصًا به لإنجاز كل هذه الأعمال؟ تجيب عاصي بالإشارة إلى برنامج خاص لتصنيف المكتبات، يحمل اسم “ذا يلو أرشيف” (The Yellow Archive أو الأرشيف الأصفر)، صمَّمه مبرمجون عاملون في المركز في العام 2012، فحاز بذلك حصرية امتلاكه. وتضيف: “عرضت علينا بعض الوزارات شراءه فرفضنا، نظرًا إلى جودته وأهميته، ولأننا لم نرد أن يستأثر أحد بالخدمات، فالأسعار التي نقدمها مدروسة جدًا”.
أُطلق على البرنامج اسم “الأرشيف الأصفر” لتمييزه فقط، ولتسجيله في وزارة الاقتصاد، تقول عاصي، وهو يمتاز بسهولة استعماله، ويتضمَّن كل المعلومات الموجودة، والتي يمكن أن تُستحدث، كما يمتاز بسهولة عملية الإدخال والبحث فيه، وإمكانية ربطه بالإنترنت، وإجراء عملية البحث خارج مركز الإدارة أو البلدية.
وتبرز أهميته في قدرة الإدارة أو المؤسسة أو البلدية على معرفة من اطلع على الوثائق أو حصل على أي معلومة من دون إذن الجهة المعنية. وقد تمّ عرضه على البلديات ضمن مشروع إعادة تنظيمٍ وأرشفةٍ ورقيةٍ وإلكترونيةٍ للبلديات منذ تاريخ إنشائها، وهو اليوم يستخدم في أكثر من عشرين بلدية على الأراضي اللبنانية.
تولّى المركز تصنيف مكتبة بلدية حارة حريك (في الضاحية الجنوبية لبيروت)، التي تأسّست مؤخرًا، وتحتضن بين رفوفها أكثر من 10 آلاف كتاب. أما بالنسبة إلى البلديات، فتقول عاصي: “يقوم فريق عمل متخصّص بالكشف على حجم الأرشيف ونوعه، ثم ينجز دراسة مفصّلة: كلفة الأرشفة الورقيَّة، اللوازم المكتبيَّة من ملفات ورفوف وعلب للحفظ وتجهيزات للغرفة و”ميكروفيلم”، وكذلك تحديد المدة التي يحتاج إليها فريق العمل لإنجاز المشروع… وفي كلِّ ذلك لم نواجه أية صعوبة. نقوم وحدنا بين المؤسَّسات بكلِّ هذه الأعمال مجتمعة”.
لدى المركز الوطني للأرشفة برامج أرشيفية خاصة به. تقول عاصي: “نحن لا نسرق برامج، ولكنَّنا نصنع برامجنا ونجري التعديلات التي تطلبها المؤسَّسات عليها”. وتوضح أنَّ المركز أجرى دراسة مفصّلة عن المشاكل التي تواجهها البلديات، “فالمستخدم لديها يريد أسهل طريقة للوصول إلى المعلومة، وقد توصَّلنا إلى طريقة بحيث يتم استرجاع أية معلومة مع ملفّ “بي دي أف” الخاصّ بها”.
“اذهب وفتِّش” تجاوزناها، تؤكد عاصي. وتشرح: “أجرينا اختبارًا في إحدى البلديات في حال كان هناك عطل في الحواسيب أو البرامج، ووضعنا فهرسًا يدويًا لكلِّ معاملة. عندها، يطّلع الموظّف على عنوانها ورقمها ويسترجعها في دقيقتين كحدٍّ أقصى، والبرنامج يشمل نظام الإعارة للمستخدمين وكلّ التفاصيل المتعلقة به، كما يتقبّل كلّ شيء، كالفيديو والصور التي يسهل استرجاعها”.
وهناك ميزة تلفت عاصي الانتباه إليها، ألا وهي “ربط برنامج المكتبة بالهاتف الجوال الخاصّ بالمستخدم (عبر الإنترنت)، ليدخل إليه ويبحث عما يريده. وحاليًا، نعمل على تحويل المكتبة من مكتبة ورقيّة إلى إلكترونيّة”.
انفتاح على الأرشيف الخارجيّ
هل يقوم المركز بشراء أرشيف خاصّ به؟ تجيب عاصي: “المركز لديه ترخيص، وهو يشتري الوثائق والمخطوطات ويبيعها. نتولى مشاريعًا خارج لبنان، وتلقينا عروضًا مختلفة للعمل في العراق. نحن نصعد في مجال عملنا درجة درجة، كي لا نرتفع بسرعة ثم نهبط، وما زلنا في مرحلة التأسيس. وخلال السنوات الماضية، لم تُوجَّه إلينا أيّ ملاحظة، ولم نتأخّر عن خدمة البلديات”.
تعزو عاصي سبب نجاح المركز إلى “انفتاحه على المكتبات العالمية، فلا نكتفي بما نملكه من معلومات، بل نبحث عن التطور في علم الأرشفة والتقنيات الجديدة فيه”. وعندما تقارن بين الخدمات الأرشيفيّة التي يتولاها المركز وما قدمته إحدى المؤسَّسات في لبنان، هي “مؤسَّسة الأحوال الشخصية الفلسطينية”، تبدي مديرة المركز سرورها بالإنجاز، حيث “التزمت تصوير “ميكروفيلم”، وكان على تلك المؤسسة أن ترمّم 39 سجلًا فلسطينيًا، لكنها لم تستطع، فلجأت إلينا لترميمها”.
نستفسر من عاصي عما إذا كان المركز قد واجه صعوبات في ميدانه، فتوضح قائلةً: “بعض المؤسَّسات تتفاجأ بنظم الأرشفة الحديثة والسهلة الاستخدام التي نتولى إنجازها. نحن نؤرشف للشخص المعنيّ بلديته ونُمَكْنِنُها له، وهو يتفاجأ بوجود مؤسسة معنية بهذا الشأن ومتخصصة فيه”، ولكنها تتحدث في الوقت نفسه عن “تقصير” إعلامي من المركز بالترويج لنفسه”، ثم تستدرك بالقول: “أُفضِّل ألا أدفع ثمن الإعلانات على اللوائح في الطرقات، وأن أحسمه من الثمن الذي ستدفعه البلديات لنا. بدلًا من أن نحمّلها أعباء هذه الإعلانات، فَضَّلنا أن نزور البلديات أسبوعيًا ونعرض عليها فكرتنا، ثم نحدّد موعدًا مع المجلس البلدي، ونقدّم عرضًا عن البرنامج، ونعطي دراسة عن الكلفة”.
ترقيم للشوارع والبنى التحتية
من إنجازات المركز أيضًا والخدمات التي يفيد المجتمع بها، مساعدة الطلاب في أبحاثهم من دون ثمن مادي، وتوجيههم إلى المكان الصحيح، “من خلال معارفنا واتصالاتنا”، تقول عاصي. وتتابع: “لدينا فريق عمل ينظم الملفات ورقيًا ويؤرشفها، ثم يأتي دور فريق المكننة، ففريق التصوير المصغر لـ”مايكروفيلم”. بعدها، يعمل فريق على الكشف عن كلّ الأعمال قبل أن نسلِّم البلدية ما أنجزناه. في بعض المرات، قدمنا برنامجيًا أرشيفيًا ثمنه ثلاثة ملايين ليرة مجانًا إلى بلدية لا تقدر على شرائه. كما أننا ندرّب العاملين في البلديات على تصنيف المعلومات وعلى عمليات الأرشفة والمكننة والتوثيق”.
مشروع جديد التزمه مركز الأرشفة وأخذ وكالته في جنوب لبنان، هو ترقيم الشّوارع والبنية التحتية. تمّ عرض هذا البرنامج على البلديات المعنيّة، ولكنَّها ما زالت تقوم بدراسته. المشكلة الأساسية فيه هي الكلفة العالية لإنجازه، وعدم قدرة البلديات على تحمّلها، علمًا أنّ المشروع قيد البحث مع المراجع المختصَّة. كذلك، واجهنا مشكلة فيه، تضيف عاصي، تتعلّق بالشق الأمني، لترقيم الأبنية والحصول على أسماء أصحابها وغيرها من المعلومات.
كذلك، “تعاونَّا مع المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، ورمّمْنا الوصايا والوثائق في مؤسَّسة حفظ آثار الشهداء. وقد تمت معالجتها بحسب الأصول المتبعة، من خلال ترميمها وحفظها في ملفات خالية من الحموضة، وتأمين أماكن مخصصة لها بحسب المعايير المتبعة عالميا“، تختم عاصي.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: المركز الوطني للأرشفة والتوثيق في لبنان تعرّفوا إلى الأرشيف الأصفر
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- “دار النمر” ومجموعته الفنيَّة المتنوّعة
- منظّمة “أمم” للأبحاث والتوثيق.. ديوان للذّاكرة اللبنانيَّة
- ذاكرة مصر المتجدّدة.. وأحلام التحوّل نحو الصّناعة الثقافيّة
- أرشيف “المدرسة الصِّحافيّة” مستمرٌ برفد العالم بالمعلومات والصّور
- أرشيف الإذاعة ذو خصوصية وقديمُه يرمز إلى هويتها
- “مركز الدّراسات الفلسطينيّة” أرشيفًا ومكتبة
- “السفير”: مليون ونصف قصاصة صحافية مفهرسة
- مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت.. أرشيف تاريخي واقتناء لكل ثمين