“دار النمر” ومجموعته الفنيَّة المتنوّعة
مشروع لحفظ الذاكرة الفلسطينية.. وطموح للرقمنة والإتاحة للناس
*حسن زراقط
منذ أربعين عامًا، بدأ جامع الأعمال الفنية، رامي النمر، اقتناء كلّ ما يتعلق بتاريخ المنطقة العربية والعثمانية، إلى جانب مقتنيات فنية مختلفة. شغفه ببلاد الشام وتراثها، دفعه إلى تأسيس مجموعة ثقافية، يسعى من خلالها إلى حفظ الهوية التي يجري العمل على تشويهها في مجالات الفن واللغة والإرث الإسلامي والعربي، كالوثائق المرتبطة بتاريخ المنطقة العربية منذ الحقبة البريطانية، ثم الفرنسية، حتى مجيء العثمانيين إليها.
يهتمّ النمر بحفظ التاريخ الفلسطيني من الضياع، وهو الذي يُباع في المزادات في لندن وأميركا، ويقوم الإسرائيليون بشرائه، والإضاءة على الإنتاج الثقافي في بلاد الشام. تقول المديرة التنفيذية في “دار النمر”، رشا صلاح، إنّ المجموعة تتضمَّن أولى المجلات التي طُبعت في فلسطين، وأرشيفًا وصورًا لأوائل حركات المقاومة الفلسطينية المعادية للصهيونية قبل إعلان دولة إسرائيل، والمراسلات بين العرب والبريطانيين والفرنسيين، التي تتحدّث عما كان يجري في المنطقة من مجازر ومعلومات مهمّة تاريخيًا.
منذ سنة ونيّف، تأسَّس “دار النمر” للفن والثقافة في بيروت في مسعى لجذب الأنظار نحو الأرشيف الفلسطينيّ من وثائق وتراث، كمؤسَّسة فنية مستقلّة غير ربحية وفضاء ثقافيّ تفاعليّ. تتميّز “مجموعة النمر الفنية”، وهي توأم “دار النمر” في بيروت، بتنوّع مضمونها من صور ووثائق ومعادن وأثريات.
مقتنيات بجوهر تاريخيّ
تبدي مسؤولة المجموعة لمى قبرصلي اهتمامًا بمسألة حفظ التراث والوثائق وأرشفتها بحسب الإمكانيات المتاحة للدار الَّذي يستضيف المجموعة ويديرها، وينتقي ما يشتريه ليسدّ النقص فيها. تتألّف المجموعة من وسائط عديدة، تتراوح بين أعمال على الورق، زجاج، فضة، عملات معدنية، صور، رسومات، سيراميك، فضيات، ومعادن، فهي مجموعة عامَّة جدًا. وفي هذه المجموعة حوالى 3 آلاف قطعة (ما عدا الأشياء التي يجري شراؤها باستمرار). تقول قبرصلي: “إنه أرشيف كبير جدًا. بدأ رامي النمر بجمع القطع مذ كان شابًا صغيرًا، إذ كان يهتمّ بشراء العملات المعدنية والطوابع والزجاج”.
ويضمّ الدار، إلى جانب المجموعة الفنية، مخطوطات، وقطعًا خزفية، وتحفًا زجاجية، وأسلحة، ودروعًا، وأقمشة، وأدوات معدنية، وتحفًا خشبية مطعّمة بالصدف، وأيقونات، وصلبانًا من القدس، وفخارًا أرمنيًا أيضًا من القدس، وأعمالًا فنية فلسطينية حديثة ومعاصرة، إضافةً إلى لوحات ورسوم لمستشرقين.
عملية شراء هذه المواد والأغراض ليست عبثية، بل تتمّ لملء الفراغات أو الثغرات في المجموعة، وليس الهدف منها هو الشراء البحت. وبحسب قبرصلي، يهدف العمل إلى تكوين مجموعة “لحفط تاريخنا وثقافتنا وعرضها، ونشر المعرفة أكثر، وأيضًا جذب الجمهور. فللمجموعة جوهر قويّ”، ويسعى الدار إلى شراء النواقص من خلال طرق مختلفة، فيقوم مثلًا ببيع بعض المقتنيات من أجل شراء ما ينقص المجموعة.
لا يمكن أن يجد الدار كلّ ما يريده من آثار ووثائق قديمة، “لكنَّ الأمر قابل للتحقّق مع الصبر، ويحتاج إلى المزيد من الوقت”، تخبرنا قبرصلي. كما يتمّ الحصول على المقتنيات في المجموعة من خلال معارض ومبيعات خاصَّة ومزادات علنيَّة، بعضها الإسلامية، تقام مرتين في كلّ عام في لندن، وتعرض الصور والوثائق والخرائط والنصوص القديمة وغيرها، فضلًا عن المخطوطات التي يجري شراؤها بشكل مستمرّ.
يسعى الدّار إلى اقتناء الأرشيف أكثر من التراث الفلسطيني. افتُتح أول معرض للدار بالمشاركة مع “متحف فلسطين” المتنّقل، وكان يدور حول تاريخ التطريز الفلسطيني. وبحسب صلاح، يتمثَّل الهدف من هذه الشراكة في دعم متحف فلسطيني، بالرغم من كلّ محاولات الاحتلال لعرقلته، ولكن الدار، توضح صلاح، “لا يهتم بالتراث كتراث فلكلوري، بل بالتاريخ السياسي والإرث الثقافي والفني لفلسطين”، مشيرةً إلى أنّ معرض “مداد” للخط العربي، الذي نظَّمه الدار مؤخرًا، هو معرض عامٌ، لكنه يسلِّط الضوء على الإرث التاريخي في المنطقة من الخط العربي إلى الإبداع في تخطيط المصاحف والمخطوطات العربية واللوحات والإنجيل، وكلّ ما من شأنه كسر “الكليشيهات” والصور النمطية عن المنطقة، وهو ما يهمّ الدار.
ويهتمّ النمر أيضًا بالمجموعة الصوفية التي تنضوي تحت مظلّة الفن الإسلامي، وهو يتمنّى أن يعرضها الدار بعد سنتين، لأنها “جميلة جدًا”، كما تصفها قبرصلي. أما سبب انتظار هذه المدّة الطويلة، فتعلّله بأنّ “كل معرض نريد إقامته يجب أن نقوم بأبحاث حول مواده وإعداد كاتالوغ (دليل) خاصّ به”.
وفيما يتعلق بأرشيف فلسطين، يوجد لدى الدار كتاب يتضمَّن وثائق مختلفة، من رسومات ونصوص، تلقي الضّوء على التطور التاريخي والسياسي لفلسطين والشرق الأدنى. وتتضمّن المجموعة مواد توثيقية من القرنين السادس عشر والعشرين.
مشروع حفظ المقتنيات
في مجال الاهتمام بالمقتنيات والوثائق وحفظها، لدى الدار أسلوب حفظ خاص، وتحديدًا بالنسبة إلى المخطوطات والأعمال الموجودة على الورق. وتقول قبرصلي: “في مرات عدة، وصلتنا كتب في حالة يرثى لها. وبما أنَّ الدار لا يمتلك مختبرات متخصّصة لترميمها، فإنه ينسّق مع مرممين في لندن أو مع الجامعة الأميركية في بيروت التي عملنا مع كثيرًا، فهم يقومون بتنظيفها من السوس وترميمها، ويصنعون عُلبًا مضادة للحمض، وصناديقَ مخصصة لها، نظرًا إلى أنهم يمتلكون المرافق المختصّة لهذه الأعمال”.
وبرغم ذلك، تنظِّف بنفسها المواد من السوس في بعض الأحيان، وهي مواد تحتاج إلى بيئة مناسبة ونسبة رطوبة محدّدة في الغرفة/ مكان الحفظ، سواء كانت من الزجاج أو كانت رسومات أو قطعًا مصنوعة من الخشب. وفي الدار كادر متخصّص في تنظيف الحديد والزجاج والصحف والصور والمصاحف…
عمليَّة الحفظ في الدار “أساسية ومهمّة”، في رأيها، “ليس فقط من أجل الحاضر، بل من أجل المستقبل أيضًا”. وانطلاقًا من أهميتها، شاركت قبرصلي في العديد من ورش العمل التي تتناول كيفية الحفظ والأرشفة، كي تكون متمكّنة في مجال عملها.
العمل الأرشيفي.. واجب ومسؤولية
الأرشيف والمجموعة الفنيَّة مختلفتان عن “دار النمر”، فقد مضى على تأسيس الدار سنة وشهران، لكن رامي النمر يجمع المقتنيات منذ 40 عامًا، فما استجدّ في العمل بين المجموعة الفنية (مقتنيات رامي النمر) والدار، هو كيفيَّة إدارة هذه المجموعة وعرضها. وقد مرَّ العمل ككلّ بمراحل متعددة قبل أن يُولد، من خلال رؤية النمر ومساعيه إلى تطوير المجموعة الخاصَّة به، تقول صلاح.
وتنقل عن النّمر أنَّ أكثر ما يركّز عليه هو المزادات العلنية المتعلقة بالأرشيف في منطقة الشام. “المؤكد أنه سيكون موجودًا فيها، وسيحاول شراء مقتينات، وكأنَّ هناك حالة طارئة تتمثّل بمحاولة شراء هذا الأرشيف الذي يضيع في المزادات”، تضيف.
المحافظة على الأرشيف الفلسطينيّ “واجب”، تقول صلاح، وهو يشمل الوثائق الورقية والصور، ولا يختصّ بالتراث وحده. وفي الوقت نفسه، تؤكّد أن الترويج يتم من خلال المعارض التي يقيمها الدار: “لأننا مؤسَّسة لا تبتغي الربح، فليس لدينا بيع ولا شراء. ودائمًا ما تكون الموادّ موجودة للعرض من دون أي مقابل”.
وفي أواخر العام 2018، سيقام معرض آخر من “مداد”، يضمّ المجموعة الفنية للدار، وستتمحور مواضيعه حول العناوين التالية: “100 سنة على وعد بلفور”، و”70 سنة على النكبة” و”30 سنة على الانتفاضة الأولى”، وهو متعلقٌ بالأرشفة والوثائق والصور، ويحضِّر له الدار بدءًا من الآن عبر اختيار الزوايا التي سيظهر المعرض من خلالها، وكذلك اختيار ما سيُعرض من المقتيات بعددها الهائل من وثائق وصور.
نظام “كولِّكتروم” للتوثيق
يستخدم الدار نظام “كولِّكتروم” للتوثيق، وليس للأرشفة، وهو يحتوي قاعدة بيانات مهمَّة. أنشأه المزاد العلني “كريستيز”؛ أحد أكبر المزادات العلنية في العالم، بحسب قبرصلي، وهم يطوِّرون هذا البرنامج للأشخاص الذين يجمعون المقتنيات والبائعين والمعارض، كي نستطيع حفظ قاعدة البيانات الخاصة عليه، وتضيف: “نحن بدورنا، نقوم بإدخال عنوان الوثيقة أو المادة الموجودة وتاريخها وخانة الفهرسة وتاريخ شرائها، وهو مناسب لمجموعة من عشرة آلاف قطعة وسهل الاستعمال”.
نتطرَّق مع قبرصلي إلى آلية الأرشفة في الدار، فتشير إلى أنَّ كل شيء يتم مسحه وتوثيقه، لكن ليس رقمنته بمستوى عالي الجودة، وهذه هي الخطوة الثانية المنتظرة، من خلال بناء غرفة للرقمنة ومساحة للحفظ، ليكون كلّ شيء مؤرشفًا بدقة عالية. كذلك، لدى الدار رسومات محفوظة وموجودة على “ميكروفيلم” (فيلم مصغَّر عن كتاب)، إلا أن الرقمنة تبقى أمرًا أساسيًا جدًا.
وتوضح أنّ الصور والوثائق هي أصغر جزء في المجموعة، بينما الأجزاء الأكبر هي التي تعرض الفن الإسلامي (الزجاح والفضة والورق). وخلال الأشهر القليلة الماضية، حصل نقاش حول طرائق الأرشفة للوثائق والصور، نظرًا إلى الحاجة إلى وجود مختبر للرقمنة لهذه الغاية.
شراكة في الحفظ والعرض
بعد عام وشهرين على تأسيس الدار، تشير قبرصلي إلى أن مؤسّسات عديدة لم تعرفه بعد حتى الآن، ولكن في كلّ معرض أو نشاط تم تنظيمه، كان ثمة شريك معهم فيه، كما في المعرض الأول، الذي نُظم بالشراكة مع “متحف فلسطين”، حيث استضاف الدار معرضه. وكان المعرض الثاني بالشراكة “مؤسسة التعاون” الفلسطينية. أيضًا كان معرض قلنديا الدولي بعنوان “بحر من حكايات” (أقيم في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 في بيروت وفلسطن في الوقت نفسه)، بالشراكة مع “دار المصوِّر”. وتضيف قبرصلي: “نحن منفتحون على الشراكة ما دام ليس فيها أية شروط أو عناوين سياسية معينة”.
في الوقت الحالي، يتعاون الدار مع مكتبة الأرشفة الخاصة في الجامعة الأميركية في بيروت، وهي شريكة للدار، كما تصفها قبرصلي، فقد ساعدت كثيرًا في شؤون الرقمنة والصيانة للوثائق والأشياء، وجهزت كل الصناديق لحفظ المقتنيات وتنظيفها. وفي لبنان، لا توجد مختبرات للصيانة والترميم والتدريب في هذا المجال، ولكن قبرصلي ترى أن كثيرًا من الناس أصبحوا واعين بأهمية حفظ تراثهم وصيانته، بغض النظر عن الطريقة والأسلوب.
في المحصّلة، ومع وجود الموظفين المتخصّصين، وتوافر الوقت والميزانية، لا بدّ من أن يتحقّق الطموح برقمنة كل المجموعة وإتاحتها للناس على الإنترنت، وبخاصة للباحثين والخبراء والطلبة، وهو ما تؤكّد قبرصلي الحاجة إلى الوقت لتحقيقه، وإلى الكلفة المالية المرتفعة، وإلى فريق كبير. “حاليًا، أقوم بنفسي بالعرض، لأنني أؤمن بأن هذه المجموعة لا ينبغي أن تُترك خلف أبواب مغلقة”، تختم.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: دار النمر ومجموعته الفنيَّة المتنوّعة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- “المركز الوطني للأرشفة والتوثيق” في لبنان تعرّفوا إلى الأرشيف الأصفر
- منظّمة “أمم” للأبحاث والتوثيق.. ديوان للذّاكرة اللبنانيَّة
- ذاكرة مصر المتجدّدة.. وأحلام التحوّل نحو الصّناعة الثقافيّة
- أرشيف “المدرسة الصِّحافيّة” مستمرٌ برفد العالم بالمعلومات والصّور
- أرشيف الإذاعة ذو خصوصية وقديمُه يرمز إلى هويتها
- “مركز الدّراسات الفلسطينيّة” أرشيفًا ومكتبة
- “السفير”: مليون ونصف قصاصة صحافية مفهرسة
- مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت.. أرشيف تاريخي واقتناء لكل ثمين