التعليم وميزانيات البحرين في عهد بلجريف
مذ زار اللورد كيرزون (George Nathaniel Curzon) دول الخليج، ومن بينها البحرين، في أواخر العام 1903، بدأ بالتفكير جديًا في إجراء إصلاحات إدارية في “مشيخات” الخليج البعيدة تمامًا عن نواحي المدينة الحديثة، والتي يغلّف أنظمتها غبار القرون الوسط. هذا ما حدث في البحرين. ونحن في هذا المقال، سنتناول هذه الفكرة من خلال إلقاء الضوء على الوثائق البريطانية التي صدرت في القرن العشرين.
تمّت تلك الإصلاحات بداية بتغيير الوكلاء السابقين لبريطانيا في البحرين ذوي الموطن الخليجي، إلى وكلاء، أصبح يُطلق عليهم “مُعتمدين” فيما بعد، من القادة العسكريين البريطانيين. وكان النقيب ديكسون (Harold Richard Patrick Dickson) أهم شخصية، إذ بدأت حركة الإصلاحات الإدارية على يديه في البحرين، وإن كانت بطيئة في شكلها الأول، كمقدمة لوضع البحرين على أول قضبان سكة الدولة الحديثة. ثم كانت الحركة الإصلاحية الإدارية التحديثية الكبرى على يد الرائد (كلايف ديلي) بعد العام 1920.
وفي العام 1922، بدأت وزارة الخارجية في لندن اعتماد سياسة مباشرة في ما يتعلق بتحويل مسار الإدارة العتيقة السائدة في البحرين، إثر بروز معارضة واضحة لعملية التحديث من بعض الفئات المتضررة بشكل مباشر منها. ففي تاريخ 7 ديسمبر من تلك السنة، صدرت رسالة واضحة وصريحة عن خارجية حكومة الهند البريطانية، جاءت عباراتها على هذا النحو: “نودّ التعبير عن خالص أملنا في أن يتمّ اتّخاذ الخطوات الفورية لإدخال الإصلاحات في البحرين، من أجل ضمان المعاملة العادلة للشيعة”1. طبعًا، هدف التحديث ليس طائفة دون أخرى، ولكنه كان مدخلًا سياسيًا بريطانيًا لولوج هذا التحديث بشكل من الأشكال. وما رفع المظلومية عن هذه الفئة إلا عنوانًا بارزًا صبغ تلك الفترة.
ويُعتبر كل من (ديلي)، ومستشار حكومة البحرين لاحقًا، (تشارلز بلجريف)، هما من تم على عاتقهما تحديث البحرين على منهج السياسة البريطانية في منطقة الخليج والهند؛ تحديث تحت سلطات الحماية البريطانية، وليس بعيدًا عنها أو متمتعًا بميزة الطابع والاختيار الشعبي الحر. وفي عهد هذين الرجلين، بدأت تظهر ميزانيات سنوية للبحرين، فيها وارد وصادر، وأرقام هناك وهناك حول العائدات والنفقات الحكومية وغير الحكومية.
هكذا ولدت الإدارة الحديثة في البحرين مطلع القرن العشرين. ولن نبحث الآن في تفاصيل هذا الموضوع، فلنا معه وقفة مطولة ذات يوم، إلا أننا سنقف فقط عند بعض أرقام ميزانيات تلك الفترة المبكرة في الخليج، من خلال نموذج تطوير البحرين وتحديثه، والذي سعت بريطانيا إلى تعميمه على بقية “مشيخات” الخليج فيما بعد، وبالتحديد ما يشير منها إلى أرقام ميزانية التعليم، وهو أهم عنصر في تنمية كل المجتمعات الحضارية وتحديثها.
في قراءة سريعة وخاطفة لبعض البنود في ميزانية واحدة، وكانت تُكتب بالعام الهجري وليس الميلادي، وهي للعام 1349 هـ (1930م)، نجد الآتي:
ميزانية العام 1349 ([2])
____________________
أمن الدولة
____________________
أ. الشرطة الهندية والسجن 112,000 روبية
ب. المعدات 500 روبية
ت. الحراس 53,000 روبية
ث. الإبعاد [النفي خارج البحرين] 500 روبية
ج. التعليم العام 60,000 روبية
ح. القسم الطبي 26,400 روبية
خ. الطوارئ، والقرطاسية، والطباعة، وغيرها 4,000 روبية
________________________________________________
إذًا منذ البداية، تم التخطيط والتنظير وتوجيه الدولة الحديثة في البحرين في مستهلّ عهدها بمنهجية الأمن أولًا، وبشكل مبالغ فيه، ثم تأتي بقية المجالات التنموية والتعليمية. سياسة الأمن هذه، القلقة على الوجود البريطاني في المنطقة، صبغت تاريخ التحديث في البحرين منذ الومضة الأولى، واتبعها كل من جاء بعدهم. كان ذلك برسمٍ وسياسةٍ من سلطات الحماية البريطانية على يد (ديلي) ثم مستشارها الأوحد (بلجريف)، وهو كان أساسًا عبدًا مأمورًا، لا يستطيع رسم كل السياسة بنفسه.
ففي مقارنة بسيطة بين الميزانية المخصصة للشرطة، والسجون، والحراس الليليين، وحتى حركة نفي الناس خارج البحرين منذ ذاك العهد! نجدها قُدِّرَت بـ 166 ألف روبية للعام 1930، بينما كان عدد أفراد الشرطة لا يتجاوز 150 شخصًا، معظمهم غير بحرينيين.
أما التعليم، وهو الأهم، فلم يحصل سوى على حوالى ثلث ميزانية الأمن، وليس عموم الميزانية، وهو رقم بسيط لم يتجاوز 60 ألف روبية لكل سكان البحرين، الذين تجاوزوا حاجز الـ 160 ألف نسمة آنذاك! ناهيك بتبذير أموال أخرى كبيرة، كرواتب ومخصصات لأفراد لا يقدمون أي عمل للدولة، كما يعترف المستشار بنفسه، ومعه المعتمدون البريطانيون كافة، في تقاريرهم.
وهكذا استمرت بنود تلك الميزانيات في التمييز بين الأمن والتعليم. وهنا ليس الأمن بمعنى حماية الناس، بل هو أمن الدولة، وهو في نظرهم حينها، أمن الحكومة التي تسوس الناس، رغم أن تلك الحكومة لم تكن تدير أمر مجموعة مجرمين حتى يتم جلب ذاك العدد من الشرطة المسلحين بالنار في العشرينيات من القرن العشرين لحكمهم، فمن المعروف خليجيًا وعند الساسة الإنجليز، أن أهل البحرين بسطاء ومسالمون على مر التاريخ، حتى وهم يُطالبون ببعض الحقوق من الحكومة، وإلا لما استطاعت كل قوة خارجية من السيطرة على بلادهم وحكمها وصبّ صنوف القهر والويل عليهم.
ولتأكيد ما نتحدّث عنه حول تلك الميزانيات في بداية النهضة الحديثة في البحرين، يكفي أن نلاحظ أنّ إيرادات الميزانية لم تكن قليلة حينها، فقد بلغت في العام 1349 هـ التالي:
الإيرادات
الضرائب الجمركية، وتتضمن:
- رسوم الإشراف
- بيع القوالب
- شهادات الشحن
- رسوم التعديل
- رسوم الشهادات
- الخانجية
- الحمالية (العاملون في الشحن)
- رسوم استخدام رصيف الميناء
- عائدات الضرائب
____________________________
مجموع ما سبق كلّه 830,000 روبية
______________________________________________________________________________
لضرائب على السيارات ورخص القيادة 5,000 روبية
_____________________________________________________________________________
رخص صيد اللؤلؤ 50,000 روبية
______________________________________________________________________________
تسجيل سفن الغوص 3,000 روبية
______________________________________________________________________________
إيرادات متنوعة تتضمن مستحقات الميناء، وغيرها 10,600 روبية
______________________________________________________________________________
رسوم جوازات المرور 10,000 روبية
______________________________________________________________________________
إيرادات القضاء، ورسوم تسجيل الأراضي 20,000 روبية
______________________________________________________________________________
الفائدة على إيداعات البنك الثابتة وغيرها 19,000 روبية
______________________________________________________________________________
إيجارات الأراضي الحكومية، وتتضمن المطار والامتيازات النفطية 12,000 روبية
______________________________________________________________________________
الكهرباء 31,600 روبية
______________________________________________________________________________
القروض القابلة للاسترداد 33,969 روبية
______________________________________________________________________________
الرصيد في صندوق البحرين 26,162 روبية
______________________________________________________________________________
المجموع الكلي 1,051,331 روبية
______________________________________________________________________________
وهنا، نورد اعتراف المستشار بلجريف نفسه في العام 1930، أي بعد حوالى عشر سنوات من بدء التعليم النظامي في البحرين، بأن الدولة “تؤمن التعليم المجاني. وقد اقتُرِحَ فرض بعض الرسوم، إلا أن ما لا شك فيه هو أن القسم الأكبر من الأهالي يرزحون في ظلّ الفقر المدقع، ولا يستطيعون الدفع، ومن المستحيل التمييز بين الناس على أساس أوضاعهم الاقتصادية. وقد تراجع مبلغ التعليم هذا العام من 90,000 روبية إلى 60,000 روبية. ستتأثر الكثير من الاقتصاديات نتيجة التغيير في رواتب المدرسين، ولن يتم افتتاح أي مدارس جديدة خلال العام”3.
ولحكاية الوثيقة بقية…
____________________
المراجع
[1] Tuson, Penelope (Chief Editor), Records of Bahrain 1820–1960 (England 1993), Vol.4 (1923-1932), p. 391.
[2] Tuson, Penelope (Chief Editor), Records of Bahrain 1820–1960, Vol.4, p.495.
[3] Tuson, Penelope (Chief Editor), Records of Bahrain 1820–1960, Vol.4, p.500
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: التعليم وميزانيات البحرين في عهد بلجريف
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- حكاية أحمد بن عبّاس بين البحرين والقطيف
- جدّة.. قطب الرّحى
- السّلاح بين التّجارة والسّياسة زمن الإنجليز في الخليج
- من والي البصرة إلى “قائمقامية” الدوحة العلاقات العربية – التركية
- “عشّ النمل”: ملفّ العبيد في الخليج والبحرين
- علاقة القبائل العربية في البصرة بالبرتغاليين
- جزر البحرين بين حكم “الهرامزة” وإطماع القبائل العربية