السّلاح بين التّجارة والسّياسة زمن الإنجليز في الخليج
باعتراف الوثائق البريطانيّة، فإنَّ تجارة السّلاح انتعشت، والرغبة في امتلاكه في الخليج توسّعت، وخصوصًا في السّاحل العربي منه، بعد الحرب البريطانية – الأفغانية (1879 – 1880). لذا، انتبهت السّلطات الإنجليزيّة في الخليج بعد نشوب الحرب الأفغانية الثالثة إلى هذه القضيَّة، إثر نجاح استخباراتها بتتبّع وصول السلاح بكميات كبيرة إلى الهند عن طريق الخليج وفارس، فجاءت تدابير تقييد حركة السّلاح في الخليج للمرة الأولى بشكل سريع في العام 1880، عندما أمرت حكومة بومباي بعدم منح الرخص لتصدير الشحنات الثقيلة من الأسلحة والذخيرة إلى موانئ الخليج، وبإجراء مراقبة دقيقة لعملية استيراد مثل تلك الشحنات في كراتشي وفي الساحل الغربي للخليج.
وسرعان ما أذعنت حكومة فارس لطلب السلطات الإنجليزية في الخليج، وأعلنت في العام 1881 أنّ عمليّة استيراد الأسلحة وذخائرها في فارس غير شرعية، وصدر مرسوم من الشاه بحظر هذه التجارة في ميناء بوشهر في يونيو/ حزيران من العام 1881، حيث كان أوَّل المستوردين من القطاع الخاصّ للأسلحة في الخليج، في ميناء “بوشهر”، شركة (أ. وب. ج. مالكوم)، ثم تبعتها شركة فريسيس تايمز (Fracis Times)، وهي صاحبة البيت التجاري الفرنسي الإنجليزي، وتعتبر أول وكالة لبيع الأسلحة تأسَّست في بوشهر في العام 1887.
كما حثَّت شيخ البحرين، عيسى بن علي، على إصدار حظر عام لتجارة السلاح في العام 1896، على رعاياه والرعايا الأجانب. وكان تبرير ذلك الرغبة في إيقاف الإدخال العشوائي للأسلحة والذخائر إلى البحرين والساحل المجاور، إلا أنه استثنى واردات الرعايا البريطانيين من الحظر، وفرض ضريبة عليها بقيمة 25 في المئة.
كنا نودّ فتح ملفّ تجارة السّلاح في الخليج من أكثر من زاوية، ولكن لضيق مساحة هذه الحكاية، آثرنا الإشارة فقط إلى بعض الوثائق الخاصّة بهذه التّجارة، وخصوصًا أنَّ العديد من الوثائق البريطانية تم الكشف عنها ضمن ملف تجارة الأسلحة في الخليج مؤخرًا بين القرنين التاسع عشر والعشرين، مما تنشره تباعًا مكتبة قطر الرقميّة. كما أفرد (ج. ج. لوريمر) في مصنّفه الموسوم اختصارًا بـ “دليل الخليج”، حوالى 66 صفحة في ملحق “س”، غطّت بعض ما يخصّ تجارة السلاح في فترة الحماية البريطانية في الخليج منذ العام 1879 وحتى العقد الأول من القرن العشرين، قُبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
“حكاية وثيقة” لهذا العدد من ملفّ تجارة السلاح في الخليج، تبحث في السلاح بين التجارة والسياسة البريطانية في المنطقة، الَّتي عملت طوال تلك الحقب على إدارة هذه التجارة وفقًا لمصالحها، وحفاظًا على مكتسباتها، وضمانًا لوجودها واستمرار احتكارها لكلّ أنواع التجارات في المنطقة، المحرمة أو غير المحرمة، من وجهة نظرها هي فقط.
وبناءً عليه، نشير اعتمادًا على الوثائق المنشورة في هذه الوريقات، إلى أنَّ الإجراءات البريطانية التي ذكرناها في المقدّمة، لم تنفع كثيرًا، ولم تحدّ من تجارة السلاح في الخليج، مع بروز تنافس محموم بين شركات صنع الأسلحة الأوروبية وتصديرها إلى مناطق النزاع العربي ذات التربة الخصبة عادةً لمثل هذه التجارة منذ تلك السنوات وإلى اليوم. وبناءً على هذا الأمر، تحركت حكومة الهند البريطانيَّة، بالتنسيق مع الحكومة الفارسيّة، لدفع سلطان مسقط نحو اتخاذ إجراء تمّ بموجبه إصدار تصريح في يناير/ كانون الثاني من العام 1898 لمنع تصدير الأسلحة من مسقط إلى الموانئ الفارسية والهندية. منح هذا التصريح السفن البريطانية حقّ تفتيش أية مراكب في مياه مسقط الإقليميّة، إذا كانت ترفع علم مسقط أو بريطانيا أو فارس، ومصادرة ما يُعثر عليه فوق ظهرها من أسلحة موجّهة إلى تلك الموانئ.
أمّا لماذا تمَّ التركيز على ميناء مسقط تحديدًا دون غيره! فلأنّه كان مركز هذه التجارة، لتمتّعه دون غيره من موانئ مشيخات الخليج وإماراته ودوله باستقلال معترف به دوليًا بشكل مبكر، وإن كان شكليًا، وهذا ما أتاح له عقد عدة اتفاقيات دولية مكَّنته من العمل في تجارة الأسلحة، حتى أضحت من أهم أنواع التجارة في ميناء مسقط وبقيّة الموانئ العُمانية.
وكان عدد من الأفراد والتجار والمؤسَّسات المستقرة في مسقط من رعايا بريطانيا ودول أخرى، يتولون هذه التّجارة، بطلب أغلب شحنات الأسلحة من مصانع أوروبا مباشرة. وقد بلغت شحنات الأسلحة التي وصلت من زنجبار إلى مسقط مثلًا بين العام 1891 والعام 1897، ما لا يقلّ عن 11,500 قطعة سلاح مختلفة الأحجام، منها حوالى 4,300 بندقية و600 ألف طلقة في العام 1895 وحده. وكان يعاد تصدير أكثر من نصف تلك الكميّة من مسقط إلى الكويت والبحرين وموانئ خليجية أخرى. كما أنّ جزءًا كبيرًا من تلك الأسلحة نقلته السفن البخارية التابعة لسلطان زنجبار، وتولّى تجّار مسقط، ممن ذكرناهم آنفًا، عملية الاستيراد وإعادة التصدير من أوروبا عبر زنجبار وإلى مسقط.
وعندما نجحت السلطات البريطانية مع السلطان فيصل بن تركي في عُمان في مثل هذا العمل، تبع ذلك المسارعة إلى ضمّ جزر البحرين وحكامها إلى مثل هذه الإجراءات، ودعم المقيم البريطاني في الخليج بصلاحيات التدخل في منع مرور الأسلحة أو تصديرها من البحرين.
حينذاك، قام العقيد (أم. جيه. ميد)، المقيم السياسي في الخليج، في بوشهر، بزيارة سريعة إلى البحرين على متن سفينة البحرية الهندية الملكية لورانس (Lawrence)، بتاريخ 6 شباط/ فبراير 1898. خلال تلك الزيارة، قابل الشيخ عيسى بن علي، منتهزًا الفرصة لإبلاغه برغبة حكومة الهند في منع تجارة الأسلحة من البحرين وإليها. كما قام بدفع الشيخ عيسى إلى توقيع اتفاق مشابه للتّصريح الّذي صدر سابقًا عن سلطان عُمان.
وجاء التصريح الخاصّ بالبحرين بحسب الوثيقة التالية:
“فليكن معلومًا لدى رعايانا الَّذين يرون هذا الإعلان، أنه حين عبَّرت كلٌّ من الحكومة البريطانية والفارسية لنا عن رغبتهما في منع دخول الأسلحة والذخيرة إلى الهند وفارس، وأشارتا إلى أنّ هناك سببًا يدفعهما إلى الاعتقاد بأنَّ الكثير من الأسلحة والذخيرة يتمّ تصديرها من البحرين إلى البلدين المذكورين سابقًا، عزمنا على الانضمام إليهما ومساعدتهما، على قدر ما يسمح به نفوذنا، لقمع تجارة الأسلحة والذخيرة بين البحرين والهند وفارس.
وبالتالي، نحن نحذّر رعايانا من أنّ الأسلحة والذخيرة كافة، المرسلة إلى هاتين المنطقتين، سيتم مصادرتها، وسيُعاقب كلّ من يشارك في هذه التجارة، إذ إنَّ إدخال الأسلحة والذخيرة إلى الهند وفارس والبحرين منعته حكومتا تلكما الدولتين. وبالتالي، فإنّه عمل غير قانونيّ. ولن يؤمِّن علم البحرين في المستقبل أيّ حماية للسفن التي تحمل هذه الأسلحة والذخيرة من أراضينا إلى الهند وفارس ومسقط.
وليكن معلومًا أيضًا لدى من يرون هذا التصريح، أننا سمحنا للسفن الحربية البريطانية والفارسية بتفتيش السفن التي تحمل أعلامهم وأعلامنا في مياهنا الإقليمية، ومصادرة الأسلحة والذخيرة كلها (الأسلحة الحربية)، الموجّهة إلى موانئ الهند وفارس ومسقط، حتى وإن كانت من ممتلكات رعايا بريطانيا، أو فارس، أو مسقط، أو البحرين. وقد سمحنا أيضًا لتلك السفن الحربية بتفتيش سفن البحرين في المياه الهندية والفارسية، التي يشتبه في أنها تحوي أسلحة وذخيرة موجّهة إلى موانئ الهند وفارس ومصادرتها”.
ويبدو أنّ كلّ ما قامت به بريطانيا عبر الاتفاقية الفارسية في العام ١٨٩٧، واتفاقية مسقط في العام ١٨٩٨، واتفاقية البحرين في العام ١٨٩٨، والقيود التي تم فرضها على التجار البريطانيين في مسقط، والأنظمة الصادرة في العام ١٨٩٨، واتفاقية الكويت مع الشيخ مبارك الصباح في العام 1900، ثم الاتفاقية مع زعماء الساحل المتصالح (الإمارات حاليًا) في العام ١٩٠٢، وإخطارات مسقط في العام ١٩٠٣، واتفاقية الأسلحة في “الكاروان” في العام ١٩٠٦، وكلّ سلطات التفتيش والاعتقال الممنوحة للسفن الملكية البريطانية، وأعمال مصادرة الأسلحة والذخيرة التي قامت بها السفن البريطانية الحربية بين نوفمبر ١٩٠٩ – مايو/ أيار ١٩١٠، لم يكن هدف بريطانيا منها محاولة القضاء على تجارة السلاح في الخليج بشكل تام من واقع الحرص على سلامة المواطنين بالطبع، أو الخوف عليهم من هذه الأسلحة الفتاكة، بل تداخلت هنا مصالح بريطانيا السياسية مع الخوف من استغلال الدول المنافسة لها لهذه التجارة، بهدف الولوج إلى الخليج ومنافستها سياسيًا وعسكريًا عليه، وخصوصًا فرنسا وألمانيا. والدليل أنَّ الوكيل السياسي البريطاني في مسقط كتب في يناير/ كانون الثاني من العام 1904 للمقيم البريطاني في الخليج، عن إمكانية قيام الحكومة البريطانية بدعم تجار السلاح البريطانيين في مسقط، لتمكينهم من الوقوف في وجه منافسيهم من التجار الأجانب. وفي رأيه، إنَّ هذا الخيار في حلّ المشكلة المتفاقمة حينها، هو الأنسب، لأنه سوف يتيح للبريطانيين التحكّم بتلك التجارة، كما سيؤدي إلى إبعاد بعض التجار الأجانب “المشاكسين”، كما وصف الفرنسيين، من دون الحاجة إلى استخدام القسر والإكراه من ناحية أخرى.
وعندما لم تتوقّف هذه التجارة كليًا حتى العام 1911، صارحت السلطات البريطانية السلطان فيصل بن تركي في مسقط، بأنَّ تهريب السلاح من هذا الميناء عبر خليج عُمان إلى داخل الخليج العربي، يمثل تهديدًا كبيرًا لمصالح بريطانيا الحيوية. وهنا بيت القصيد في كلّ تلك الإجراءات البريطانية في محاربة تجارة السلاح في الخليج، حتى لا يقع في أيدي جهات معارضة للسيطرة البريطانية على المنطقة، سواء كانت قوى محلية أو قوى أجنبية خارجية.
____________________
المراجع:
1- انظر:
The Arms Traffic in the Persian Gulf –IOR/L/PS/18/B175/0003.
2- لوريمر، ج. ج.، دليل الخليج، الدوحة، د.ت.، ج 6، ص 3582.
3- انظر:
Records of Bahrain, Primary Documents 1820-1960, (London, 1993), Vol. 3, Bahrain in 19 August 1897.
4 – السعدون، خالد، بريطانيا وتجارة السلاح في الخليج العربي (1898 – 1914)، الشارقة، 2008، ص 13.
5- انظر:
IOR/L/PS/10/112, no. 58, political Agent, Maskat, dated 16-1-1910.
6 – السعدون، خالد، بريطانيا وتجارة السلاح في الخليج العربي (1898 – 1914)، ص 12.
7- لوريمر، ج. ج.، دليل الخليج، ج 6، ص 3585.
8 – انظر:
Records of Bahrain, Primary Documents 1820-1960, (London, 1993), Vol. 3, no.39, Bushier, p. 49.
9- انظر:
IOR/L/P&S/10/112, No. 588, Political Agent, Maskat, dated 06.12.1904.
__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: السّلاح بين التّجارة والسّياسة زمن الإنجليز في الخليج
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- حكاية أحمد بن عبّاس بين البحرين والقطيف
- جدّة.. قطب الرّحى
- من والي البصرة إلى “قائمقامية” الدوحة العلاقات العربية – التركية
- “عشّ النمل”: ملفّ العبيد في الخليج والبحرين
- التعليم وميزانيات البحرين في عهد بلجريف
- علاقة القبائل العربية في البصرة بالبرتغاليين
- جزر البحرين بين حكم “الهرامزة” وإطماع القبائل العربية