أجرت الحوار/ هدي الدغفق
– نشأت في بيئة دينية شيعية، فما الذي دعاك إلى الخروج من دائرة نصوصها ومنهجيتها لتبحث في أصول الفقه؟
خرجت عن دائرة النصوص المؤسسة لمذهبي، لأني أرى النصوص غير صالحة لكل زمان ومكان، ولأن الدائرة تستحيل سجناً إذا لم نفتح مركزها، ولأني أرى نفسي خارج الطائفة منذ اللحظة التي أدركت فيها أن لي ذاتاً غير نصية. وهذا ما أوضحته في كتابي (خارج الطائفة).
ذهابي لكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) الذي هو من أمهات كتب أصول الفقه، كان هدفه التعرف على الطريقة التي يقرأ بها الفقيه النصوص الدينية، وأصول الفقه هو جهاز قراءة، وبعض أدواته تنتمي إلى علم تحليل الخطاب.لم أتعامل مع هذه الأصول كقواعد نهائية، بل أدوات قاصرة أصلا ومغلقة وهي بحاجة إلى أدوات أخرى تتيح لها توسيع أفق النص الديني. كنت أريد أنزع هذه الهالة التقديسية التي تقوم على تجهيل القارئ غير المتخصص دينياً قبال تهويل علم الفقيه، وتهويل تفقّهه بالنص الديني، وكأن التخصص في هذا النص حكراً على المؤسسة الدينية التي تروّض طلابها قبل أن تمكّنهم من أدواتها، وبهذا تضمن أن عقلهم سيبقى عبداً للنص ودليله يدور معه حيث ما دار، وأعني هنا حيث ما دار دليل النص، لا حيث ما دار الدليل بشكل مطلق كما توحي بذلك عبارتهم الأثيرة “نحن أبناء الدليل حيث ما مال نميل”.
ولحسن الحظ أن ظاهرية ابن حزم تمنحك هذه الفرصة، فهي وإن كانت تستخدم كلمة الدليل بشكل مففرط، إلا أنها لا تؤمن بالتقليد، وتذهب إلى أن النص الديني ليس فيه أسرار تحول دون فهمه وبإمكان أي قارئ يبذل مجهودا أن يفهمه ويفهم أوامره ونواهيه.
باختصار، ذهبت أنا إلى أصول الفقه لأكون خارجها، خارج دليلها، ونظام معرفتها، وآليات تحليلها للخطاب، وخارج أفقها.
– من ناحية ثانية ، في كتابك (خارج الطائفة) كأنك تساوي الانتماء إلى الطائفة بالطائفية ذاتها. كيف؟
لا أساوي الانتماء للطائفة بالطائفية، لكني لا أبرئ الطائفة من الطائفية، هي مصد من مصادرها، وتتغدى عبرها، والصراعات السياسية كما تشهد على ذلك منطقتنا، لا تجد أفضل من تكوين الطائفة لتوتير المشهد وبعث جنون الطائفية. لن تسعفنا حيل تجريم الطائفية وتطهير الطائفة، ولا تجريم القبائلية وتطهير القبيلة، ولا تجريم البعثية وتطهير البعث. الطوائف إذا كانت هي حقائق اجتماعية وسياسية اليوم في مشهد العالم العربي، فهي لم تكن إلا تكوينات سياسية وأنا غير ملزم بالبقاء في حزب تكون قبل أربعة عشر قرناً ثم صار مذهباً دينيا.
مع ذلك لا أريد أن أبدو مثالياً في نقدي للطائفة، وأساوي بين أشكال متباينة من أشكال الطائفية، هناك طائفية دينية تتعلق بتمسك جماعة بعقائدها الدينية وإخراج عقائدها وشعائرها إلى الفضاء العام المشترك، وهناك طائفية سياسية تتعلق بموقعك في السلطة ومصالحك معها وحربك معها باسم هذه الطائفة أو تلك الطائفة، ومع الأسف المثقف الخليجي يُجمّل طائفيته السياسية بأكاذيب غير إنسانية.
– كيف امتلكت الجرأة لمعارضة فكر التشيع والخروج عن الطائفة كمسألة أيديولوجية؟
لا أجد في المسألة جرأة كبيرة، هي تحرر كبير، لكنها ليست جرأة كبيرة، والدليل أني لم أتعرض لتهديد أو حرب أو تشهير. نعم هناك نبذ، وتوجس، ولا تعود تمثل الابن البار ضمن نطاق جماعة طائفتك. أجد الجرأة تتمثل في الخروج من دوائر القوة والنفوذ والمصلحة، بمعنى أكثر وضوحاً، الخروج من الطائفية السياسية، حيث مغريات المال السياسي والوظيفة والقنوات الإعلامية والمناصب والنفوذ.
– ذكرت في كتابك (خارج الطائفة) أن الوجود خارج الطائفة يجعلك تلقائياً داخل فضاء المدينة وداخل فعلها الحر. على هذا النحو هل الإيديولوجيا مسألة مضادة للحرية الإنسانية وإلى أي حد ترى ذلك؟وهل يمكن أن نعد هذا الأمر محاولة من على الديري للفكاك من الإيديولوجيا، حيث اعتبرتها عائقاً عن التفكير الحر.
هي كذلك، وأزيد، فضاء المدينة الحر تحققه الدولة المدنية، لا الدولة الدينية ولا لدولة القبلية ولا الدولة القبائلية، ولا الدولة الطائفة، ولا الدولة الطائفية. وفضاء المدينة الحر، هي ساحات الاحتجاج السياسي الذي يمارس فيه الناس حراكهم السياسي، وساحات الإعلام الحر من الإكراهات والمنع، وساحات الحريات الفردية التي يشرب فيها الناس ما يريدون ومع من يريدون. فضاء المدينة الحر هو الساحات التي تقرر فيها أنت ما تريده، هي ساحات الخروج من قصورك الذاتي، والجرأة في استخدام العقل، هي ساحات اللؤلؤة والتحرير والإرادة والشهداء.
– هذا اللجوء الواضح لديك إلى مابعد الحداثة فكراً وحواراً وتفكيكاً هل هو الملاذ برأيك؟
أنا أبحث عن ملاذ آمن لي من سلطة سياسية أو فكرية تغلق علي أو أنغلق عليها، وأنا مفتوح على الحداثة وما بعدها وعلى تراثي وما قبله. ما بعد الحداثة، على المستوى النظري، تحررني من المعاني النهائية للأشياء، وتمنحني القدرة على اللعب بالنصوص وعلاماتها، وتمكنني من جعل تراثي معاصراً لي، يعيش معي لا أعيش فيه. وهي تجنبني الوقوع في أوهام العقل والإنسان والتقدم والتطور، فهذه المفاهيم في الممارسة الخطابية والواقعية تنتج متضاداتها.
قد تبدو إجابتي مثالية أو صوفية، في واقع يرشح منه الدم وتمارس فيه أبشع أنواع الانتهاكات الإنسانية التي لا أستطيع حتى أن أسميها هنا، لكني هكذا كما يقول ابن الفارض (أطوف حول ذاتي بكاسات خمرتي) وخمرتي هي فكري، وأنا أمارس عملي وطوفاني حول ذاتي عبر التكلم في مجتمعي،
يقول تودوروف”عملية التكلم ليست فقط تعبيرا عن الفكر، إنها في الوقت ذاته عمل وتحتل موقعا في الفضاء الاجتماعي” هكذا أفهم علاقتي بالمدارس الفكرية والنقدية، تتيح لي أن أتكلم بمهارة الحاذق أن كلامه يسهم في تشكيل الفضاء الاجتماعي والسياسي، وأنا أحدد موقعي في هذا الفضاء مقابلاً للسلطة دوماً، السلطة السياسية والدينية ومقابلا لكل ما يريد أن يهيمن ويخضع الآخرين له.
– أكدت عدم استطاعة علماء الدين من الفريقين (سنة وشيعة) تجاوز مذهبه وعصبيته بعد عقود طويلة على فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية استناداً إلى السجال الذي فجره القرضاوي ورد السيد فضل الله عليه، وهما بحسبك أكثر تمثيلاً لمنهج التقريب وأكثر اعتدالا من غيرهما، ورأيت أن يعلن الفريقان ضرورة اتخاذ منهج التعايش والمجتمع المدني بديلاً عن التقارب بين المذاهب الإسلامية. لماذا برايك؟ وكيف؟
أكثر من نصف قرن ولم يقترب مذهب من مذهب، المذاهب تملك قوة التجاذب لا الجذب، الواقع مختبر للأفكار، والفكرة التي لا تملك فاعليتها في الواقع، نجرب غيرها، طبعا لدي أسبابي النظرية في تفسير فشل مؤتمرات التقريب، وهي لا علاقة لها بالجدية وصدق النية والرغبة، بل لها علاقة بطبيعة المذاهب الدينية ومفهومها لتكوينها التاريخي، هي لا تريد أن تقترب من حقيقة تكونها التاريخي وحقيقة تشكيل مدوناتها وفقهها وأحاديثها وحقائقها، فكيف ستقترب من الآخر الذي يخالفها في هذا التشكيل. ربما تصل السماحة الشخصية عند البعض ويتحقق التعايش والقبول، لكن بمجرد أن يستدعي أحد شيئا من هذا التاريخ، ستنفجر هذه السماحة، وتنشط ساحة الاحتراب.المذاهب بيوتها من زجاج، ويقترب أصحاب كل مذهب من بيت المذهب المناوئ له بحجر. يقترب لا ليقول من كان منكم بلا خطيئة تاريخية فليرمنا بحجر، بل ليقول حجراً بحجر.
– ذكرت في إحدى حواراتك إنك تعول على حقلي الفلسفة والتصوف في استعادة هدوء العالم المستعر بتوترات الهويات الدينية والقومية والعرقية والمذهبية؟ كيف ترى الأمر بالنسبة إلى الفلسفة والتصوف؟ وهل تخلو الفلسفة كمنطق والتصوف كمذهب من أية ايدلوجيا أو تعصب؟
نعم، أعول عليهما، لأنهما يهدفنا إلى تحرير الإنسان من الانعلاق والتعصب، لكن هذا لا يعني أن مشاكل الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم، ممكن أن نحله ببرنامج فلسفي وصوفي.ولكن ونحن ننضال من أجل تغيير هذا الواقع، في مؤسساته وأشخاصه وأحزابه الحاكمة وقوانينه وعصبياته الدينية والقبلية، أعول على حقلي الفلسفة والتصوف. الفلسفة تعلمك المساءلة وبناء المفاهيم بشكل جديد دوماً، وتحررك من سطة الأرض، لأنها تنشد الحرية دوماً، والتصوف يعلمك تأويل الصفات الإلهية تأويلا إنسانياً، يعلمك كيف تكون وسيطا بين السماء والأرض، وتخلصك من سلطة الوسائط التي تقدم نفسها أبوابا للإله، فتتحرر من سلطة السماء.هكذا تتعلم من الفلسفة عشق المفاهيم والحرية، تتعلم من التصوف عشق الألوهية التي تتسع للإنسان باختلافه، فتتلخص من صورة الإله الغاضب الذي يتهدد الإنسان بالعقاب.
– برايك ما الدور الإنساني الاجتماعي الذي يمكن أن تقوم به الفلسفة؟ وكيف يمكن إيجاد صيغ مناسبة ومتقبلة لها في المجتمعات الخليجية المعاصرة بما هي عليه من محافظة؟
أعتقد في هذه المجتمعات لابد أن يموت شيء، لست أدري، هل هو: حُكّامها، مثقفوها، ثقافتها، عاداتها وتقاليدها، قبائلها، طوائفها، نفطها.
– وفق مذهبه الظاهري الذي أسسه كما ذكرت؛ درست ابن حزم في كتابك (طوق الخطاب) فماذا وجدت في هذا المدخل؟
وجدت أن الظاهرية، حالها حال أي اتجاه في تحليل الخطاب، لديه رؤية ما وأفق تاريخي ما وأدوات تحليل، وهي في الحد الأدنى:دليل الخطاب، الخصوص والعموم، المستثنى والمستثنى منه، تعارض النصوص، الأمر والنهي، المفهوم والملفوظ… إلخ. لم أنظر إلى الظاهرية كمذهب فقهي أو معتقد كلامي. وجدت في جملة ابن حزم (النص يعطيك ما فيه) خلاصة مركزة لمفهومه للنص والقراءة وتحليل الخطاب. أعتقد لو أننا نقرأ المذاهب الفقهية من هذه الزاوية أي باعتبارها مناهج قراءة للنصوص مختلفة الأدوات، سنخفف من حدة الاختلافات الفقهية والعقائدية.
– من خلال دراستك لأصول الفقه عنده هل يمكن إخبارنا فيم تتحدد هوية الخطاب لدى ابن حزم؟
الخطاب عند ابن حزم كلام الله، وكلماته نصوص معانيها موقوفة على أسمائها، لا يمكنك أن تتصرف وتحرك المعنى أو الاسم.مع ذلك فالنطق الذي يميز الإنسان هو عند ابن حزم تصرف، كما الصناعات تصرف، والإنسان كائن ناطق بقدر ما يتصرف في العلوم والصناعات والكلام، لكن تصرفه عند ابن حزم محدود بخطاب الله الذي هو أمر إلهي للإنسان، لا يقبل التأويل وتعدد المعنى.
جهد الإنسان وتصرفه يتمثل في استخدام المنطق الأرسطي لفهم هذا الخطاب(الأمر).هوية الخطاب ثابتة ونهائية وصافية ومغلقة.ليس في الخطاب أسرار وليس له باطن، ولا يخفي شيئا، هو ظاهر، ومن هنا جاءت تسمية مدرسة ابن حزم بالظاهرية، والظاهرية ليست هنا السطحية، بل هي ما يمكن أن يظهر للعقل من معنى الخطاب بواسطة الجهد الإنساني، وهذا الجهد صاغه ابن حزم في مفهوم (الدليل) في صوره السبع، وهو مفهوم مبني بناء أرسطيا منطقيا.
– على أن لغة ابن حزم لغة حاسمة بما تتضمن من يقينية بينما خطاب المجاز بعيد عن ذلك .كيف التقى ابن حزم مع خطاب المجاز ولغته بتلك المنطقية التي ربما لاتقبل تأويلا؟
صحيح، خطاب ابن حزم يقوم على مقدمات يقنية صارمة، وهذا يبدو واضحا من خلال لغة ابن حزم الحادة ومزاجه المتطرف وحجاجه الصارم، والمنطق الأرسطي منحه أداة قوية للاستدلال على يقينه. لا مكان للمجاز عند ابن حزم، وكل مجاز يرده لحقيقته التي تدل عليه وتقترن به، ليس هناك مسافة نضيع فيها أو نعبث فيها بين المجاز والحقيقة. الخطاب هو مجموعة حقائق لا مجازات.
كي تستوعبي اشتغالي على ابن حزم وظاهريته واشتغالي على المجاز، فعليك أن تضعي في اعتبارك أنني لا أفهم المجاز مقابلا للحقيقة، أنا أفهمه باعتباره منظاراً للحقيقة، أرى به حقائق الأشياء. اختصاصي في المجاز بهذا المنظور، جعلني أفهم الطريقة التي ترى بها خطابات الناس والسياسيين الواقع عبر مجازاتهم.أنا مهتم بالخطابات التي تحيل على الواقع والعالم، كخطابات السياسيين والفلاسفة ورجال الدين، ولست مهتما كثيرا بخطابات الشعراء والأدباء الذين يخلقون أحياناً عوالم متخيلة، وإن كانت تحيل إلى الواقع والعالم الحقيقي. أنا لا أنسى العالم، لكني لا يمكن أن أراه من غير استخدام اللغة استخداماً مجازيا، وهذا ما كان خارج تفكير ابن حزم، فهو يعتقد أن الخطاب يطابق الواقع دوما.
المجاز منظار الخطاب في رؤية العالم، كما التلسكوب منظار عالم الفلك في رؤية الكون. أنا أشتغل في الخطاب، وأهتم بالطرق التي يحيل بها على العالم، والمجاز طريق من هذه الطرق، والمنطق الأرسطي طريق أيضاً، وتتقاطع الطرق.
– لم يتصالح ابن حزم مع السلطات السياسية في عصره ولاريب أنه كان شاهدا على حكم الطوائف.كباحث ودارس ومتأمل ماوجه الشبه بين عصره وعصرنا؟
لسنا خارج عصر الطوائف، ما نعيشه هو مناخ العصر نفسه، استخدام النصوص الدينية في الصراعات السياسية، وكل ملك وحاكم يقدم نفسه خادماً ومدافعا عن الدين والرسول وسنته وأهل بيته. والجمهور يستثار بهذه الخطابات.وعلماء الدين في بلاطات هؤلاء الملوك والحكام يوظفون الشرعية الدينية التي يحتاجها الحاكم، والتراث جثة حية ثقيلة في ألسنتهم وهم يقدمون أنفسهم امتدادا لفقهاء التراث، بل هم لا يرونه تراثا بل شيئا ما زال معاصرا ومستمرا وجاريا عبرهم، يتكلمون عبرهم. تصوري لو أن علماء الفيزياء والأحياء والفلسفة ما زالوا يتكلمون عبر أرسطو، ويقدمون أنفسهم متدادا لا نهائيا له. ليست هناك معرفة لا نهائية، هناك معرفة تموت وينقطع نسلها، ونعيد خلقها بصورة جديدة، هذا لم يحدث بعد عندنا، وهذا ما يجعل صفحات التاريخ وصفحات الفقه والعقائد، ألغاماً قابلة للانفجار في أي لحظة.
ما زالت جغرافيا الصراعات مذهبية ودينية، وتستخدم الاختلافات المذهبية تهماً وأوصافا تشنيعية (روافض، نواصب، أبناء متعة، بنو أمية، صفويون). هكذا حال واقعنا السياسي، وكذلك واقعنا المعرفي. ما نحن فيه خارج التاريخ، لا يمكن أن نتصور في القرن الواحد والعشرين، أن هناك أمة بحكامها وسياسييها وعلمائها وأكاديميها، تتصارع سياسياً ومعرفياً وفق انتماءاتها المذهبية التي تشكلت قبل العصر الحديث.