"امْضَيْعَة الأنصاف"

نخلة البيت العود

نخلة البيت العود… نخلة آمنة بنت خلف

أن تتفرد بحيث يكون فيك من كل وصف نصف، يضيع وصفك فيغيب اسمك، يضيع نصفك فلا يعثر على نصفك الباقي، يُبحث عنك في المكتمل من الأوصاف والناجز من الأسماء، فلا يُعثر فيها على شيء يشبهك، تبقى فرادتك سرُّ عظمتك وغرابتك واتجاهك، حتى سيرتك تتقاسمها الأنصاف، في سيرة كل شخص نصف من سيرتك.

هل ضيعت ما أتحدث عنه؟ ربما، لكن ذلك لا يهم، ما يهم هو أن "مضيعة الأنصاف" بعد بضعة أيام ستكون مضيعة الكل، سيضيع كلها، سيفقد البيت العود نخلته التي كبر معها وصار عُوداً (كبيراً)، سيفقد بيت الحاج أحمد بن جاسم مديفع المجاور لمأتم مديفع بالمنامة نخلته "مضيعة الأنصاف" وسيضيع معها تاريخ طويل من الذكريات ذكريات الصبية الذين تآلفت أقدامهم على جذعها، والصبايا اللاتي تآلفت شقوتهم مع جذعها، وذكريات الأصدقاء الذين لا يعرفون البيت إلا بها.

"مضيعة الأنصاف" كانت صفتها لكنها هذه المرة لن تكون صفتها التي تكتسبها من خصوصيتها بل صفتها التي تكتسبها من فعلها في غيرها. ستضيع ذكريات وعواطف وسير من تعلقوا بها وركبوها وأكلوا منها ورعوها وطافوا حولها.

"مضيعة الأنصاف" هو لقبها الذي خصتها بها الحاجة آمنة بنت خلف، كانت فيما يروي ابنها سعيد قد أطلقت هذه اللقب على هذه النخلة لأنها لا تشبه أي نخلة في صفاتها، ليس لهذه النخلة اسم، لأنها لا تشبه أي نخلة، فيها من كل نخلة نصف شبه،  والنصف الآخر ضائع، لم يُعثر على نصفها الضائع في أي نخلة، لذلك عجز النخالون كلهم عن تسميتها. بقيت لغزا متفرداً.

مضيعة الأنصاف

تقول خيرية مديفع، وعيت على هذه النخلة وسط بيتنا، لا يحضرني شيء من طفولتي قدر ما تحضرني صورة هذه النخلة التي كبرت معها منذ كان طولها متران وطولي اقل من 10سنوات. كانت نخلة عز وبيتنا كان بيت عز لأنه بيت هذه النخلة التي كانت تتوسط غرفنا التي نستضيف فيها الأصدقاء ونسكن فيها العرسان، جميع الأعراس مرت من هنا،  أعراس أهل الحي لا تكتمل بهجتها إلا حين يدخل العرسان إحدى هذه الغرف المطلة جميعها على هذه النخلة.

كان رطبها وتمرها يطوف كل بيت في الحي، كانت خيراً يعم وبركة تفيض على جيرانها، وفوق ذلك هي الذكرى الحية الباقية من حياة والدي وحياة أخي جاسم الذي غادرنا مبكراً وهو لم يكمل بعد عقد الثلاثين، أنا أرى تاريخهما مكتوب وسط جذع نخلتنا. لست أدري ما الذي سيبقى لنا من هذا التاريخ حين تقلع من تربتنا بعد أيام!!

يقول سعيد مديفع بدأت سيرتي تتشكل مع سيرة النخلة منذ بلغت سن السادسة، كنت حينها أتعارك مع الصبية كي لا يركب النخلة أحد، كانت مغرية بجذعها الأهيف النخيل، مغرية لجرأة الأطفال كي يجعلوا منها لعبة مسلية، وأنا بحس التملك كنت أشعر أنها تنتمي إليَّ، وكأنها شيء يخصني أو كأني منذور لحمايتها، وهذا ما يضاعف اليوم من محنتي معها، فأنا الآن المسئول عن جلب من سيقتلعها، لا أعرف كيف يمكن أن أتصالح مع ذاكرتي، يبدو أني سأظل أحمل ثقل تأنيب القلع الذي ستؤول إليه بعد أيام، وسأظل أحمل الحنين إلى طفولتي التي وهبتها دفاعاً عنها.

وسيعاظم من فداحة القلع في نفسي أني مازلت أحفظ وصية أمي الحاجة آمنة بنت خلف التي توفيت في 28مارس1980، كانت تقول "اقتلوني ولا تقتلوا النخلة" كانت ترى في النخلة حياتها كلها، ولم تقبل أن يمسها أحدٌ حتى بيديه. كانت بالغة الحنو عليها، تجد فيها ونساً وألفة ومحبة، كأنها كانت ترى سيرتها في هذه النخلة الوحيدة الشامخة، آمنة لم يكن لها أخوة ولا أخوات ظلت – كما تروي حفيدتها الكاتبة منى عباس فضل – متفردة حتى في شخصيتها المتسمة بالهدوء والحنان والصبر، نشأت يتيمة لكنها وهبت أبناءها وبناتها وجيرانها ونخلتها أمومة فيَّاضة، كانت رهيفة الأحاسيس والمشاعر، يتملكها هدوء غريب وصبر لا يصدعه الزمن المرّ، تفرض حضورها بتلك الألفة والوداعة والحنان، ابتسامتها القمرية علامتها التي لازمتها، ورثت عزاً ومالاً رغم يتمها، بيد إن الزمن أنهكها فقد فقدت ابنها الشاب جاسم وتغرّب الآخر في المعتقلات إثر انتفاضة 1965م.

نخلة آمنة

ربما كانت النخلة مطمئنة إلى شخصية آمنة في حمايتها ورعايتها، فراحت تتعلم منها أن تحمل للآخرين العطاء والحب، وجدتْ فيها سنداً فوهبتها أجود ما تملك، فعلاً الجميع يشهد لثمرها بجودته العالية، كانت مشهورة ببسرها ورطبها وتمرها، يمكنك أن تستطعم طيب ثمرها في حالات تخلّقه في مراحله المختلفة، وهي حريصة على أن تجود بهذا الطيب الأصيل حين تُعطي من عصارة روح تمرها دبساُ يشبه مذاق العسل.

آمنة بنت خلف، هي من أطلق على هذه النخلة "امْضَيْعَة الأنصاف" وذلك بعد أن عجز خبراء النخل عن معرفة صنفها أو تسميتها، فلم تجد آمنة غير هذا اللقب البليغ في وصفها، وكأنها كانت تقرأ تفرّد شخصيتها في تفرّد نخلتها. ولهذه الفرادة قدسيتها أيضاً، فلم تكن آمنة تسمح لأحد غير بحريني أن يتعهدها بالرعاية والتنبيت والتلقيح، وكأنها كانت ترى في النخلة فرادة بحرينية، ولا يليق بهذا الفرادة غير أيد بحرينية نبتت من التربة نفسها وتشربت من ملوحتها وذاقت طعم شمسها وتندّت برطوبة ليلها. لا يليق بهذه النخلة غير عكّار أصيل يشبه أصالتها.كان عكّارها حجي حبيل ولما توفي خلفه ابنه يعقوب.

والآن منذ ثلاث سنوات ما عادت النخلة هي النخلة، دخلت عامها السبعين ربما وربما أكثر، لم تسر فقط اسمها ونوعها بل إنها أسرت حتى عمرها، فليس لها تاريخ معروف، وما ضاعف من أسرارها أنها لم يؤت بها "نقيلة" فهي قد نبتت من الأرض فسيلة وأخذت تنمو على سيرتنا فيها.

اليوم هي في أعوامها السبعين ربما، منذ ثلاث سنوات ما عادت قادرة على أن تقف، تعبت فتوجهت بجبهتها الخضراء نحو نور الشمس وأخذت تميل شيئاً فشيئاً، لم تجد غير جسر اسمنتي تضع طبيعتها عليه، لكنه لم يكن بقلب آمنة القوي فلم يحتمل ثقل تاريخها المليء بحكايات العطاء والناس، فأخذ يتصدع، وكأنه يعلن تذمره من حمل رأسها الأخضر. آه ما أحوجك اليوم أيتها النخلة لآمنة، ليس غير آمنة قادرة على أن تكون لك سنداً يحمل رأسك في حضنه.

ستلحقين بآمنة، وهناك حيث الجنة سترينها تنتظرك بشوق بالغ الإخضرار.

جذع النخلةالعكّار الذي سيأتي بعد ثلاثة أيام لن يأتي بأيديه البحرينية المغسولة بتراب النخل، لن يأتِ بيديه كي يمنحها رعايته الخاصة، لن يأت كي يُهيئ طلعها، لن يأتي كي يمنح خصوبتها غبار الطلع. سيأتي ليأخذها برفق إلى جنة آمنة. ليس غير العكَّار البحريني الأصيل يعرف طقوس جنازة النخلة إلى الجنة، جاءنا قبل أيام وأخبرنا أن للنخلة روحاً يجب أن تحترم، وفي فقه العكّارين لا يجوز أن يقطع رأس النخلة دون الجسد، لا بدّ من أن نوالي بين أخذ الرأس وأخذ الجسد، تماماً كما نوالي بين غسل الوجه وغسل المرفقين في الوضوء، فلا يجف ماء الوجه قبل أن نغسل المرفقين ولا يجف المرفقان قبل أن نمسح ناصية الرأس. علينا أن نوالي رأس النخلة وجسدها كي لا تبقى كالذبيحة الممثل بها.

ربما تغفر لنا آمنة احترامنا لهذا الطقس الذي سيمنح جنتها النخلة كاملة من غير تشويه ولا تأخير. يا أمَّ بيتنا اغفري لنا.

أبناء آمنة، محمد علي وسعيد وحسن وجميل وشيخة وخاتون وخيرية وخديجة تحلَّقوا يوم العيد حول نخلة أمهم وكأنهم في يوم 28مارس1980.

كانت فتحية عباس فضل مُصرة عصر يوم العيد أن تأخذني إلى البيت العود الذي أراه للمرة الأولى، كأنها تريديني أن أحضر مقام هذه النخلة الأخير، فتحية عباس هي الحفيدة الأخرى ضمن قائمة طويلة من الحفيدات والأحفاد لآمنة من جهة الأم (مشهد) الأخت الكبرى التي لم تجد الأخوات طريقة لتحديد عمر النخلة غير الإحالة إلى عمرها، توفيت (مشهد) قبل سنتين دون أن تُعطي شهادتها التاريخية على سيرتها مع هذه النخلة التي هي من عمرها، كما أخواتها يظنن ذلك، ربما لأنها الأكبر فقط وليس لأنها من عمرها. فالأعمار تظل دوماً لغزاً أو شبه سرّ أو معرفة مؤجلة بالتوقعات في مجتمعات النخيل.

اترك تعليقاً