اعترض الأستاذ المحامي علي سالم العريض، عليّ حين أوردت تشبيه أمين معلوف للرأي العام بأنه أشبه بشخص ضخم الجثة مستسلم للرقاد، بين الحين والآخر يصحو من سباته بغتة، وعليك أن تستغل الفرصة لإقناعه بفكرة واحدة في غاية البساطة والإيجاز، لأنه سرعان ما يتمطى ويتثاءب ويتقلب ويتهيأ للنوم من جديد، ولن تستطيع منعه أو إيقاظه ثم تنتظر بخبث أن يهتز سريره.
ووجه اعتراض العريض على هذا التشبيه، يكمن في أنه يحمل إساءة للأمة وإرادتها ووعيها ويقظتها، فالجثة الضخمة تحمل في تشبيه معلوف انتقاصاً غير محبذ. قلت له: فكرة الأمة ويقظتها هي إحدى الأفكار الغاية في البساطة والإيجاز، وهي تصلح لإيقاظ هذه الجثة الضخمة، لكنها لا تصلح لتحليلها، وأنا في مقام التحليل لا الإيقاظ. ولعل عبارة الفاشستي الدكتاتور الإيطالي موسوليني شديدة الدلالة في هذا المقام، فهو يقول (إن أسطورتنا هي عظمة الأمة)! لم يوقظ موسوليني الأمة الإيطالية، بل إنه أفزعها حد الهلع.
كان الحديث مع العريض على خلفية حديث مستفيض عن الإقناع، إقناع الرأي العام، وقد توصلنا، في هذا الحديث إلى أن الإقناع هو القناع نفسه، ولكل رأي عام قناعه الذي يتغطى به كي ينام على سريره، والأغطية الشرعية هي أقنعة الجثة الضخمة عندنا. في المعجم تحيل مادة ‘’ق ن ع’’ إلى المعاني السريرية التالية ‘’القناع: وهو ما تغطي المرأة به رأسها، الإقناع: السؤال بتذلل، والاقتناع: الرضا بالشيء والقبول به. قَنَع بمعنى مال، فيقال: قنعت الإبل والغنم قنعاً، أي: مالت لمأواها وأقبلت نحو أصحابها’’ وفي القرآن’’ أَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج : 36 ‘’ القانع هو من القُنُوعِ، الرضا باليسير من العَطاء، والرأي العام يرضى باليسير من الجمل الغاية في الإيجاز والبساطة.
الأقنعة مهما بدت أنها توقظ الرأي العام وتنزله إلى الشارع، فإنها في الحقيقة في أغلب الأحيان، لا توقظه فهي توهمه أنه مستيقظ، فهي بارعة في أن تجعل من الشارع سريره الذي ينام فيه بهدوء سرير البيت، يستوي في ذلك سرير اليقظة العربية، وسرير الوعي الطبقي، وسرير الصحوة الإسلامية.
يهتز سرير الرأي العام حين تنطق بفكرة ليست على مقياس هذا السرير الممعن في البساطة والإيجاز، وسرير الرأي العام مصنوع من الجمل البسيطة الموجزة التي ينطق بها أصحاب أساطير الصحوة من أمثال موسوليني وما يشبهه. هذه الجثة الضخمة تستيقظ (أو تنام) بجملة في غاية البساطة والإيجاز، جملة مثل ‘’فلتسط العلمانية’’، ‘’البرلمان هو الحل’’، ‘’الإسلام هو الحل’’، ‘’كرامتي في عبايتي’’، ‘’معكم معكم يا علماء’’، ‘’المرجعية خط أحمر’’، ‘’وحدة الطبقة العاملة(البروليتاريا)’’، ‘’الكفاح ضد الإمبريالية’’، ‘’إلا رسول الله’’، ‘’البحرين أولاً’’.
تشتغل هذه الجمل كمقدمات حجاجية إقناعية وقناعية، كل ما تريد أن تفعله أو تقوله قنّعه بهذه الجمل وستجد الجثة الضخمة تقتنع به فترضى عنك وتميل إلى سريرك وتهتف بشرعيته.