يضعنا مراسل الحرب محمد محسن في كتابه (وهم الحدود معركة القصير، دار الآداب 2017) على تخوم الموت الخاطف الذي لا يعرف الوهم بقدر ما يعرف اليقين، يروي لحظاته المتوترة مرة وهو يراوغ رصاصة من عيار 33 ملم، ومرة وهو يخوض لحظة جنون لم يجد غير رفيقه حمزة الحاج حسن يشاركه فيه، ومرة وهو يحتمي تحت دشمة ويمد رجله بسرعة، ليركل حمزة أيضا، فيسقطه على الأرض، ليؤجل موته الوشيك.
على تخوم الهرمل والقصير ليس هناك حدود، هناك حياة مشتركة ومختلطة، وتكاد تكون الجنسية والأوراق الرسمية لا تعني شيئا، هناك (اقتصاد الظل) غير المحكوم بقوانين الدولة وضرائب التجارة وموازنات الخطط ، وهناك الجغرافيا تخضع لمنطق ظل الله “فالجغرافيا ظل الله على الأرض” والتاريخ يخضع لمنطق ظل حزب الله “فالتاريخ ظل الإنسان على الطبيعة”. الحدود وهم وفق هذين المنطقين إذا ما أردنا أن نأول عنوان الكتاب.
في الحوار والجدل حين نختلف نذهب إلى الحدود(التعريفات)، لنعيد تعريف الكلمات والمفاهيم، وفي الحرب وهي نهاية الاختلاف وبداية الخلاف ونهاية الخصام وبداية العداوة، نذهب أيضا إلى الحدود، حدود جغرافيا الاشتباك، لنفهم منطق الحرب.
حين لا نفهم منطق الجغرافيا والتاريخ، نضل فهم الحدود، ونتوه في الوهم، كثيرون تاهوا في الوهم لأنهم، لم يعرفوا منطق الحدود التي بين سوريا ولبنان.
لقد واجه (ابن الجنوب) يقين الموت، ليكسر وهم الحدود الذي ثبّته إعلام يجهل أو يتجاهل الحقائق التاريخية والجغرافية والديموغرافية، لا ينسى وهو يحدثنا عن الموت الذي كان يُحدِّق به من كل جهة على الحدود، أن يقدم في كل لحظة موت وشيك شهادة عن حمزة الحاج حسن رفيق دربه وحلمه الجامعي والإعلامي “ابتليت بحزني الأكبر عندما استشهد رفيق عمري حمزة”، ولا ينسى وهو يحدثنا عن حزنه النبيل على هذا الفقد، أن يحكي عن لحظاتهم المفعمة بالضحك والسخرية وسط الموت، وتبادلهما زوايا بث الرسائل المباشرة التي هي زوايا موت يوشك دوماً أن يقع.
يكتب عن ذروة الموت، عن الحدود القصوى التي تقترب فيها الحياة من النهاية لحظاته، يكتب وقائع الحرب بصوته وقلمه وقلبه “لا أحب التاريخ الذي يكتبه المنتصر أي منتصر، أكتب هنا ما رأيته وما عرفته..” لا يريد أن يكتب هذا التاريخ أي منتصر، بقدر ما يريد أن يرويه هو، وتلك معركة كبرى في معركة أكبر. المرة التي لم يستطع فيها أن يكون شاهدا على صفحات كتاب هذه الحرب، هي يوم انطلاق تحرير مدينة القصير 19أيار/مايو2013 والسبب في ذلك يعود إلى سفر إخوته وعدم قدرة أمه على تحمل فراغ البيت من ثلاثة أبناء مسافرين، أحدهم ذاهب نحو موت محتمل.
الموت حاضر أيضا في إهداء الكتاب، حاضر بشكل مكثف في جملة واحدة “إلى حمزة حاج حسن” هي علي المستوى النحوي جملة واحد فعلا، لكنها على المستوى البلاغي، حكاية مشحونة بالمعنى، فحمزة واحد من الذين أرادوا أن يكتبوا التاريخ من الميدان لا من الديوان. الكتاب بهذا الإهداء شهادة وفاء وتقدير لما أراد حمزة أن يبقيه من رسالة، ويكتبه من تاريخ، ويشهد به من حقيقة، ويحطمه من أوهام إعلام يفجر في الخصومة، ويفحش في العداوة.
في يوم ما كنت على تخوم هذه الحدود، تجولت في ريف القصير، وأكلت من مشمش بساتينها، وتبضّعت في سوق المسيحيين بربلة، وصليت في مسجد المسلمين (المجتبى) واستمعت إلى رواية عائلة لبنانية تسكن هناك، وسقطت سيارتي في ترعة من فروع نهر العاصي بحوش سيد علي. لقد منحتني هذه التجربة فهما حياً ومباشراً لفكرة الحدود، وكنت أصرخ “من لا تسقط سيارته هنا ويمشي على قدميه بين هذه الحدود لن يفهم نطاق الحرب ومنطق الحزب هنا”.
بعد أن قرأت هذا الكتاب، ازداد يقيني وتوسع فهمي، وصرت أدرك أن الحد ليس نهاية دولة بل بداية دولة، إن سقطت الأخيرة انتهت الأولى.