في كتاب السيرة الذاتية لمحمد جواد ظريف (سعادة السفير) الذي صدرت ترجمته هذا الأسبوع، عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، تتكرر كلمة (العلاقات الدولية) أكثر من سبعين مرة، وفي كل هذه التكرارات، دوما تأتي في سياق الإشكالات والسؤال والنقد والبحث عن بديل. تُحدثنا هذه السيرة عن مراجعة تاريخية طويلة لممارسة العلاقات الدولية في السياسة الإيرانية منذ زمن (حاجي واشنطن) حتى زمن الثورة، وصولاً إلى مرحلة مخاضات الاتفاق النووي.
(حاجي واشنطن) تعبير مجازي ساخر وظريف يحيل إليه (ظريف) في سيرته كثيراً. يروي فيلم “حاجي واشنطن” الممنوع لسنوات طويلة في إيران، قصة سفر أول مندوب سياسيّ [1888-1889 م] لإيران في العصر القاجاري إلى الولايات المتحدة الأميركية. وصل السفير حاجي واشنطن إلى منصبه في ظلّ عدم وجود أي إيراني في واشنطن مع مترجم لأنّه لا يتقن اللغة الإنجليزيّة. يلتقي حاجي واشنطن برئيس أميركا المعزول في حفل كبير. ونظرًا إلى جهله بالأحداث، يدعوه ظنًا منه أنّه لا يزال الرئيس، ويقوم بترتيب ضيافة من الأطعمة الإيرانية له، بعد أن فصل كل خدم السفارة لعدم وجود مراجعين، وللاقتصاد في التكاليف. يصل الرئيس السابق في ملابس غير رسمية، بنيّة أخذ حفنة من الفستق.
تحكي نهاية القصّة وحدة حاجي واشنطن ومحادثته لنفسه بالهموم والشجون، بما فيه من عتاب لتخلّف النظام القاجاري، وينتهي الفيلم برجوعه المهين من هذه المهمة الشاقة بشكل مأساوي، وهو يحمل خسارته السياسية.
بحس نقدي عال يعلق (ظريف) على نموذج سفير العلاقات الدولية هذا بقوله: سيرة حاجي واشنطن شبيهة بسيرة الكثير من دبلوماسيينا، ويبقى الفارق أنّ الدبلوماسيين بعد الثورة كانوا يمتلكون غرورًا خاصًا لم يكن حاجي واشنطن يمتلكه.
أراد (ظريف) أن يشكل نموذجاً ثورياً في العلاقات الدولية، ليس بالمزايدة على رجالات الثورة، بل بالثورة ضد نموذج (حاجي واشنطن) لذلك ظل تعريف العلاقات الدولية يثير قلقه، كلما حاول أن يضع له مفهوما أو يمارس من خلاله دورًا. لقد بدأ حياته بدراسة هذا التخصص أكاديميا، وحمل مسؤوليته كمهمة عامة، لا كمهنة خاصة “هذا التخصص حَمَّلَني مسؤولية ثقيلة. وأفكر كثيرًا أنّ الأخطاء التي ارتكبتها أو ارتكبها أمثالي في مجال السياسة الخارجية، يحمل ثقلها سبعون مليون إيراني، حتّى إنّني أقلق”.
حين أصبح ظريف في العام 1992م معاونًا لوزير الخارجية الطبيب علي أكبر ولايتي، كان هو الشخص الوحيد الذي درس العلاقات الدولية في مجلس المعاونين، فقد كان جميعهم مهندسين، هكذا ظلت علاقته بتخصصه إشكالية دوما مع نفسه ومع وسطه، وكأنه يتكلم لغة خاصة ويجد صعوبة في التفاهم من خلالها مع الآخرين.
ظل يطور مفهوم العلاقات الدولية وممارسة عمله الدبلوماسي الخارجي من خلال العمل على نموذج مضاد لـ(حاجي واشنطن): كيف يمكننا أن نطور دبلوماسيتنا الخارجية، لتكون قادرة على المستوى الدولي: أن تفهم لغة العالم، وتفوز وسط الصراعات الحرجة، وتحتفظ بكبريائها وسط ممارسات الإذلال العالمي؟
يكرر ظريف في سيرته الدرس الذي تعلمه من عمله مع الرئيس (خاتمي) وهو وجوب تغيير نموذج العلاقات الدولية، لتكون نموذجًا للحوار عوضًا عن الإلغاء. فلا يمكنك أن تفرض عدم الأمن على الآخرين لتصل إلى الأمن، أو أن تفرض التخلف على الآخرين لتحصل على رفاه شعبك وتطوره، إن كلّ نجاح على حساب الآخر هو نجاح غير مستقرّ.
تفضل الدول المتغطرسة في العلاقات الدولية، نموذج (حاجي واشنطن) وما يشبهه، وهو رجل السياسة الذي لا يملك ندية التفاوض، ولا مؤهلات الحوار، ولا قاعدة المعرفة ولا قوة القدرة أو ما يسميه ظريف نموذج (عمود القدرة) في العلاقات الدولية. يمثل (حاجي واشنطن) نموذج الإذلال في العلاقات الدولية الذي يحدثنا عنه (برتران بديع) في كتابه الحديث (زمن المذلولين.. باثولوجيا العلاقات الدولية).
إنها علاقة مرضية، تعاني من حالة باثولوجية، تفهم الانتصار من خلال الإخضاع والإذلال الذي هو “فعل قوة تختار الدفع بالآخر إلى موقع أدنى من ذاك الذي كان يتوقعه” كما يقول خبير زمن المذلولين في العلاقات الدولية.
في مقابل خيبة (حاجي واشنطن) الذي عاد من أمريكا يجر أذيال إذلال هيبة الدبلوماسية الفارسية، أطل (ظريف) بابتسامة، من علو على العالم، خلال الساعات القليلة قبيل الاتفاق في 14يوليو/تموز 2015. أطل من شرفة فندق كوبورغ في العاصمة النمساوية (فيينا) ليخبر الصحفيين المُشرئِبة أعناقهم إليه: لقد توصلنا إلى اتفاق نووي شامل مع مجموعة 5+1.
إنها، حكاية سعادة السفير، تَستحق أن تُروى، من شرفة السيرة الذاتية، ففيها خلفيات الابتسامة التاريخية التي استقبلها العالم بارتياح وإعجاب كبيرين.