تجشَّم الصديق عبدالحسين المتين مشقة زيارتي، ليطرح عليّ عن قرب حميم سؤال: هل صحيح أنك كتبت مقالاً تقول فيه إنك علماني؟
وجدت مشقة في أن أختصر له ما كثفته بصعوبة في مقالة أو سيرة تجاوزت ثلاثة آلف كلمة، رويت فيها حكاية تشكل فهمي للعلمانية. كنت أعول على أني سأكتب نصاً في شكل سيرة ذاتية، تقدم مفهوم العلمانية تقديماً يكسر حدة معناها المُرجّس. عُوّلت على التجربة الشخصية والسيرة الذاتية وأحضانهما الدينية لأقدم معنى أو لأقل شهادة للعلمانية يجعلها أقل توتيراً.
تذكرت كتاب ستانلي فِش(هل يوجد نص في قاعة الدرس؟ سلطة الجماعات المفسرة). كنت أظن أن مقالي أو سيرة علْمَنَتي (علمانية الراهب.. شيء من سيرة الرهبنة والعلمنة) هي نص يملك معنى قائما بذاته، ويمكن أن أقدمه أو يقدم نفسه في قاعة درس المجتمع. كنت أظن أن نصي سيوجد ويكون ويقول في هذه القاعة، فهل كان نصي موجوداً في قاعة المجتمع؟ وهذا يتطلب أن نجيب على سؤال: هل يوجد نص داخل قاعة المجتمع؟
لم يكن نصي موجوداً، على الرغم من أني كتبته وطبع في ملحق بروفايل صحيفة الوقت وانتشر مع الصحيفة، وتداولته المنتديات الإلكترونية والمجموعات البريدية، ونشرته في مدونتي الإلكترونية.
ما كان موجوداً هو تفسير الجماعات الدينية للعلمانية وهي الجماعات التي كنت أخاطبها في مجتمعي، كانت سلطة هذه الجماعات المفسرة هي الموجودة وهي التي عملت على تقديم معنى العلمانية.
وكي نفهم ذلك جيداً، علينا أن نفهم أن المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو الرباطة التي ينتظم من خلالها الأفراد في جماعة. كذلك النص ليس مجموعة كلمات، بل هو ما يجعل الكلمات في نظام، أي الرابطة التي تنتظم من خلالها في نص أو خطاب. هذا يعني أن هناك نصا في قاعة المجتمع وفي قاع قاعته على وجه التقريب، وهذا النص هو الجماعة نفسها أو رابطها أو ما يجمعها من استراتيجيات تفسير وتأويل وفهم.
هذا هو الموجود وهو صاحب السلطة والقادر على أن يفسر وفق ما يريد. أما نصي اليتيم من جماعة تعطيه أبوتها، فلم يكن موجوداً في قاعة المجتمع التي لا تتسع للخارجين على رابطها. يتجلى نص الجماعة ورابطها في الأنشطة التي يقومون بها من أجل منح الأشياء معناها. مثلا حين أرجع إلى منتديات جدحفص أو بحرين أونلاين أجد أن نصي المنشور هناك غير موجود.
هو موجود في الموقع ولكن ليس في قاع عقولهم ولا قلوبهم، ما هو موجود وجودا فاعلا وقويا هو نص الجماعة ويتجلى في النشاط القرائي الذي قاموا به من أجل تقديم تفسير وتأويل، وقد تمثل هذا النشاط في استحضار نصوص الفتاوي والمحاضرات وخطب الجمعة وصور القيادات والعلماء والفقهاء ومواقفهم واستدعاء مواقف الأئمة وكلماتهم والآيات والأحاديث والتاريخ. هذا ما كان موجوداً وهو ما يربط هذه الجماعات ويمنحها سلطة تفسيرية. وجدت أن السؤال ليس ما معنى نصي؟ وأين ذهب؟ لا معنى له. فالمعنى يتحدد بما تفعله هذه الجماعات من أنشطة قرائية، تمثل مواقفها.
”الجمل لا تظهر إلا في مواقف، وفي إطار أو في إطار مؤسساتي” وجملتي أو نصي ظهرت أو لأقل غابت في إطار هذه الجماعات المفسرة.
وهذا ما يؤكده ستانلي فيش ”المعنى ليس ملكا خالصا لا لنصوص محددة ثابتة، ولا لقراء مستقلين مطلقي اليد في تحديدها، بل هي ملك خالص لجماعات مفسرة مسؤولة عن أنشطة القراء وعن النصوص التي تنتجها تلك الأنشطة أيضا”.