السمك الرعاش 

السمك الرعاش أو الرعاد
السمك الرعاش أو الرعاد
  • محاورة منون

في محاورة مينون التي موضوعها “الفضيلة” ينتهي الحوار بمنون إلى أن يعلن يأسه من تشكيكات سقرط في إجاباته، ويطلق عليه على سبيل التهكم لقب “السمك الرعاش”فما السمك الرعاش؟ لنقرأ المقطع التالي من الحوار الذي يكشف معنى تسمية سقراط بالسمك الرعاش: 

“مينون: لقد سمعت عنك يا سقراط، حتى قبل أن ألتقي بك، أنك لا تفعل شيئاً غير أن توقع نفسك في الشك وأن تجعل الآخرين يقعون في الشك. وفي هذه اللحظة ذاتها يبدو لي وكأنك سحرتني وأجرعتني بعض عقاقيرك، وأوقعتني ببساطة في حبائل سحرك، حتى أنني أجد نفسي وقد أحاط الشك بي من كل ناحية. وأنه يبدو لي تماما، إذا كان يمكن أن أطلق دعابة، أنك تشبه أعظم الشبه من حيث الشكل ومن حيث الجوانب الأخرى سمك البحر الكبير ذلك الرعاش، حيث إنه، دائما، ما أن يقترب المرء منه ويمسه حتى يجعله يرتعش، وكذا يبدو لي ما أنت فاعله معي.ذلك أنني فعلا وحقا أشعر أني قد خدرت نفسا وجسما ولم أعد أملك الإجابة على أسئلتك. ومع ذلك فما أكثر ما تحدثت عن الفضيلة أحاديث فياضة وأمام كثيرين، وأحاديث كانت على أحسن وأجمل ما يكون، بحسب ما كان يبدو لي أنا. أما في هذه اللحظة فإني أجدني عاجزا تماما عن أن أقول ما هي؟

سقراط:إذا كان السمك الرعاش يخدر نفسه كما يصيب الآخرين بالتخدير، فأعتقد أنني كذلك وإلا فلا. إنني أضع الآخرين في الشك، ليس لأنني أمتلك اليقين، إنما، لأنني أنا نفسي في شك أكثر من أي واحد آخر، فإنني أجعل الآخرين هم أيضا يقعون هكذا في الشك” في الفضيلة، محاورة مينون،ص101

  • الشك والحوار

السمك الرعاش إذن تسمية مجازية مكثفة شأنها شأن ذبابة الخيل، تكشف معنى من معاني سقراط المتعددة، والمعنى الذي تحيل إليه هذه التسمية المجازية هنا هو الشك.الشك في الفلسفة السقراطية يقوم بوظائف متعددة. فهو الذي يفتح الحوار، فلا حوار حول معرفة يقينية ناجزة، الحوار يبدأ لحظة الشك، وهي لحظة تحف بكل أمر ممكن، ولنتذكر أن الممكن هو موضوع الجدل وقد خصص له أرسطو الكتاب السادس في الأرغانون، والأرغانون هوالمنطق الذي اشتهر به أرسطو، وهو كتاب في دراسة الأقاويل، بما هي وسائط بين الإنسان والكون وبين الإنسان والإنسان، حول شؤون الاجتماع والسياسة في الحكم والفعل.

  • الشك المدني

 إن الشك السقراطي شك حول قول دنيوي، موضوعه الإنسان وإدارة شأنه المدني، لذا يمكننا أن نطلق على الشك السقراطي تسمية الشك المدني، لنجعله مقابلا للشك الميتافيزيقي، وبهذا التقابل سنجعل من الشك المدني هو دون مقابله المختص بتكوثر الحوار في المدينة.  

لقد صاغ أفلاطون فلسفة سقراط، في شكل حوارات مطولة (كتب) وقد اتخذها أرسطو فيما بعد نموذجا لتنظيراته وتمثيلاته حول الجدل ومواضعه.

إذن لا يمكننا أن نبدأ حواراً من غير شك، فالشك يولد الحوار ومن الحوار تكون الفلسفة، وسيرة أرسطو قد مثلت ذلك خير تمثيل، فهو السمك الرعاش الشاك وهو القابلة التي تولد الأفكار بالحوار، كما كانت تولد أمه الأولاد من النساء، وهو الفيلسوف الذي كان يمشي في الأسواق ويقول “ليس بإمكان الأشجار التي في الجبل أن تعلمني شيئاًً”    

  • النطق المدني

الشك المدني يفتحنا مباشرة على مفهوم الإنسان، وعلى وجه التحديد على ما يحقق معنى إنسانيته الدنيوية، فما الذي يحقق هذا المعنى؟ يحققه مفهومان للإنسان، مفهوم الحيوان الناطق، ومفهوم الحيوان المدني، وهما مفهومان صاغهما أرسطو في تعريفه للإنسان، ويمكننا أن نجمعهما في مفهوم واحد، وهو النطق المدني. فما النطق المدني؟ وما علاقته بالشك المدني؟ 

النطق هو التصرُّف في المعرفة، تشييداً ونقداً ونقضاً وتفريعاً وتوسيعاً وتحويلاً واستثماراً وتوظيفاً، ولا يمكن التصرُّف في أي شكل من أشكال المعرفة هذه من دون استشكال، أي من غير أن تستشكل على ما تعرف أو يعرف غيرك، والاستفهام هو السؤال الاستشكالي النموذجي، كما يقول طه عبد الرحمن، ويقتضي الاستشكال حصول الشك في الشيء، وهذا يعني أن الإنسان يتوفَّر على صفة النطق، متى توفَّر على ملكة الاستشكال التي تتيح له القدرة على الشك والسؤال.

ومادام الاستشكال يقتضي الشك، ولا يحدث استشكال من غير سؤال، فهذا يعني أن لا ارتعاشة من غير شكٍ يُفضي إلى سؤال، وربما يكون هذا هو جوهر ما يعنيه عنوان كتاب الدكتور نخلة وهبة “رعب السؤال”.

  • السمك الرعاش بوصفه حالة

وهذا يفضي بنا إلى أن نفهم مجاز “السمك الرعاش”، بوصفه حالة فكرية ونفسية وعقلية ومدنية وحضارية، لذلك هي ليست ذاتاً لشيء، بقدر ما هي صفة لحالة الإنسان الناطق، أي الناطق بالسؤال والاستشكال والشك التي هي مقتضيات الحوار والمعرفة والفلسفة، وهذه المقتضيات هي شرط المدينة التي بها تكون.

إننا نشك لنحيا، أي لنكون ونُكوِّنَ مدينة، إذ لا حياة ولا مدينة بغير نطق، ولا نطق بغير سؤال وجواب (حوار) واعتراض (سؤال الجواب أو مساءلته)، إننا لا نشك لنبحث عن حقيقة واحدة للأشياء، بل لنكوثر حقائق الأشياء. عملية الشك تعبِّر عن قرار الذات بأن تسحب ثقتها المطلقة من الأحكام ومن الأشياء. الشك ليس طريقاً لليقين، كما أراده ديكارت، بل هو طريق للحياة على نحو استشكالي.

أنت تشك، لأنك تبحث عن الرعشة التي تدفعك إلى أن تحترق بالسؤال، الرعشةُ التي تجعلك لا تثق بإطلاق محض، الرعشةُ التي تهز وجودك، الرعشةُ التي تجعلك تعيش على نحو استشكالي، الرعشةُ التي تجنبك أن تكونَ في آلةٍ، إنها رعشة سقراط. من هنا، فالشك ليس تعبيراً عن عجز العقل، بل هو تعبيرعن حياته وحيويته، لذلك فالمجتمع الذي لا سمك رعاش فيه لا حياة فيه.

  • حماية السمك الرعاش

وبهذا يمكننا، أن نُعرِّف الديمقراطيةَ، بأنها حماية السمك الرعاش في مجتمع المدينة، أي حماية الشك والسؤال والاستشكال والحوار، بل الديمقراطية هي تكثير السمك الرعاش، بتوفير بيئة تكاثر له، كانت أثينا ديمقراطية بسمك سقراط الرعاش، وفقدت ديمقراطيتها يوم جرَّعته سُم الشوكران.

الذين يخافون السمك الرعاش، يخافون أن يستبدلوا وجودهم ويفتحوا ممكناتِهم ويسألوا ذواتِهم ويشكوا في معرفتهم، إنهم يخافون التصرُّف، التصرُّف في ذاتهم وعالمهم ومعرفتهم، وفي مَدِينيَّتِهم، أي في الصفات التي تجعل من حاضرتهم مدينة، أي التي تصنع إنسانيتهم الحاضرة، وذلك بوصف المدينة فضاء لتوسط القول بين الإنسان والإنسان، ولا قول بغير إنسان ناطق بالسؤال والاستشكال والشك. لا مدينة بغير سمك رعاش يشك ويسأل ويستشكل. هل يمكن أن توجد مدينة (دولة) بدون وجود برلمان يسأل ويشك، وثقافة تسأل وتشك، وتعليم يسأل ويشك، وصحافة تسأل وتشك، ومثقف يسأل ويشك؟ 

ولعل تعريف أرسطو للإنسان بأنه حيوان مدني، يتضمَّن مقتضيات ما سبق، والشك المدني بالمفهوم الذي جعلناه مقابلاً للشك الميتافيزيقي يفسِّر معنى هذا التعريف، أي معنى مدنية هذا الحيوان، مدنيته التي تقوم على الشك، فبهذا الشك يؤسس مدينته، وهو مدني بشكه، ولولا هذا الشك لما تكاثرت المدن التي شيَّدها الفلاسفة في ممكنات مخيلاتهم أو التي أشرفوا على تشييدها في واقعهم أو أوحَوا بمحاكاتها. أوَ ليس ما يُسمَّى الآن بالفلسفة السياسية، هو حصيلة ما راكموه من عمارات هذه المدن وأنقاضها وتناقضاتها؟!!  

  • أقواس نيتشه

يكفي، وفق نيتشه، أن نضع كلمات (عقل) أو (روح) أو (إله) أو (تاريخ) أو (دولة) أو(عدل)، بين قوسين لكي ندخل الشك فيها، ونرسم مسافة بيننا وبينها بل نستخف بها.

فلسفة نيتشه فلسفة أقواس بامتياز، أقواس الشك والمسافة والاستخفاف، كان يحاصر السماء والأرض بأقواسه، يحاصر يقينياتهما المفرطة بشكِّه المفرط، تستوي الأشياء باليقين وتختلف بالشك، تستوي السماء والأرض باليقين وتختلفان بالشك، تدَّعي الأرض أنها تمثل السماء باليقين، ولا شيء غير الشك يكذب ادَّعاءها، لذلك يقتتل الشك واليقين في الأرض، ومتى انتصر اليقين صارت الأرض قرية ضيقة وتباعدت السماء وتوحشت، ومتى انتصر الشك على اليقين صارت الأرض مدينة واسعة واقتربت السماء من الأرض وتروَّضت.

والسماء والأرض يفعلان، كل ذلك: الاستواء والادعاء والتباعد والتقارب والصيرورة والتوحش والتروض، في الإنسان، أي في روحه وعقله، فيستحيل الإنسان بحركة فعلهما فيه، أي يتحوَّل ويكون بحسب طبيعة هذه الاستحالة وتحولها. السماء في الإنسان ليست هي السماء في السماء، والأرض في الإنسان ليست هي الأرض في الأرض، فالأشياء لا تبقى في ذاتها، حين تظهر في الإنسان، لذلك يحتاج الإنسان إلى الشك ليختبر ما يظهر فيه، أي أن يضع ما يظهر له، وهو يعيش دنيويته، بين قوسين، أن يضع مدينته بين قوسين، ليتيح لفضاء قولها الحياة على نحو استشكالي.

  • الشك والجهل

الشك المدني ليس كما تخبرنا معاجم الفلسفة، تردداً بين نقيضين لا يرجح العقل، لعجزه وجهله، أحدهما على الآخر، وذلك لوجود إمارات متساوية في الحكمين، أو لعدم وجود أية إمارة فيها. الفلسفة المنحازة لليقين ترى هذا الشك ضرباً من الجهل، لذلك هي لا تحتفي إلا بالشك المؤقت الذي يتيح لك مراجعة معتقداتك تمهيداً لإسباغ صفة اليقين المطلق عليها، هكذا كان ديكارت وكان الغزالي، يشكَّان بإفراط ليوقنا بإفراط.

لكن الذي بقي حياً منهما، هو شكَّهما، فنحن لا نذكر ديكارت إلا ويسبقنا منهجه الشكِّي، ولا نذكر الغزالي إلا وتسبقنا حيرته وتجربته في المنقذ من الضلال، وبما بقي حياً منهما صار عَلَمَين وعالِمَين، وهذا ما يدحض معنى أن الشك جهل، ويثبت أنه علم وحياة، بل هو ليس تردداً بين شيئين، بقدر ما هو اجتراح حياة إشكالية تصهر حيوات، ألم يكن (هيجل) يتحدَّث عن حقيقة هذه الحياة وهو يتحدَّث عن الروح وتجربتها التاريخية المنصهرة بالنفي ونفي النفي؟! 

الشك المدني ليس الطريقة الفلسفية الموصلة إلى اليقين، أي ليس هو شك مؤقت، الشك المدني، كما هو السمك الرعاش حالة تحمينا حيوية بقائها، من استبداد اليقين (اليقين الفلسفي والديني والأيديولوجي) الطارد للشك الذي يراه في صورة وحش وليل وظلام وضياع وكفر ورجس.

  • شك بطعم الشوكولا

المدينة التي تعيش على اليقين المفرط، تستحيل قرية، تعيش على التماثل والانسجام التام والتشابه والألفة والتطابق، الذي يضيق بالشكولا وحبها واختلاف مذاقها وثقافتها، على النحو الذي ترويه الممثلة البارعة (جولييت بينوش Juliette Binoche) في دور (فيان Vianne) في فيلم (شوكولا Chocolat)، وهو فيلم يعرض فضاء الاختلاف في إحدى القرى الفرنسية (روسكاري) خلال الستينيات.

كانت شوكولا فيان تجسِّد الشك المدني في شكل حياة هذه القرية المفرطة في اليقين، وحين قُدِّر لهذه القرية أن تخرج على مُسيِّرِي شؤون اليقين والتقديس فيها بفضل طعم الحب الذي حرَّك جوهر إنسانيتهم، انفتحت ممكنات حياة جديدة لأناس هذه القرية، فصار فضاء القرية مدنياً، وفتح تلك الممكنات، وهذه هي وظيفة الشك بالدرجة الأولى. لذلك فالشك المدني ليس تردداً بين نقيضين، فالمدينة تكون بتكوثر نقائضها وتعدُّدها، الشك المدني ليس طرداً للنقائض، بل جلب لها وإحضار، من أجل التعايش والحياة، هكذا تتجاوز المدينة تناقضاتها. 

اليقين الذي يطرد الشك، يطرد الإنسان بتجريده من إنسانيته، ومتى تمكَّن اليقين الميتافيزيقي من السيطرة على الإنسان، طرد شكل ممارسته المدنية (شكِّه المدني) وأحال شبه حياته يقيناً لا ماء فيه. اليقين الميتافيزيقي يرى الأرض سماء لا يجوز الشك فيها، لذلك يبقى يطارد الشك المدني بتهم الشك الميتافيزيقي، فالشك في الأرض شك في السماء.

إنني أرى في الشك إقداماً وعلماً ونوراً وإيماناً وحياةً ومسافةَ أمانٍ وقوسي نجاةٍ واستشكالَ سؤالٍ وإرادةَ إنسانٍ. لنتذوق الشك بطعم الشوكولا، لا بطعم الشوكران. إلهي هَبْ لي شكاً أستضيء به من مدلهمات اليقين. 

  • الشك في السيادة.

الشك في مشروعية السيادة (التي تجعلك في آلة قبيلة أو طائفة أو مذهب أو عرق أو عائلة أو دين) الخطوة المدنية الأولى، لتكون مواطناً مدنياً، مواطناً بمعنى الفرد الذي يملك حق الشك الذي يُجنِّبه الإذعان والتسليم لسيادات الآلة في أشكالها التسلطية الجماعية، أي الحق في أن تضع هذه السيادات بين قوسين نيتشويين، فأن تكون مواطناً يعني أن يكون إنسانك في ذاتك، لتكون ذاتك لك، لا لغيرك فـ“كلّ إنسان في ذاته فذاته له، وكل إنسان في آلة فذاته لغيره” كما يقول الفارابي في مدينته الفاضلة. أن تكون مواطناً يعني أن تُحدَّد واجباتُك وتُشتق حقوقُك من ذاتك الفردية لا من عضويتك في جماعة سيادتها ليست لها، أي ليست لإرادتها، فالسيادة إرادة، كما الشك إرادة، إرادة السيادة عنصر سياسي وثقافي وفلسفي، وهو ما يخلق الأمة الحديثة التي هي أمة المواطنين حسب تعبير عزمي بشارة، وإرادة السيادة هي الوجه الآخر لإرادة الشك، فالشك المدني إرادة كما السيادة المدنية إرادة.

بهذا المعنى، تكون المواطنة هي الوجه الآخر لسيادة الأمة، قبال سيادة القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الدين أوالعائلة أو العرق، المواطنة تكتسب وتتكَّون وتتشكَّل ويعاد تشكيلها، كل مرةٍ في صيرورات لا تنتهي، بالشك في هذه السيادات التي تصوغها مركبات إطلاقية، ترهن حقوق الفرد بعضويته في مجموعة هذه السيادات التي تسود بيقينياتها المفرطة.

ما معنى أن المواطنة هي الوجه الآخر للسيادة؟

الشك يمنحك حق السؤال الذي تُصادره هذه المركبات، وبهذا الحق تكون سائلاً فاعلاً وسيداً يطلب، لا مَسوداً يُطلب منه الخضوع الدائم والتسليم، تكون سيداً يُسائل يقينيات هذه المركبات: كيف تمَّ تثبيت محمولاتها؟ وكيف صارت سيدة الأمر والنهي والمعنى؟ وكيف صارت مرجعية تُقاس بها مواطنية الإنسان؟ 

هذا الشك في السيادة، يمكننا من تحقيق مفهوم المواطنة المنفكة من المرجعيات المطلقة وبهذا المفهوم تكون الديمقراطية، ويكون المجتمع المدني، فيكون الإنسان الذي به تكون الأمةُ جماعةَ المواطنين في دولة. الأمة جماعة مواطنين لا جماعة آلة. بهذا يمكننا القول: الشك شرط المواطنة.

  • الشك في الجامع

الشك المدني، شك في مفاهيم هذه السيادات التي بها تحوَّل المركب والتاريخي والمصنوع معطى بدهياً فطرياً غير قابل للمساءلة والاعتراض، الشك المدني شك في جامع جماعتك، وتحويله من معطى سابق إلى مركب مدني، الشك المدني جعل الحق مشتق من الفرد لا مشتق من الجماعة.

إن مهمة المجتمع المدني الممارس للسيادة، تتمثل بتحصين هذه السيادة التي تجعل من الإنسان مواطناً ضد سيادات الآلة، وتحصين مواطنية الإنسان، تكون بتحصين قوله وفعله من الارتهان لما هو خارجه، ولا قول ينمو في المدينة ويتكوثر ويتحصن ضد العقم والتصلب والقولبة إلا بالشك الذي هو حياة.

تفكيك السيادات المطلقة العمودية، هو الوجه الآخر للشك فيها، بجعلها دنيوية تاريخية تقوم بها إرادة حرة، هي إرادة السيادة التي هي شرط الأمة الحديثة، أمة المواطنين المؤمنين بالإنسان. فهل نشك في أمتنا ومواطنيتنا وإنساننا؟!!! هل نضعهم بين قوسين؟!!! هل نختبر مدنيتهم؟!!!

 

  • حالات الشك 

يرصد ميشال إسحاق في كتابه “المعاني الفلسفية في لسان العرب” ما يسمِّيه مصاعب الوصول إلى المعرفة والعلم، وهي: 

حال الشك

حال الريبة

حال الالتباس

حال الاشتباه

حال الظن

حال الضلال

حال التردد

حال الحيرة

الشك هو حقل هذه الحالات، أو لنقل هو حقل مقتضيات هذه الحالات، أو لنقل حقل الوعي بهذه الحالات، أو لنقل حقل وعي النقص بهذه الحالات، أو لنقل حقل الحاجة إلى هذه الحالات، أو لنقل حقل تحويل هذه الحالات صيرورات لا تنفد، أو لنقل حقل مصاعب الوصول إلى الطمأنينة، أو لنقل حقل مصاعب الوصول إلى اليقين.

بكل هذه الأوَّات( جمع أو) يتخصَّب حقل الشك، وينتج معرفة لا يسكن القلب بها ولا يطمئن، فـ”كل طمأنينة يسكن القلب بها لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” كما يقول ابن عربي.

  • الشك وعي بالنقص. 

كيف يكون الشك حاجة؟ وكيف يكون وعي نقصٍ؟

يدرس هيجل التطوُّر التاريخي للمجتمعات وفق مقولته “الحاجة وعي النقص” أي لا تكون الحرية حاجة إلا حين نعي نقصنا لها، وعي النقص بالحرية يعني الحاجة إلى الحرية، متى انتف الوعي بنقصها انتفت الحاجة إليها، تظل الحاجة إلى الحرية ما دام هناك وعي بها، وكل عصر وكل تاريخ يتشكَّل وفق هذا الوعي بالنقص، وكأن التطوُّر التاريخي يكون هكذا سدّ حاجة يعقبها وضع جديد، ينشأ فيه وعي بنقص آخر يتحوَّل إلى حاجة يتمّ البحث عن سدّها.

هكذا يمكننا أن نفهم الحاجة إلى الشك بوصفه وعياً بنقص معرفتنا للشك، غياب الشك نقص في معرفتنا، نقص في وعينا لا وعي بنقصنا، لذلك تظل الحاجة إلى حقل الشك قائمة، ما دام هناك وعي بالنقص.

بهذا يمكننا أن نستثمر مقولة النفري “العلم المستقر هو الجهل المستقر”، بأن نجعل الجهل المستقر/العلم المستقر يماثل عدم الوعي بالنقص، أي أن العلم المستقر هو جهل بالشك، هو عدم وعي بالشك، هو عدم وعي بنقصه للشك، لذلك تغيب حاجته إلى الشك.

بهذا يمكننا أن نقرأ تاريخ الشك، بقراءة تاريخ العلم، كما يمكننا أن نقرأ تاريخ الشك بقراءة تاريخ الجهل. لقد بدأ تاريخ للمعرفة حديث، حين بدأ تاريخ للشك حديث، حين بدأ ديكارت يشك، وبدأ تاريخ للشك ما بعد حديث حين بدأ نيتشه، يشك في يقين علم ديكارت المستقر.

بهذا الوعي بتاريخ الشك، يكون الشك معرفة لا تعرف الاستقرار، معرفة تحذر الجهل المستقر، لأنها تحذر العلم المستقر. 

 

  • حقل الشك

كي يكون الشك منتجاً، لا بدَّ أن يكون له حقل، أي بقعة مزروعة، فالمفهوم لا يفهم معناه، أي لا يكون مفهوماً، ولا تتسع دلالته، ولا تستشكل أسئلته، ولا يُنتج معرفة، ولا يكون مجالاً للتفكير إلا حين يحتقل، أي إلا حين يتخذ له حقلاً هو بمثابة نطاق منتج، الحقل هو تربة المفهوم ومزرعته ونطاقه، المفهوم لا ينمو معزولاً وحده، بل ينمو في تربة مختلطة.

 يحتقل المفهوم بحسب هذه المقالة، بكل طرق التأثيل التي يفصِّلها طه عبد الرحمن في كتابه فقه الفلسفة، وهذه الطرق تتضمن أنواعاً من التأثيل، هي التأثيل المضموني والاستعمالي والنقلي والبنيوي والحقلي، وبهذا لا يقتصر حقل المفهوم على التأثيل الحقلي. فالاحتقال هنا يحيل إلى معنى الحياة، أي كل ما يمد المفهوم بالحياة ولوازمها من الاتساع والحركة والنمو والتمكن والامتداد، والتأثيل عند طه عبد الرحمن يحيل إلى هذا المفهوم، إذ كل ما يُزوِّد المعنى الاصطلاحي للمفهوم بدلالات مضمرة، تُمكِّن المفهوم من الحياة، يعد تأثيلاً.

ومتى كان للمفهوم حقل كانت له حياة، ينمو فيها ويتسع ويتمكن ويمتد، والحقل يكون حياة باستشكالاته، أي بالأسئلة التي ينتجها، فهي أدوات حرث تربته، وبالمجازات التي يتسع بها ويرى ويعْبر ويُقلِّب وجوه المعاني، وكما تكونُ الحياةُ حياةً بمتناقضاتها ومتضاداتها، يكون الحقلُ كذلك حياةٌ بالمفاهيم المتقابلة فيه، من هنا فالشك ليس إقصاء لليقين، ولا هو تابع له ولا هو خطوة تقود إليه، هو مفهوم به، وحقل به، وحياة به.

بهذا يكون الحقلُ وسطاً للتفكير، نحن نفكِّر في حقول، وبهذا يكون وسطاً للحياة فالإنسان يحيا بالتفكير ويتمكن ويمتد ويتصرَّف، وبهذا يكون دخولُ الحقل دخولٌ للحياة ومقتضياتها (النمو والاتساع والتمكن والامتداد). فكيف يكونُ الشكُ حقلَ حياةٍ؟

  • الشك حقل حياة. 

يكون الشك حقل حياة بما يقتضيه من سؤال ونقد وحيرة، وبما يقابله من يقين وطمأنينة ووثوق، وبما يجاوره من ريب وظن وتردد. يغدو الشك مفهوماً بكل هذه المقتضيات والمتقابلات والمتجاورات. هذا الحقل بمثابة السياق الذي نستند إليه لفهم الشك، وتجريد الشك من حقله، يعني انتزاعه وعزله عن حيوية الحياة وقوتها. وفي لسان العرب“الشك الاتصال واللصوق.. كل شيء إذا ضممته إلى شيء فقد شككته”، من هنا فالشك لا يفهم، إلا في اتصاله ولصوقه وانضمامه إلى حقلٍ، يكون بمثابة التربة التي فيها ينمو. 

 

بهذه الحياة، الشك ليس حالة تردد مطلقة، وليس حالة وسوسة، وليس حالة عزلة، وليس حالة تفكير غير عملية، وليس حالة استقالة من الواقع، وليس عزلة عن الحياة، بل رغبة في حياة أخرى، أو رغبة في الحياة على نحو استشكالي، أي على نحو لا يعرف الاستقرار المطلق فـ”العِلْمُ الْمُسْـتَـقِــرُّ هُوَّ الْجَهْلُ الْمُسْـتَـقِرُّ” كما يقول النّفري، ولا المعرفة الأحادية، “المَعْرِفَةُ إِذَا لَمْ تَـتَـنَوَّع مَعَ الأَنْفَاسِ لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” كما يقول ابن عربي، من هنا ليس الكامل من يكون واحداً مستقراً، بل “الكَاملُ مَنْ عَظُمَتْ حَيْرَتُهُ“، هكذا كان ابن عربي يرى كماله المحتار، والحيرة مقتضى الشك، أي الحيرة مقتضى الحياة الاستشكالية التي لا يكف فيها الإنسان الكامل أو الإنسان الأعلى عن السؤال والإشكال والامتداد والتناقض والتضاد والتقابل، أي لا يكف عن أن يكون “مزيجاً من العالِم والشاعر والمفكر والعاشق وقيصر والمسيح” كما يصف نيتشه إنسانه الأعلى، الذي لا يكف عن الحياة المزيجة بإرادته.

إنسان ابن عربي الكامل وإنسان نيتشه الأعلى، هو إنسان حقل الشك بامتياز، هو إنسان الحيرة بامتياز، هو إنسان المزج بامتياز، هو إنسان الحياة بامتياز.

 

 “فيا أيها الصديق لا تطمح أن تجد في حافظ استقراراً أو نوماً هادئا”ً وكأن حافظ الشيرازي، كان يَحْذَرُ الطمأنينةَ التي لا يُعَوِّلُ عليها ابن عربي “كل طمأنينة يسكن القلب بها لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” 

  • ترجيس الشك

يورد ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت/329هـ) في كتابه الكافي، وهو أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الشيعة، في  البَاب  المخصص للشَّكِّ، الأحاديث التالية:

1- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ كَتَبْتُ إِلَى الْعَبْدِ الصَّالِحِ (ع) أُخْبِرُهُ أَنِّي شَاكٌّ وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ (ع) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وَأَنِّي أُحِبُّ أَنْ تُرِيَنِي شَيْئاً فَكَتَبَ (ع) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِناً وَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَاناً وَأَنْتَ شَاكٌّ وَالشَّاكُّ لَا خَيْرَ فِيهِ وَكَتَبَ إِنَّمَا الشَّكُّ مَا لَمْ يَأْتِ الْيَقِينُ فَإِذَا جَاءَ الْيَقِينُ لَمْ يَجُزِ الشَّكُّ وَكَتَبَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ قَالَ نَزَلَتْ فِي الشَّاكِّ. 

2-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ لَا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا وَلَا تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا. 

3-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزَّازِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) جَالِساً عَنْ يَسَارِهِ وَ زُرَارَةُ عَنْ يَمِينِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ فَقَالَ كَافِرٌ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ فَشَكَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ كَافِرٌ قَالَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى زُرَارَةَ فَقَالَ إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ. 

4-  عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ الْحَلَبِيِّ عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ بِشَكٍّ. 

  5- الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ إِنَّ الشَّكَّ وَالْمَعْصِيَةَ فِي النَّارِ لَيْسَا مِنَّا وَلَا إِلَيْنَا. 

6-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ مَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ بَعْدَ مَوْلِدِهِ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَفِئْ إِلَى خَيْرٍ أَبَداً. 

7-  عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ لَا يَنْفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالْجُحُودِ عَمَلٌ. 

8-  وَفِي وَصِيَّةِ الْمُفَضَّلِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ مَنْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ وَأَقَامَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ إِنَّ حُجَّةَ اللَّهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. 

9-  عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) قَالَ قُلْتُ إِنَّا لَنَرَى الرَّجُلَ لَهُ عِبَادَةٌ وَ اجْتِهَادٌ وَ خُشُوعٌ وَ لَا يَقُولُ بِالْحَقِّ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئاً فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّمَا مَثَلُ أَهْلِ الْبَيْتِ مَثَلُ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَا يَجْتَهِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَّا دَعَا فَأُجِيبَ وَإِنَّ رَجُلًا مِنْهُمُ اجْتَهَدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ دَعَا فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ فَأَتَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (ع) يَشْكُوا إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ وَيَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ قَالَ فَتَطَهَّرَ عِيسَى وَصَلَّى ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ يَا عِيسَى إِنَّ عَبْدِي أَتَانِي مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي أُوتَى مِنْهُ إِنَّهُ دَعَانِي وَفِي قَلْبِهِ شَكٌّ مِنْكَ فَلَوْ دَعَانِي حَتَّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ وَتَنْتَثِرَ أَنَامِلُهُ مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عِيسَى (ع) فَقَالَ تَدْعُو رَبَّكَ وَأَنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ نَبِيِّهِ فَقَالَ يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ قَدْ كَانَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَذْهَبَ بِهِ عَنِّي قَالَ فَدَعَا لَهُ عِيسَى (ع) فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَبِلَ مِنْهُ وَصَارَ فِي حَدِّ أَهْلِ بَيْتِهِ.

ضمن أي فضاء معرفي تشتغل هذه الأحاديث؟ وما علاقتها بالحروب الكلامية بين الملل والنحل؟ هل من المجدي قراءتها قراءة توفيقية؟ هل مفهومها للشك هو مفهوم السمك الرعاش؟ هل تُرجَّس هذه الأحاديث مفهوم الشك المدني؟ هل نشك في أحاديث الكليني التي كان المحدث الاسترأبادي يراها كلها أحاديث قطعية الصدور؟

  • الشك في المعتمد

 

(canon) بحسب المعجم يعني: قائمة ثقة للمؤلفات، الصحيح من النصوص الدينية، الشريعة، القانون، المبدأ، قواعد، لائحة بالأسفار المعترف بأنها تؤلف الكتاب المقدس.

يشير المعتمد أو القانون (canon) إلى مجموع الكتابات الدينية المسيحية المقبولة بوصفها نصوصاً صحيحة ومن ثَمَّ مقدَّسة. وقد انتقل هذا المفهوم إلى الدراسات الأدبية والثقافية والنقدية ليشير إلى مجموع النصوص أو الأعمال المعتمدة ضمن تراث محدَّد، وفي حقل من حقول المعرفة، بوصفها تنضبط ضمن معايير أو قيم معينة، لتشكِّل وحدة نصية متجانسة، أو تشكِّل أعمال مؤلف ما. (انظر: دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي، سعد البازعي).

الكتب الستة (صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن البيهقي، سنن أبو داود، سنن الترمذي، سنن ابن ماجه) تمثل عند أهل السنة والجماعة (معتمداً لذلك سُميَّت بالصحاح، لأن أحاديثها وما تحتويها مثل الراوي والسند والمتن حائزة لشروط الصحة، والصحيح اصطلاحاً، هو الحديث الذي اتصل سنده عبر رجال.

وهذه الكتب الستة تشكِّل الركن الأصلي لجوامع أهل السنة، فهم يرجعون إليها ويعتمدون عليها في العقائد والفروع والتفسير والتاريخ، واشتهرت فيما بعد بالصحاح الستة، ويطلق تارة على صحيح البخاري (ت 256 ه‍( وصحيح مسلم (ت 262 ه‍(الصحيحين، وعلى الكتب الأربعة الأخرى بالسنن.

والكتب الأربعة (الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) تمثل عند الشيعة (معتمداً)، وقد ورد في الحديث “ما في الكافي لشيعتنا كافي” وهي تسمية أقرب إلى التعميد بالمفهوم الذي نستخدمه هنا، أي اعتماد نصوص كتاب ما مرجعاً موثوقاً وصحيحا، ويحتكم إليه.

إذن المعتمد يمثل الكتاب الصحيح أو الكافي الذي تعتمده جماعة معينة ضمن حقل معين، لكن المعتمد حين يكون كتاباً دينياً، فإنه لا يمثل حقلاً محدداً من حقول المعرفة، بل يمثل الحقول كلها، حقول الإنسان كلها التي يعيش فيها ويحيا وبها يرى، وبهذا يكون المعتمد الديني معتمدَ حياة جماعة ما، لذلك نجد عناية هذا المعتمد بتفاصيل حياة الإنسان، وهذا ما يجعل الجماعة تعتمده نصاً لحياتها، تجد فيه تفاصيل دقيقة لكل شيء، فهو شامل ويقدِّم للإنسان الحياة المعتمدة في أكله وسلوكه وزواجه وأعماله وعلاقاته وجسده وروحه ومقدساته وتاريخه ودنياه وآخرته ومستقبله وماضيه وأصله وسمائه وأرضه وخصومه ومعرفته ورؤيته وقيمه. على سبيل المثال يتضمَّن صحيح البخاري الكتب التالية: كتاب الصلاة، كتاب الجماعة والإمامة، كتاب الكسوف، كتاب الجنائز، أبواب فضائل المدينة، كتاب السلم، كتاب الحوالات، كتاب الكفالة، كتاب المزارعة، كتاب الخصومات، كتاب المظالم، كتاب الشركة، كتاب الصلح، كتاب المرضى، كتاب الطب، كتاب اللباس، كتاب الأدب، كتاب الفتن…إلخ 

هذه الكتب، نصوص بها يحيا الإنسان وفق نموذج ما محدَّد ومرسوم ومعطى سلفاً. الخروج عليها خروج من الحياة، حياة الجماعة الصحيحة المعتمدة الكافية، وخروج من قواعدها وشريعتها وقوانينها ومبادئها.

وفي الوقت الذي تُثبِّت فيه هذه المعتمدات حياة الجماعة وفق نمط خاص، فإنها تُقصي أشكالاً أخرى من الحياة والوجود، وتُقصي معها ذوات أخرى تعيش على نمط مغاير لنمط حياتها، وذلك لأنها تتحول إلى مركز يُهمِّش عداه، ويستثنيه، ويَظهر شكلُ هذا التمركز في تحيزات عرقية أو جنسية أو طبقية أو دينية أو مذهبية.

وبقدر ما تُشكِّل هذه التحيزات الحياةَ على نمطٍ معيَّن، فإنها في الأصل مُشكَّلةٌ وفق حيوات سياقات تاريخية معينة، وجدليةُ التشكيل هذه تَظهر في صورة ثقافة جماعية، تُعتمد هذه الكتب بعد أن يكون رجالها المعتمدون قد أضفوا عليها قيمة رمزية تصل إلى حد التقديس، وأضفوا على أصحابها تبجيلات وكرامات، وحين تعتمد الثقافة هذه الكتب تتحول كل محاولة نقدية لها إلى عمل فردي خارج على الثقافة، لذلك تصب عليه الثقافة لعناتها وتطرده ولا تعترف به، ولا تعتمده ما دام هو ضد معتمدها المقدس، وشكوى كبار علماء الدين ممن يطلقون عليهم مسمَّى العوام، هو في جوهره شكوى من الثقافة التي هم (العلماء) جزء منها.

كتاب الجماعة أو معتمدها، لا بدَّ أن يُحصَّن من الشك والنقد، لتبقى حياة الجماعة محصَّنةً ومتجانسةً ومطمئنةً، وهو بهذه الحصانة، يرقى لمرتبة الاعتماد، وعملية التحصين كما هي عملية التشكيل، متبادلة بين الكتاب والجماعة، فالمعتمد يجرم ويُرجِّس الشك في معتقدات الجماعة، والجماعة تجرم وتُرجِّس الشك في صحته وكفايته. 

لذلك لا يمكن أن تقف المعتمدات من الشك غير موقف الترجيس، وذلك كي تحمي نفسها، وتحمي جماعتها وتحمي مذهبها في الحياة. والخطورة تكمن حين يتسرب ترجيس الشك من نطاق الإيمان بالله والنبوة ليمتد إلى الإيمان برجالات المذهب ومعتقدات المذهب وثوابته، ثم ينداح هذا الترجيس إلى محيط الحياة والتاريخ، فيصبح الشك كفر في كل تجلياته، فتعتمد الثقافة هذا الحكم التكفيري بإيعاز من معتمدها الذي يصوغ لها الحياة. هكذا يمكننا أن نفهم باب الشك في المعتمدات، ومادام المعتمد حياة بنمط معين، فالشك فيه شك مدني لا ميتافيزيقي.

  • الشك في محمول المُعْتَمَد

النقد نشاط فكري يتخذ من محمولات الثقافة موضوعاً لشكه. هناك مجموعة من القضايا المركبة من موضوع ومحمول، تسمَّى في أبواب الجدل من كتب المنطق بالمشهورات، لأن الجماعة تؤمن بها وتسلم بها، فتشتهر بها فتصير ثقافتها. توجد هذه المشهورات في الثقافة أو لنقل تُوجِدُ هذه المشهوراتُ الثقافةَ فتكون هناك جماعة، فلا ثقافة بلا مشهورات تُوَحِّد قيم الجماعة ورؤاهم وأحكامهم وسلوكهم.

حتى إننا يمكن أن نقول: الثقافة هي مشهورات الجماعة التي تشكِّل مُعتمدَها. تصوغ هذه المشهوارت/الثقافة أقوالَ الجماعة ونصوصَها وحِجاجَها وأدبَها وتدينَها وسياستَها وحياتَها. ولأن هذه المشهورات تُشكِّلُ مُعتمدَ الجماعةَ، فإنها تهيمن على جميع الأفراد وتتحول إلى سلطة وقوة تفرض نمطاً من الممارسة الجماعية.

الثقافة في كل لحظة تاريخية تسند إلى موضوعات العقل والإنسان والله والأدب والتاريخ واللغة والطبيعة والدين والمرأة والرجل، محمولات تأتي في صيغة أحكام أو صفات أو تعريفات، فتقول مثلاً: 

“نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة للاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية الأولاد” قاسم أمين، “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” هوبس، “المشاعر الأخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة” هيجل.

في هذه الأقوال المرأة موضوع، ومحموله معدَّة للاشتغال بالأعمال المنزلية، والإنسان موضوع ومحموله ذئب، والزنجي موضوع ومحموله ضعف مشاعره الأخلاقية.

لكل محمول من هذه المحمولات سياقه الثقافي التاريخي، الذي يسمح له أن تعتمده الثقافة قولاً من أقوالها الشائعة المقبولة، وتستعين الثقافة بحججها وأدلتها ونصوصها، لتثبيت هذه المحمولات.

 وبهذا التثبيت تكتسب الموضوعات وجودها، فالمرأة موجودة في الثقافة وفي عقول الجماعة الثقافية، بوصفها مُعدَّة للاشتغال بالأعمال المنزلية، والإنسان موجود بوصفه ذئباً، والزنجي موجود بوصفه صاحب مشاعر أخلاقية ضعيفة، هكذا يمكننا أن نتحدث عن الوجود بما هو محمول، أي بما هو مسند في ثقافة ما لموضوع، فالموضوع يتحدَّد وفق المحمول. ولأن هذا التحديد ثقافي وتاريخي وغير ثابت أو فطري أو طبيعي، فإننا لا يمكننا أن نمارس النقد في ثقافتنا كنشاط فكري إلا بالشك في المحمولات التي تعمل الثقافة على تحويلها ثوابت لموضوعاتها. والشك في المحمولات هو شك في أقوالنا، لأن المحمولات هي ما نقوله عن هذه الموضوعات، ماذا نقول عن المرأة؟ ماذا نقول عن الآخر؟ ماذا نقول عن الشك؟ ماذا نقول عن التاريخ؟ ماذا نقول عن الأدب؟ ما نقوله من محمولات، هو ما يشكِّل مفاهيمنا لهذه الموضوعات.

النقد بما هو شك في المحمول، حركة تجديد، وتحويل وتغيير، فالنقد تحريك الموضوع بتغيير المحمول، إلا أن الثقافة في لحظة اهتزازها، تحمل على هذه الحركة بمحمولات التخريب والهدم والعدم والعبث والتهديد، فتصير حركة النقد حركة شك مشبوهة ومُرجَّسة، ذلك لأن حركة النقد، هي شك في المحمول الواحد، ومقاومة ضد استبداد المحمول الواحد الجامع المانع، فالنقد يُكوثر محمولات الموضوع بتفكيك سلطة هذا الواحد المستبد، والمستبد لا يقبل أن تتعدَّد الأشياء بتعدُّد محمولاتها.

حوارات سقراط وارتعاشاته، كانت تقوم بهذه الوظيفة النقدية، التي تستعين بالشك لتتفحص محمولات الثقافة اليونانية، التي تسندها لموضوعات الفضيلة والنفس والخلود والعدل.

والحمل كي يُنتج قضية جديدة، أو موضوعاً جديداً، أو فكراً جديداً، أو وجوداً جديد، لا بدَّ أن يكون أصيلاً بِسَبْقه، ومَرِناً بقبوله للتعدُّد، وطلقاً بحرية انفكاكه من سلطات تقييد اللعب الحر أو ما يسمِّيه نيتشه بالمعرفة المرحة.

من هنا فالنقد توسيع إمكان الحمل، ذلك لأن النقد تحريض على حمل جديد، والنقد ضد موانع الحمل، والنقد حمل ضد الشرعية المُسلَّم بها، والنقد ضد طمأنينة المحمول، وضد استقراره في الموضوع. النقد شك في الحمل.

*نشرت هذه المادة في شكل أعمدة صحفية في الصفحة الثقافية في جريدة الأيام البحرينية في العام 2004.

اترك تعليقاً