‘’وإذا كان تعريف ‘’السياسة’’ في علم السياسة الغربي، يرتبط بمفاهيم الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، ويستبطن قيم الصراع والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع، فإن مفهوم ‘’السياسة’’ في الرؤية الإسلامية التوحيدية هو القيام على الشيء بما يصلحه، وهي إصلاح الخَلْق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة؛ وبذا تتسم بالعموم والشمول وتخاطب – كمفهوم – كل فرد مكلف في رسالة الإسلام بأن يرعى شؤونه ويهتم بأمر المسلمين، ويحكم بما أنزل الله وينصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وبذا يرتبط مفهوم السياسة بالتوحيد والاستخلاف والشريعة والمصلحة الشرعية والأمة، ويتكامل العمل السياسي من خلال مفهوم الواجب مع باقي مفاهيم الرؤية الإسلامية مستبطنًا القيم الإسلامية وأبرزها العدل’’ هبة رؤوف عزت، من مفهوم العمل الشرعي إلى ساحة العمل العام.
أعتذر عن هذا الاقتباس الطويل، لكني آثرت إيراده على طوله، لأنه سيمنحني بالاختلاف معه فرصة لمقاربة مفهوم الشارع وتفسير حركته.
يمكننا أن نفهم الشارع بشارعه، أي يمكننا أن نفهم الشارع بالشرع الذي يحتكم إليه. الشارع الذي يجد شرعه يحيل إلى الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، هو شرع أيضاً، بمعنى أن الشارع هنا هو مصدر للسلطة وهو الذي يمنح السلطة شرعيتها، ويحدد لها طريقها الذي تسير فيه، لذا فهو شارع بالمعنى الفقهي وشارع بالمعنى السياسي.
الشارع هنا يتبادل السلطة والقوة والحكم والإدارة واللعب والدور، لا توجد جهة تُهيمن عليه وتُملي عليه واجبها الشرعي .ليس هناك (أعلى) يُنزل عليه، بل هناك ما يجاوره ويبادله ويتعاطى معه. ليس لهذا الشارع مصدر غير ذاته وتجربته وفعله.
هذا الشارع وليد تجربة الحداثة، التجربة التي نحن مدينون لها في ابتكار مفهوم الدولة في شكلها الحديث، وهي التجربة التي جعلت من السياسة تجربة دنيوية نخوضها بأخطائنا التي نصححها على الدوام بأخطاء أخرى، ولأن تجربتنا لن تكف عن الخطأ، فلابد أن نبتكر نظاماً سياسيا يَحمي الخطأ ويُشرِّع له، ويُعطي الشارع الحق في تصحيحه. لذلك يمكن أن نقول ‘’يتشكل الشارع وفق مفهومنا للسياسة، فالسياسة التي تحيلنا إلى الشارع لا إلى السماء سياسة تُمد الشارعَ بفعل الحركة التي لا وصاية غيبية عليها، وهذا ما يجعل من الشارع شاهداً على تجربة الإنسان في الأرض’’.
هذا لا يعني أن هناك سياسة خالصة الوجه إلى السماء، وسياسة خالصة الوجه إلى الأرض، ولكن بقدر ما توجه السياسة وجهها إلى الأرض تحترم شارعها، وتُعطي له كينونته ووجوده وتجعله حاكماً عليها.
أما السياسة التي تحتكم إلى ما تَحسب أنها أحكام الله ومنزلاته والمصلحة الشرعية، فلا شارع لها، لديها الشارع (الشرع) وهذا يُسمى على لسان فقهاء السلطة والخلفاء الناس الذين لا يجدون لهم غير الشارع مكاناً للتعبير، يسميهم بالدهماء والعامة والسواد الأعظم والرعاع.
أما الشارع فهو اصطلاح حديث نطلقه على حركة الناس الذين ينزلون إلى الشارع لأنهم يجدون أنفسهم مسؤولون عن حركة فعلهم، وعن إدارة تجربتهم في الدنيا ويجدون أنفسهم مصدراً للسلطة وشرعاً لقراراتها وأفعالها.
الشارع هو الواجب، لأن السلطة لا تصح إلا به، لذلك هو من يشكل الطريق كي تسير فيه السلطة، ومتى حادت السلطة عن شارعها، فقدت شرعها، فلم يعد لها مكاناً يمنحها الشرعية. من هنا فالشارع ليس تسمية مجازية مستمدة فقط من حركة الناس في الطرقات العامة، بل هو من جانب آخر تسمية مجازية مستمدة من كونه طريقاً لتولي السلطة مكانها ومكانتها. أي أن الشارع مكان الناس ومكان السلطة، فالناس متى مارسوا دورهم السياسي صاروا شارعاً والسلطة متى مشت في طريق هذا الشارع صارت شرعية.
السياسة التي تجد وظيفتها في الإصلاح والنصيحة، لا يمكنها أن تجد في الشارع واجباً، بل هو مكلف بأداء واجب، لذلك فهو في ذاته لا قيمة له، بل قيمته تكمن في ما يؤديه من واجب. وهو واجب ينزل من السماء ولا يعرف حقيقته غير السلطة الخاصة القريبة من السماء، وهي السلطة التي تُحدد للعامة الواجب وترسم حدوده، وتطلب منهم فقط أن يُذكّروها بما تتلوه عليهم. في هذه السياسية لا يوجد شارع، فقط يوجد واجب مصدره الغائب (السماء) لا الشاهد (الشارع). ونموذج هذه السياسة هو (الآداب السلطانية) ومتبقياتها التي مازالت تشتغل في فقهاء سلطة اليوم.
هل هناك معنى لأن نسأل السياسة التي ليس في مفهومها مكان للشارع، أين حركة شارعك؟