مشروطية النائيني2

تحرير الفقيه من الخارج

كما أن معنى النص لا يأتي منه، كذلك معنى التحديث أو الإصلاح أو التجديد لا يأتي من الفقيه بل من خارجه، من خارج نصوصه الدينية وأدواته الأصولية وحوزته العلمية، ولنا في آية الله المحقق النائيني من خلال كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) نموذجاً على صحة هذه الفرضية.

حدث الدستورية أو المشروطية في إيران في العقد الأول من القرن العشرين، حدث خارجي، وسياقاته خارجية، لكن لم تكن أمريكا في ذلك الوقت قد حملت راية التبشير بالديمقراطية بعد، ولم تعلن نفسها نبياً جاء يحرر الشعوب من ظلم الاستعباد.

tanbih2 أقول ذلك كي لا يفهم من مفهوم (الحدث الخارجي) ما نفهمه في الجدال السياسي حول مشروعية التعويل على الخارج في الإصلاح. فالخارج هنا، هو ما يقع خارج النص، ما يقع في أفق فهم الفقيه من دون أن يكون موجوداً وجوداً مباشرا أو ظاهرا في النص، وهذا ما تلخصه جملة أهم مفكري علم الكلام الجديد، وهو محمد مجتهد شبستري”الفقيه لا يستنبط الأحكام مستعينا بعلم الأصول فقط، وإنما تتدخل أيديولوجيا الفقيه ورؤيته لقضايا الإنسان والمجتمع والحق والعدالة والسياسة والاقتصاد والصناعة والعلوم والحضارة والقيم والأخلاق، في صياغة آرائه واستنباطاته الفقهية وعملية الاجتهاد والإفتاء تتحرك بتوجيه لازم من كل هذه المقدمات، وتسير في طريق معين لتتمخض عن نتائج خاصة”[1].

هذا يعني “أن النص لا يعطيك ما فيه”[2] كما تقول ظاهرية علم أصول ابن حزم، بل النص يعطيك ما فيك، وما في سلطة جماعتك التأويلية، وما في عصرك، النص يعطيك ما في خارجك، ما يقع في ذهنك وبطنك وقلبك وجسدك ومشاعرك، وهي تتفاعل مع عصرها.

ما يقع في أفق فهم الفقيه هو الحدث الخارجي، أي الحدث الذي يأتي من خارج النص ليوجه النص ويفتحه على فهم مغاير، التحديث الذي قام به النائيني والذي يتمثل في (تحرير يد الأمة السوداء) يرجع إلى هذا الحدث الخارجي.

في الأسبوع الماضي حين كنت مدعواً من قبل الأخوة في مجلس عائلة أبو المكارم في منطقة القطيف، لتقديم محاضرتي التي منعت من تقديمها في حسينية بن خميس العريقة في ذاكرتنا الوطنية، والتي كانت حول مفهومي للحداثة الدينية، أثارت كلمة (الحدث الخارجي) حساسة في فهم بعض الأخوة الذين أفقهم مشبع بيقين أن الفقيه يتوفر على نصوص تملك الحقيقة الكاملة، وهو قادر على أن يشخص الواقع ويتفاعل معه ويطبق عليه هذه الحقيقة بما يناسب الواقع.

وذلك بما يملك من علوم جمة وسنوات تحصيل طويلة، الفقيه في يقينهم ليس بحاجة إلى ما هو خارجه وخارج نصه وخارج علومه، هو يتفاعل مع الواقع لكن الواقع لا يتفاعل معه. هو يهب الواقع معناه، لكن الواقع لا يهبه معناه، هو يُشخّص الواقع لكن الواقع لا يُشخّصه، هو يعرب الواقع لكن الواقع لا يعربه.هكذا يكون الفقيه فوق الواقع، وهو من فوقيته ينزل عليه معناه وفتواه.

الحدث الخارجي بالنسبة للنائيني، يتمثل في اتصال أفقه بأفق حركات الإصلاح والتحرر، وهو بهذا الأفق راح يقرأ نصوصه الدينية ويعمل أدواته الأصولية، ويوجه حجاجه الفقهي مع خصومه الفقهاء الذين لم يتصل أفقهم بحدث حركة الإصلاح الفكري والسياسي التي شغلت النخب السياسية والثقافية والدينية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

يحدثنا المختصون بسيرة النائيني من الذين بذلوا مجهوداً مضنياً في تحقيق رسالته وترجمتها للعربية عن اتصاله المبكر بجمال الديني الأفغاني حامل راية الإصلاح والتحرر ومقاومة الاستبداد “كانت تربطه علاقة بجمال الدين الأفغاني منذ كان طالباً في أصفهان في العشرينيات من عمره، وقد سعى لاحقا في سامراء لترتيب لقاء له مع السيد المجدد الشيرازي الذي كان أستاذ النائيني بعد اندلاع ثورة التنباك 1891م”. [3] “ويدل أسلوبه في رسالة تنبيه الأمة على تأثره البالغ بالسيد جمال الدين الأفغاني”[4]. “إن تأثير جمال الدين يندرج في المقدمات الاجتماعية التي لولاها لما كان للمجتمع الإيراني أن ينهض في هذا الوقت، لكن هذا الدور الهام لم يسجل من جانب المجتمع الديني”[5].ص37

كما أنه كان على اتصال بالأفق الذي كان يصدر عنه الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” الذي سبق كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) بعقد كامل.وهذا ما دفع محقق رسالة النائيني ليعقد مقارنة بينه وبين الكواكبي.

إن ما أسماه توفيق السيف بـ(المقدمات الاجتماعية) سنجده يعبر عن حضوره النافذ في عنوان مقدمة كتاب النائيني، لقد جعل عنوان المقدمة هكذا “في شرح حقيقة الاستبداد ودستورية الدولة وتحقيق معاني القانون الأساسي ومجلس الشورى الوطني وبيان مفهوم الحرية والمساواة”

لقد استحال الحدث الخارجي أو (المقدمات الاجتماعية) في أفق النائيني مقدمة حجاجية أو منطقية أو أصولية، وصار يسوقها في سياق التدليل على صحة خطاب المشروطية.هذه المقدمة تقول: “إن تحديد السلطة وتقييدها لئلا تؤول إلى الاستبداد والقهر هو من أظهر ضروريات الدين الإسلامي”[6]

كيف صار تحديد السلطة وتقييدها من الاستبداد ضرورة دينية؟ هل الفقهاء المناوئون للنائيني في عصره لم يقرأوا هذه الضرورة في النصوص الدينية؟ هل الشيخ فضل الله النوري صاحب حركة المشروعة المناوئة لحركة المشروطة كان ضالاً هذه الضرورة؟ وهل تكريم الإمام الخميني له واعتبار إعدامه استشهاداً واختيار الذكرى السنوية لهذا الاستشهاد لافتتاح مجلس الشورى الأول في العهد الجمهوري، وإطلاق اسمه على طريق رئيسي في العاصمة، يعد تكريماً لإنكاره هذه الضرورة؟

هل الفقهاء السابقون على النائيني من المحقق علي الكركي (ت 940 هـ) والمولى أحمد النراقي (ت 1245 هـ) والشيخ مرتضى الأنصاري (ت1281هـ) لم تسعفهم استدلالاتهم الأصولية لاستخراج هذه الضرورة من النصوص الدينية؟ هل كانت تحريراتهم وتقريراتهم وتحقيقاتهم قد أغفلت هذه الضرورة؟

لم تكن نصوص فقهاء المشروطة ولا نصوص فقهاء المشروعة مختلفة، لكن ما وقع في أفق فقهاء هذه النصوص كان مختلفاً. وهذا يعني أن النص يعطيك ما يقع فيك لا ما هو واقع فيه.

في المقالة القادمة، سنقرأ كيف قرأ النائيني نص العصمة بما وقع فيه وصار مقدمة في استنباطه واجتهاده.سنقرأ كيف أدرج العصمة في سياق رفع الاستبداد؟ لنصل إلى تقرير إن تحرير الأمة السوداء أو تحرير يدها يأتي من الخارج.

الهوامش

[1]علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، تحرير عبدالجبار الرفاعي، ص346

[2]انظر الفصل الثالث من كتاب( طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم) علي الديري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2007.

[3]،[4]،[6] تنبيه الأمة وتنزيه المللة،المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص33،ص20،ص129.

[5] ضد الاستبداد: قراءة في رسالة “تنبيه الأمة وتنزيه المللة”، توفيق السيف،ص37.

اترك تعليقاً