مشروطية النائيني4

تحرير العصمة

ليست السلطة وحدها محلاً للاغتصاب، فالمفاهيم أيضاً تُغتصب، فالاستبداد لا يغتصب السلطة فقط، بل يغتصب أيضاً مفاهيمنا للحرية، ويستبدل معانيها بطريقة مستبدة، كي توافق مفهومه للحرية من جانب، وكي لا تدلّ معانيها الحقيقية على اغتصابه واستبداده وتحكمه من جانب آخر.

على أن الاستبداد ليس شخصاً، هو حالة قد يتمثلها شخص، وقد تتمثلها جماعة، أو تاalnaeenyريخ أو مدرسة أو دين. والدين ومفاهيمه مادة اغتصاب محببة ومغرية ويمكن توظيفها بسهولة لإعطاء الاستبداد شرعية طبيعية، وهذا ما فعله خصوم النائيني، ونبّه إليه في كتابه “ومن أجل الإبقاء على شجرة الظلم والاستبداد الخبيثة، ومن أجل اغتصاب أموال ورقاب المسلمين، رأوا في رفع شعار الدين خير وسيلة للوصول إلى مآربهم”[1].

لذلك تحتاج المفاهيم إلى تحرير دوماً، خصوصاً مفاهيم الدين. لقد أدرك النائيني بفطنته ذلك، ووظف مهارته الفائقة في علم الأصول، وأفقه المفتوح خارج نص الحوزة، لتحرير مفهوم الإمامة والعصمة من دائرة الجدل الكلامي والعقائدي المغلقة عن الحياة وتحولاتها.

لقد تمكن من تحويل العصمة من مقولة عقائدية خلافية إلى مقصد فقهي غايته ضمان الإصلاح ونفي الاستبداد.لقد جعل النائيني من العصمة مقصداً يفقه الحياة لا الخلاف على الحياة خلافاً، يُغيِّبها ويُغيب إقامة عدلها الأدنى.

العصمة من عقائد الإمامية وهي تعني أن الأنبياء جميعا من آدمهم إلى خاتمهم وكذلك الأئمة من أولهم إلى قائمهم معصومون من جميع الذنوب والمعاصي والرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من أول حياتهم إلى حين وفاتهم عمدا وسهوا، كما يجب أن يكونوا معصومين من الخطأ والنسيان، والتنزه عما ينافي المروءة ويدعو إلى الاستهجان.

العصمة لطف يختص بها الله بعضَ من يصطفيهم من البشر “كون الإمامة لطفا في فعل الواجبات والطاعات، وتجنب المقبحات، وارتفاع الفساد، وانتظام أمر الخلق”[2]

تمثل الإمامة المعصومة مفهوماً مركزياً في المذهب الشيعي، وهي أصل من أصول المذهب، ولأنها أصل خلافي مع بقية المذاهب الإسلامية، فقد استغرقت جهود علماء علم الكلام طوال التاريخ، تفنيداً وتثبياً ودفاعاً وهجوماً ونقضاً وبناءً.

صار هذا الأصل فارقاً لا جامع بعده، لقد خفت وتيرة الجدالات العقائدية حول التوحيد وخلق القرآن والتجسيد والمنزلة بين المنزلتين، لكن جدل الإمامة وعصمتها، ظل فاعلاً طوال التاريخ وحتى اليوم. ويكفي للتدليل على مركزية هذا الخلاف، الاستشهاد بكتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى (ت 436هـ)، فقد ألف المرتضى هذا الكتاب الضخم، رداً على كتاب (المغنى في أبواب التوحيد والعدل) للقاضي المعتزلي عبد الجبار الجرجاني (ت 415 هـ) وهو من أضخم الكتب الكلامية.

يقول الشريف المرتضى “سألت – أيدك الله -: تتبع ما انطوى عليه الكتاب المعروف بـ (المغني) من الحجاج في الإمامة، وإملاء الكلام على شبهه بغاية الاختصار، وذكرت أن مؤلفه قد بلغ النهاية في جمع الشبه، وأورد قوي ما اعتمده شيوخه مع زيادات يسيرة سبق إليها، وتهذيب مواضيع تفرد بها، وقد كنت عزمت عند وقوع هذا الكتاب في يدي على نقض ما اختص منه بالإمامة على سبيل الاستقصاء”[3].

بهذه الروح الحجاجية كان المتكلمون يختصمون حول مفهوم الإمامة، وظل كتاب الشافي العمدةَ الشافية في الدفاع عن أصل الإمامة.وقد تحول هذا الجدل إلى غاية في ذاته، وكي يحافظ هذا الأصل على صحته الاعتقادية وأحقيته، فقد أُخْضِع الواقع التاريخي للشيعة إلى المقولة العقائدية، وصار الواقع على مثال الاعتقاد فيما يتعلق بالإمامة، والشاهد على ذلك أن غياب الإمامة (عصر الغيبة) استتبعه غياب الواقع، وليس هناك أدلّ على هذا الغياب من غياب الدولة، صار المعتقد يصيغ الواقع، لم يُكيَّف المعتقد ولا غايته لصياغة الواقع.

تحرير النائيني، يكمن هنا، في جعله الواقع يعيد تحرير معنى الإمامة، لم ينشغل بالجدل الكلامي، لقد شغله فقه واقع الحياة السياسية للناس، لا فقه الحجج الكلامية التي تُنْقَض بحجج كلامية أخرى. سيبدأ تحرير الإمامة بطرح سؤال: ما الغاية من مفهوم الإمامة؟

سؤال الغاية من الإمامة ليس جديداً، لكن أفق السؤال جديد، ووفق أفق السؤال يأتي انتظار الجواب.وأفق النائيني كان خارجاً على أفق علماء الكلام وجدالهم اللاهوتي. كان سؤال الإمامة مطروحاً في الشارع السياسي، لا في الشارع العقائدي. لذلك فالإمامة والعصمة في مفهوم الشريف المرتضى صاحب كتاب الشافي في الإمامة، ليست هي نفسها في مفهوم النائيني صاحب كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة.، فالأول مشغول بتنزيه الإمامة من ادعاءات خصومها العقائديين، والثاني مشغول بتنزيه الإمامة من ذرائع المستبدين، وذلك بتنبيه الأمة إلى حقيقتها.

الغاية من مفهوم الإمامة ستجعل الإمامة مفهوماً يقتضي المعاني التي تقتضيها الدستورية، وهي الرقابة والأمانة والعدالة والمسؤولية وحفظ الحقوق، ستكون المشروطة بهذه المعاني هي عينها معاني الغاية من الإمامة، وبتحرير هذا المعنى وتقريره سيحقق النائيني الحد الأدنى من من معنى الإمامة في الواقع، وهي ما عبّر عنه بمجاز (تحرير يد الأَمَة السوداء).

سيحرر النائيني إقامة الإمامة من مفهوم السلطة والدولة، كما كان الأمر عندي الشريف المرتضى مثلاً وبقية فقهاء والمتكلمين الذين يرون إقامة الإمامة إقامة للدولة، ولا دولة من غير إمامة كاملة، ولا إمامة كاملة من غير ظهور كامل للإمام المهدي.

ستكون الدولة مفهوماً أوسع من الإمامة وأكثر تعقيداً، لكنها لن تخرج عن غايتها (أي الغاية من الإمامة) المتمثلة في حفظ حقوق الناس وإقامة العدل ومنع الاستبداد.لن يكون هناك تعارض بين أن نقيم عدلا بشرياً بحسب طاقتنا على منع الاستبداد بالقانون والدستور، وبين انتظار إمام يقيم عدلاً إلهياً كاملاً.

سنرى كيف أن تحرير النائيني لمفهوم العصمة، هو أيضا تقريب من ناحية أخرى، بمعنى أنه تقريب لها من مفهوم (أهل الحل والعقد) الذي يمثل النظرية السنية كما يقول في مواجهة الاستبداد.هكذا سيعمل أفق فهم النائيني الخارجي على أن يكون تحريره تحريراً واسعاً، يتجاوز المذهب الواحد، ليقترب من مفاهيم العصر (الدولة والدستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديين (أهل الحل والعقد).

الهوامش

[1] تنبيه الأمة وتنزيه الملة،المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص95.

[2]، [3] الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى، ص13، ص40.

اترك تعليقاً