كنت في 27 أكتوبر/ تشرين الأول ,2007 بالرباط، في ندوة عن «الإسلاميون والعلمانيون والديمقراطية»، كان الدكتور المعطي منجب، هو المشرف على الندوة، بدعم من مجلس السلام الهولندي (IKV)، ومنتدى المواطنين (Citizens’ Assembly)، والشبكة من أجل التنمية.
كان المطلوب مني أن أتحدث عن تجربة الدولة في البحرين، وجدت أن تاريخ 1783 يشكل مفصلاً من مفاصل تشكيل الدولة، وأن حدث بداية تأسيس الدولة البيروقراطية في ,1923 ظل مرتهناً بحدث .1783 ولا يمكن الحديث عن دولة في البحرين من دون الحديث عن هذا التاريخ وظلاله. قلت لهم في مداخلتي الشفوية المرتجلة، أنا قادم من بلد مساحته 700 كلم مربع ولا يتعدى عدد مواطنيه نصف المليون، لكنه ببحرين، أحدهما حلو والآخر مالح، أنا قادم من بحرين يتعايشان بهدوء صاخب. البحر في دولتنا بطبيعته تعددي، والأرض بثقافتها تعددية.
لقد ألغينا تعددية البحر، حين دفنا سواحله الحلوة، ولم نعد نستطيع أن نجلب للأرض الماء الحلو من وسط البحر المالح، طبيعة تعددية البحر، كانت تقوم على حقيقة «بينهما برزخ لا يبغيان» لقد دمرنا برزخ الأمان هذا، وصار المالح يبغي على الحلو، وقد جاء هذا التدمير من اليابسة، من الأرض، الأرض التعددية كان بإمكانها أن تكون صمام أمان للبحر بتعدديته، لكن حين بغت قوة متنفذة (الصحافة تستخدم كلمة المتنفذين) على الأرض، بغت معها قوة البحر المالح، فغيض البحر الحلو.
قلت لهم: في 1923 عرفت السلطة الإقطاعية القبلية أول تجربة حكم مركزي، في شكل سلطة بيروقراطية، كان عاماً مفصلياً، إذ للمرة الأولى تعرف السلطة وحلفاؤها والجماعات المحكومة، فكرة الدولة، وكان الموقف من هذه الفكرة متبايناً، فالسلطة وجدت فيها انتقاصاً من ملكيتها المطلقة، خصوصاً بعد خلع الشيخ عيسى بن علي بقوة بريطانيا وتنصيب ابنه الشيخ حمد، ليكون ممثلا لنظام الحكم الإداري الجديد.
لقد قرأت السلطة الإقطاعية في هذا الفعل تدخلاً في شؤون ملكيتها الشرعية الحقة الخاصة، بحكم مقتضى فعل الفتح، وحلفاؤها وجدوا فيه انتقاصاً من امتيازاتهم الإقطاعية، وإلغاءً لسلطة مجالسهم القبلية التي يديرون من خلالها قضاءهم ويتخذون فيها قراراتهم، والجماعات الشيعية المحكومة وجدوا فيه حماية لوجودهم وحفظاً لحقوقهم المنتهكة.
لقد أصبح كل طرف يطور فكرته عن الدولة بالطريقة التي تخدم مصالحه وتتفق مع تصوراته. كان مجلس القبيلة هو مصدر قوة السلطة، والإصلاحات البريطانية كانت قد هددت قوة هذا المجلس الذي يحكم السلطة و«الدولة». مازال هذا المجلس يستنسخ نفسه بأشكال مختلفة في الدولة، وهو ما يهدد فكرة الدولة.
قلت لهم، مازلنا حتى الآن لا نستطيع الحديث بتعددية عن تاريخ ,1783 ولا عن تاريخ ,1924 ولا عما بينهما وما قبلهما، لذلك لا نستطيع الحديث عن الجماعات وذاكراتها، وهي نفسها الجماعات المتعددة الحالية التي تشكل ما نسميه اليوم «البحرين»، ليس لدينا ميدان حر مشترك يتيح لهذه الذاكرات أن تقول سردياتها ضمن بحرين ديمقراطيين لا يبغي أحدهما على الآخر.
والدليل على ذلك أن كتاب صديقنا الدكتور نادر كاظم «استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ» المعد للطباعة، مازال في حكم الممنوع منذ أكثر من أربعة أشهر. وهناك حملة تضامنية من المجتمع المدني بمختلف مراكزه، لكن يبدو أن هناك شيئاً خفياً أقوى، يقف خلف المنع، وهذا الخفي الأقوى هو ما يهدد تجربتنا الديمقراطية دوماً، فالديمقراطية شفافة ولا تعرف الخفاء، وحين تكون القوة للخفي والضعف للشفاف، فإن ذلك مؤشر إلى ضعف الديمقراطية أو اختفاء الدولة، أو يجعلنا نقول إن فكرة الدولة غير متحققة، لأنها مخفية ولا نراها. كيف يمكن للجماعات المتعددة أن تشكل تجربة ديمقراطية والدولة أو القوة الخفية التي تديرها لا تحتكر وسائل العنف فقط، بل تحتكر الميدان الحر المشترك الذي يتيح لهذه الجماعات أن تبني أفقاً مشتركاً متخففاً من ثقل التاريخ المؤسطر. قلت لهم، هذا يدعونا إلى أن نطرح من جديد، فكرة الدولة، أن نسائل أنفسنا ما الدولة؟ ليست الدولة مجموعة من الوقائع تتخذ شكل مجموعة من المؤسسات، أو مجموعة من السلطات شبه المفصولة، أو مجموعة من آليات انتخابية شبه نزيهة، الدولة فكرة، وإذا أفرغت وقائعها من الفكرة، فليست هناك دولة، جديرة بأن تكون صاحبة تجربة تعددية ديمقراطية. ما هي هذه الفكرة؟
الفكرة هي ألا نفهم الدولة بالشكل الخارجي بعناصره الثلاثة: الإقليم (المرتبط بمفهوم السيادة) والشعب (المرتبط بولائه لهذه الدولة) والسلطة (القائمة على أجهزة تنظم أوجه الحياة كافة وتؤمن بعض الخدمات للمواطنين).
بل أنْ نفهم الدولة فهماً عقلانياً يجعلنا نحاكم الدولة بغايتها القصوى وهي الحرية، كما يقول سبينوزا «إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الإنسان من الخوف، فالحرية هي، إذاً، الغاية الحقيقية من قيام الدولة[1]».
السيادة على الأرض، لا تصنع وحدها دولة، فالدولة اجتماع إنساني وعقلاني، والإنسان إذا فقد السيادة على عقله بأن يجعله مرجعيته في إدارة شؤونه، لا يمكنه أن يقيم اجتماعاً في مستوى الدولة.
لذلك، فالعلمانية – كما أفهمها – هي فصل الخوف من الدين، لا يمكن أن تكون هناك دولة تدير العنف بعقلانيتها، وفي الوقت نفسه هناك من يدير معنى الدين على مقاس العنف. مادامت الدولة فكرة يدور جوهرها حول الحرية، فالحرية تتطلب أن نفتح تاريخ الفعل «فتح» لإعرابات مختلفة، من دون خوف، ومن دون مصادرة، ومن دون منع.
قلت لهم، تجربتنا الديمقراطية مازال فضاؤها الحر المشترك يجد في تاريخها الحديث منطقة محاطة بألغام الخوف والتحذير. فمازلنا لا نعرف. والمشكلة أنه فعل مازال حدثه فاعلاً في طبيعة ديمقراطيتنا، وبحرها الذي صار غير متعدد، وأرضها التي صارت تضيق بالتعدد.
المجتمع ليس مبتلى بتعددية ذاكراته، لكنه مبتلى بأحادية القوة التي تصادر ذاكراته، مبتلى بالقوة التي لا تجعل من الدولة فكرة لإقامة مجتمع مفتوح للذاكرات.
[1] معجم المصطلحات والشواهد، جلال الدين سعيد ص .194
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5090
أخي العزيز … الديري…
ليس بالغريب أن يمنع الحديث عن ماحدث في عام 1783 ولا عن و لا في عام ,1924 ولا عما بينهما وما قبلهما…..
فقد منعوا الحديث عن ما حدث في القرن الثاني عشر … و الدليل ما حدث للبعثة الفرنسية … عندما منعوا تقارير منيك كيرفران و كتاب لدفيك كاس عن مسجد الخميس و المساجد الأخرى في البحرين …
لو عرف شعب البحرين الذي يبحث عن هويته من تكون منيك و من هو كالوس لأبسوهما العمائم و ادخلوهم المآتم ليقيموا الندوات .. و ذلك بعد ان اثبتوا بدون اي شك أن المسجد أول حوزة شيعية … و ليس بانيه فلان و لا علان …
في هذا الشهر و البعثة الفرنسية تحتفل بمرور 30 عاما من التنقيبات في البحرين … لا يمكنك أن ترى في معرضهم تلك التقارير عن النقوشات الإسلامية في البحرين … و لايمكنك العثور عليها في المتحف … فأين هي ..
و إليك باحث آخر … و هو “أنسول” .. و كتابه عن التنقيبات في البلاد القديم .. و له بحوث عن الهوية الدينية للبحرين … فأين هي تلك التقارير و البحوث …
نحن فعلا شعب مبتلى بالتاريخ … فلا تنشر إلا كتب الحمقى في التاريخ … و تغيب عنا تلك التقارير التي تزيل النقاب عن أعيننا لكي نرى الشمس ..
نحن شعب مبتلى بالتاريخ … فغالبيتنا يجهل التاريخ … و يضن أنه يفقه التاريخ أكثر من المستشرقين الذين روو التاريخ كما حققوه ..
نحن شعب مبتلى بالتاريخ … لأنه و بكل بساطه لأننا لم نتعلم حتى الآن كيف نكتب التاريخ … و إذا كتبناه … فلم نتعلم كيف نقرأه … لأننا لم نتعلم أبجدية التاريخ …