مكـتـبـــــــــة أبـــي الأخـبـاريـــــــــة

الرسالة العملية للفقيه الشيخ حسين العصفور،  سداد العباد
الرسالة العملية للفقيه الشيخ حسين العصفور، سداد العباد

هل (الأخبارية والأصولية) موضوع أو محمول أو قضية أو جدلية أو فتنة أو ملف أو صراع أو هو كل ذلك، أياً كان هو، لكن ما إن تفتحه، فإنه ينفتح عليك تاريخ مشحون، مشحون بالأسماء والأعلام والأحداث والمواقف والكتب والاختلافات والخلافات والسير والمدارس والجغرافيا والمعرفة والدين والسياسة والسلطة والقوة والثقافة والآراء والأقوال، إنه تاريخ المعرفة، والمعرفة ليست شأناً مقدساً، إنها أقرب إلى التدنيس منها إلى التنزيه، فهي من صنع الإنسان، والإنسان لا يصنع شيئاً منزّهاً، مهما كان بديعاً وجميلاً، فالإنسان يشحن ما يصنعه، بكل ما فيه من خير وشر وعقل وهوى وروح ومادة.(الأخبارية والأصولية) بما تحمله من تاريخ مشحون، هي المعرفة الدينية الشيعية التي أنتجها علماء الدين طوال هذه القرون، كيف يمكنك أن تقرأ هذا التاريخ الطويل؟
اخترت أن أقرأ تاريخها غير المنزّه، من مكتبة أبي، أبي الذي ألفتُ أن أسمع فمه يردد باستمرار اسم كتاب (السداد) للشيخ حسين العلامة، كان يحكي شيئاً من سيرته، وشيئاً من فتاواه، خصوصاً فتاواه المتعلقة بباب الطهارة والصلاة والحج، وكان موضوع طهارة النواصب يثير إشكالاً معاصراً عندي، فالشيخ حسين وضع سداده في القرن الثامن عشر الميلادي، وفي ظروف تاريخية متوترة، كان نتيجتها مقتله في( 1216هـ – 1801م) وهروب عائلته بتراثه الفقهي الغزير إلى بوشهر.
كتاب السداد
كان كتاب الشيخ حسين الموضوع في مكتبة الوالد مطبوعاً الطبعة الثانية بتحقيق في النجف في مطبعة النعمان، في سنة .1961 كان على غلافه (طبعه الأقل جواد السيد فضل الوداعي الموسوي البحراني أحسن الله خاتمته).
انطبعت صورة غلاف الكتاب بلونه الأخضر الفاتح في ذهني، حتى غدت كأنها أيقونة في مخيلتي، كلما جاء الوالد على اسم الشيخ حسين، جاءت صورة الغلاف، وتأتي معها صورة الشيخ حسين، لكن ليس الشيخ حسين العلامة. إنها صورة الشيخ حسين بن الشيخ عباس الستري، كان يقيم الجماعة في قريتنا يوم الجمعة منذ الستينات، وحتى مطلع الثمانينات، وعادة ما يكون غداؤه وقيلولته في مجلسنا. توضيح جمل السداد الغامضة، يتولاها الشيخ بعد قيلولته، اقترح عليه الوالد في 1983 أن يعلمنا النحو من متن الإجرومية، كنا نقرأ من (التحفة السنية في شرح متن الإجرومية) كانت النسخة صفراء وخطها صغير. جلست إلى درس الشيخ وأنا في الصف السادس، لم أستوعب شيئاً من درسه، لكني كنت حريصا وفخوراً بالجلوس إلى حلقة الدرس. مع هذا الحرص، لم تتحسن مهاراتي في اللغة العربية ولا في النحو، فقد ظلت درجاتي فيها في حدود الجيد أو ربما أقل.

   تجاوز عمر كتاب  (سداد العِباد ورشاد العبّاد) الخمسين عامًا في مكتبة الحاج أحمد، وعلى الرغم من اهترائه، فإنه مازال يحتفظ بجمال عتاقته
تجاوز عمر كتاب (سداد العِباد ورشاد العبّاد) الخمسين عامًا في مكتبة الحاج أحمد، وعلى الرغم من اهترائه، فإنه مازال يحتفظ بجمال عتاقته

منهاج الصالحين
سأغادر مجلس الشيخ المعتق في إخباريته، وأنا أحمل اسم شيخ حسين العلامة وصورة غلاف كتابه، لكن هذه الصورة لن يكتب لها أن تستقر في تديني، ففي السنة نفسها سأنفتح على دروس المأتم الدينية، حيث هناك الثورة على فكرة تقليد الميت ابتداء التي كانت تعني الثورة على مدرسة الشيخ حسين الأخبارية، هناك سيتولى مدرسونا في المأتم طرح المرجعيات الأصولية الجديدة التي لم أسمع أبي يذكرها، ولا الشيخ حسين بن الشيخ عباس يرددها، اخترت السيد الخوئي ليكون مرجعي ومقلدي، واشتريت رسالته العملية (مناهج الصالحين) كان غلافها أكثر غماقة من غلاف كتاب السداد، ولاحقاً سيأخذنا أساتذتنا بالمأتم إلى السيد علوي الغريفي، حيث كان يخصص درساً لشرح المنهاج، شرحاً مبسطاً وسريعاً. وكان باب الطهارة هو الباب الذي تمكنت من متابعته في درس السيد علوي.
حتى هذه اللحظة لم أكن قد سمعت بمصطلح الأصوليين والأخباريين، كنت أستشعر أن هناك حساسية جديدة بدت تتشكل تجاه شيخ حسين العلامة وتجاه مقلديه، بدأنا نرى في تقليد الشيخ حسين نموذجاً تقليديا قديماً، وهو لا يتماشى مع حركة الإسلام الثورية الجديدة. كما بدأنا نستشعر بنفرة تجاه تقليد الأموات، وصرنا نرى التدين الذي يمثله الآباء بالرجوع إلى هؤلاء الأموات تديناً تقليدياً ينبغي مفارقته، حتى كنا نستشكل على ممارساتهم الفقهية، ونتندر على وعيهم الديني.
صدمة مطهري
ستشكل لحظة التعرف على مصطلحي الأخبارية والأصولية صدمة لوعيي الديني، كنت لحظتها في المرحلة الإعدادية، أقرأ كتاب مرتضى مطهري (الاجتهاد في الإسلام)، قرأت فقراته العنيفة تجاه الإخباريين، لم أكن حينها أعرف هذا المصطلح، لكني فهمت من خطابه، إنهم علماء وفقهاء، كنت أتساءل: كيف ينال منهم؟ هل يجوز أن ننال من الفقهاء؟ أليست نجاتنا في تقليدهم؟ ما مصير هؤلاء الناس الذين يقلدونهم؟ هل أعمالهم باطلة؟ أليسوا من الصائنين لدينهم والحافظين لأمر مولاهم من الذين للعوام أن يقلدوهم، ليكون عملهم صحيحا؟
كان مطهري، يقول بنبرة تهويلية ‘’هنا ينبغي أن نشير إلى حدث مهم وخطير برز في عالم التشيع خلال القرون الأربعة الماضية يتعلق بموضوع الاجتهاد. وهذا الحدث هو موضوع ‘’الأخبارية’’. ولولا وقوف عدد من العلماء البارزين الشجعان في وجه تلك الموجة وصدها، لما كنا نعرف وضعنا الحاضر. إن مذهب الإخباريين هذا لا يزيد عمره عن أربعة قرون، ومؤسسه رجل اسمه ‘’الملا أمين الاسترآبادي’’ وكان رجلاً ذكياً، وقد اتبعه جمع من علماء الشيعة. يدّعي الإخباريون أن الشيعة القدامى،حتى أيام الصدوق، كانوا يتبعون المسلك الإخباري. ولكن الحقيقة هي أن الميول الأخبارية، باعتبارها مذهباً له أصول معينة، لم يكن لها وجود قبل أربعة قرون.إنهم ينكرون أن يكون العقل حجة، المذهب الإخباري ضد مذهب الاجتهاد والتقليد، كانت الأخبارية حركة مناوئة للعقل، وهي تتميز بجمود وجفاف عجيبين’’.
كان السؤال الذي يراود براءة تصوري الطفولي، هو كيف لعالم دين أن يهاجم علماء دين آخرين من نفس مذهبه؟ ولماذا هذه الحدة في الهجوم؟ وكان وقع الصدمة يزداد كلما واصلت القراءة ووجدت أن مطهري يمعن في هجومه، خصوصا وأن مطهري كان يمثل بالنسبة لي نموذجا لعالم الدين المتفتح المثقف الذي لديه اطلاع عصري في كل شيء، أي أنني لم أشك أن مطهري ربما يكون مخطئاً، لكن كيف يمكن أن يقع هذا التناحر بين علمائنا، هذا ما كان يؤلمني لحظتها.

جامع السعادات من أشهر الکتب في علم الأخلاق من تأليف المحقق محمد مهدي النراقي  (ت 1794)
جامع السعادات من أشهر الکتب في علم الأخلاق من تأليف المحقق محمد مهدي النراقي (ت 1794)

التاريخ المنزّه
ما هدّأ شيئاً من صدمتي، هو أن مطهري يتحدث عن تاريخ بعيد جدا، وإن كانت حساسيتنا الدينية، تجعلنا نرى العلماء كلهم وكأنهم يعيشون في لحظة زمنية واحدة، فالعالم الذي عاش قبل 400 سنة له القدسية نفسها التي للعلماء المعاصرين، فهو امتداد لتاريخ منزّه، ولا يذكر اسمه إلا بالألقاب التبجيلية، كان مطهري يقول ‘’ولكن من حسن الحظ أن أشخاصا حكماء، مثل وحيد البهبهاني، وكذلك طلابه، ومن ثم المرحوم الحاج شيخ مرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه، بادروا إلى الوقوف بوجه هذه الحركة. كان وحيد البهبهاني في كربلاء، وفي الوقت نفسه كان صاحب ‘’الحدائق’’ الإخباري في كربلاء أيضاً، وكان لكليهما حلقة درس. كان وحيد اجتهادي المسلك، وكان صاحب ‘’الحدائق’’ إخباري المسلك. ولقد كان صراعاً صعباً حقاً ، انتهى بانتصار وحيد البهبهاني على صاحب ‘’الحدائق’’. أمّا الشيخ الأنصاري فقد كافح الأخبارية بوضعه أساساً متقناً لعلم الأصول، بحيث إنّه كان يقول لو أن أميناً الاستر آبادي كان حياً لقبل بما وضعته في علم الأصول. وعلى أثر هذه المكافحات اندحرت الطريقة الأخبارية، وليس لها اليوم أتباع إلاّ في بعض الزوايا النائية’’.
تخريب الحدائق
كنت قد اعتدت أن أسمع اسم الشيخ حسين العلامة، مقترناً باسم الشيخ يوسف البحراني، فهو أستاذه وخاله، وهذا ما شكّل صدمة أكبر بالنسبة لوعيي الديني الذي شكَّله أبي بترداد اسم شيخ حسين. كنت أرى الشيخ حسين العلامة في صورة شيخ حسين الستري ولم أشك أن لحيته البيضاء البهية هي نفسها لحية صاحب السداد.
أحسست كأن مطهري قد عبث بحدائق الشيخ يوسف البحراني، فالحدائق التي لم أرها، كنت أسمع باسمها يتردد بتبجيل عظيم، فهي موسوعة الشيخ يوسف الفقهية الكبيرة التي لم يؤلف مثلها في التاريخ. لقد استقرت في وعيي صورة هذه الحدائق مقرونة بالتبجيل، فكيف يخربها مطهري بدفقة حبر؟!!
ذهبت لأستاذي في المأتم أستفسر منه، وأطلب منه توضيحاً يهدّئ من صدمتي، كان جوابه يشبه جواب من يريد أن يغلق ملف قضية تاريخية قديمة، قال لي، الأصولية والأخبارية فتنة قديمة، ولا نريد إثارتها كي لا تكون فتنة تضعف وحدة الصف الإسلامي، لقد أفهمني ذلك بحس يشبه الحس الأمني.
مكتبة تقليد الأموات ابتداء
لم أكن أعي حينها، أن حركة التدين الثورية الجديدة التي جاءت بها الثورة الإسلامية في إيران، ستجد في نمط التدين التقليدي الذي يمثله النمط الإخباري المعروف في البحرين، والذي لم يكن له منافس، ستجد في هذا النمط ما يتعارض معها، وأنها ستعمل على تغييره. لن يكون هذا التغيير سهلاً، رغم أن الثورة وجدت قبولاً في نفوس الناس، فالآباء لم يجدوا أنهم مضطرون لتغيير أنماط تدينهم وأسماء مراجعهم ومقلديهم، لكن الحس الثوري التغييري، وجد في كل شيء تعارضاً، تعارضاً يحتاج إلى تغيير وإلا أصبح معارضة، والمعارضة تفضي إلى الصدام.
لكن الصدام هذه المرة لم يكن تحت عنوان الإخباريين والأصوليين، لكن من مثلوا التدين الإخباري، كانت حساسيتهم الدينية للعالم مختلفة تماماً عن الحساسية الجديدة للثورة، لذلك كان على الأخبارية أن تتراجع أو أن يتراجع عنوانها وتعيد تمثيل نفسها في شكل آخر. وتلك حكاية أخرى تحتاج إلى فصل جديد.
لقد فتحت، اليوم، مكتبة أبي فوجدتها كما هي، تخبر عن تاريخ ما قبل الثورة، ما قبل تقليد الأحياء، وإشكال صلاة الجمعة، وتقليد الولي الفقيه، وولاية الفقيه، وآية الله، والمجتهد، والمرجع الأعلى. لم تكن تخبر عن تاريخ ما بعد الثورة.
فتحت مكتبته، فوجدت فيها، (سداد العباد ورشاد العباد)، وكتاب (الحج من كتاب سداد العباد) للعلامة الوقور الشيخ حسين آل عصفور البحراني، وكتاب تلميذه (كنز المسائل والمآخذ في شرح المختصر النافع) بأجزائه الخمسة لخاتمة المحدثين العلامة الشيخ عبدالله الستري البحراني (1776- 1853). و(الرسالة الصلاتية) للشيخ يوسف البحراني (1695ـ 1772).

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=85481

اترك تعليقاً