”والحكم بجواز نكاح الصغيرة لا يختص به فقهاء الشيعة بل إن فقهاء السنة يفتون أيضاً بجواز نكاح الصغيرة بل والرضيعة أيضاً. ومن شاء فليراجع مصادرهم الفقهية ومجاميعهم الروائية فإنه سيجد ذلك جليّاً، فلا معنى لتهريج بعض من لاحظَّ له من العلم على الشيعة بعد أن كان الحكم بالجواز ليس من مختصاتهم”[1] الشيخ محمد صنقور.
http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID=186
منذ تعرفت في عام 2002 على معجم الشيخ محمد صنقور (المعجم الأصولي) الذي يتناول بالشرح معظم المصطلحات الأصولية وتحرير مسائل الأصول بحسب الترتيب الهجائي، ويقع في حدود الألف صفحة، وأنا أسعى للالتقاء به شخصياً، من أجل التعبير له عن إعجابي بالجهد العلمي الذي قام به في هذا الكتاب، لكن يبدو أن مجريات الشأن السياسي والثقافي والديني وما يترتب عليهم من احترابات ومواقف، كانت تضعف من فرص هذا اللقاء المرتجى، خصوصاً وأن الشيخ قد أصبح الناطق الإعلامي الرسمي باسم المجلس العلمائي، والمدافع عن مواقفه، وقد بدا الشيخ رغم قصوره الفادح في إدارة خطاب إعلامي وسياسي يتناغم وتعددية الساحة الإعلامية والثقافية في البحرين، بدا قادراً على إنتاج خطاب مطابق لمواصفات الحساسية الدينية الحوزوية التقليدية التي يمثلها الرموز الدينيون الذين أودعوا ثقتهم الكاملة في نباهة الشيخ العلمية.
مناسبة هذه المقدمة، هي أن الأوساط النسوية المدافعة عن حقوق المرأة وحماية الأطفال، تتداول هذه الأيام مقالة (وليست فتوى) للشيخ كتبها في ,2005 وعنوانها ( جواز نكاح الصغيرة ومنشأ الاستيحاش) وهي منشورة في قسم (مقالات تعنى بشؤون المرأة) في الموقع الإلكتروني لحوزة الهدى التي يديرها سماحة الشيخ محمد صنقور.
بعد أن يقرر الشيخ في مقالته ثبات جواز نكاح الصغيرة عند السنة والشيعة، يوظف قدراته الحجاجية في إزالة ما يسميه بالاستيحاش من جواز هذا النكاح. يورد الشيخ خمسة مناشئ للاستيحاش، ويحيلها بتقنياته الحجاجية إلى مستأنسات، أي أنه يحيل الاستيحاش استئناساً.
لست معنياً بمضمون خطاب الشيخ صنقور، فتلك مسألة تشغل المختصين بالقضايا النسوية والجندر والدفاع عن حقوق المرأة وحماية الأطفال، لكني معني بـ”درس تقنيات الخطاب التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات، أو أن تزيد في درجة التسليم”. معني بالتقنية الخطابية التي يزيل بها الشيخ صنقور مناشئ الاستيحاش. هذا الدرس بمثابة أصول تحليل الخطاب، أي كما أن علم أصول الفقه بمثابة علم تحليل خطاب القرآن والسنة، فإن علم أصول تحليل الخطاب هو أيضا علم تحليل لكنه ليس مختصاً بخطاب واحد، كما هو الأمر مع علم الأصول، فنحن هنا مثلا نحلل خطاب الشيخ صنقور، من منظور هذا العلم.
(الاحتجاج بما ورد في كتب الخصوم)، تلك هي الآلية الأكثر حضوراً في المحاججات المبنية على خلافات دينية عقائدية وفقهية، وهي آلية تظهر المحاجِج في صورة المطلع والعالم بمدونات الخصم والعارف بتفاصيلها ودقائقها، كما أن هذه الآلية تخفف من شذوذ المدعى عليه، فهو ليس شاذاً في ما يذهب إليه، بدليل أن المحتج عليه يقول بذلك. وهي إحدى آليات خطاب الشيخ صنقور في إزالة الاستيحاش، وقد أثبت الشيخ عبر الرجوع إلى كتب الفقه السنية المعتمدة، أنها تجوّز نكاح الصغيرة بل والرضيعة كما هو الأمر في كتاب روضة الطالبين لمحيي الدين النووي ج4 ص.”379 يجوز وقف ما يراد لعينٍ تستفاد منه كالأشجار للثمار.. كما يجوز نكاح الرضيعة”.
هو بهذه الطريقة يزيل تشنيع الخصوم، خصوصاً وأن المواقع الإلكترونية المشغولة بالمحاججات العقائدية، كثيراً ما تُشنِّع بفتوى الإمام الخميني في تجويز نكاح الرضيعة. ربما تكون لآلية الحجاج هذه، جدواها عند المحتربين على مستوى المعارك العقائدية، لكنها لا تزحزح موضوعات الخلاف إلى مناطق جديدة، فالخصوم يظلون في المواقع الاحترابية نفسها، ويكتفون بتسجيل الأهداف على بعضهم، وهم من غير أن يقصدوا، يبرهنون على أنهم في الورطة نفسها، وفي المأزق ذاته.
كما أن هذه الآلية، تجعلهم يثبتون صحة أخطائهم ببرهان وجودها عند الخصم، بدل أن يكتشفوا أخطاءهم بالحجاج مع الخصم، هم يثبتونها باكتشاف وجودها عنده، فمادام الخصم يقول أيضاً ما نقول فلسنا بحاجة إلى تصحيح ما عندنا. ولعل جملة الشيخ صنقور ناطقة بكل هذه الوظائف التي تؤديها هذه الآلية، جملته التي يقول فيها ”فلا معنى لتهريج بعض من لاحظَّ له من العلم على الشيعة بعد أن كان الحكم بالجواز ليس من مختصاتهم”.
حظك من العلم بما لدى الخصوم، يزيل عنك تهمة التهريج ويمنحك اطمئنان المنتصر على المهرج الذي يحاول أن يوهمك أنك لا تعرف خدعه. تبدو جملة الشيخ مشحونة بالانتصار والعلم والقدرة على الحسم والإسكات، فلا يدعي أحد أو يهرج علينا بأن الشيعة وحدهم من اختص بتجويز نكاح الصغيرة بل والرضيعة، فالسنة أيضاً من القائلين بالتجويز.
الآن بثقة المنتصر، سيتولى خطاب الشيخ، إزاحة الاستيحاشات ومناشئها، وهنا ستظهر الورطة الأكبر التي كان يظن أنه سيُخلص خطابه الفقهي منها بمجرد أن يثبت وجود التجويز عند خصمه. ليس خصم الشيخ هنا عقائدي ولا مذهبي، فالخصم المذهبي يكفي أن تقول له إن مذهبك يقول بما أقول، فلا تستنكر علي، هو الآن أمام خصم جديد، فهو أمام عصر حديث، له حساسياته الحديثة تجاه الطفولة والمرأة والإنسان والحقوق والزواج، هو لا يتحدث مع هذا الخصم مباشرة، هو يتحدث مع المتماهين معه والمؤمنين بخطابه المذهبي، ويعيشون ورطة هذا العصر وحساسيته، يريد أن يطمئنهم كي لا يستوحشوا من فقههم الذي يجيز ما تستوحشه حساسية الخصم الجديد الذي يحرم هذا الجواز تحت أي ذريعة أو تبرير أو ضمان، وليس لهذا الخصم مدونات حقوقية أو فقهية تجيز هذا الفعل (نكاح الرضيعة) كي يشغل الشيخ آليته الأثيرة في التعامل مع كتب الخصوم.
إنه يريد أن تتجسَّد في ذوات المتلقين المؤمنين بخطابه قناعات ومواقف، كي يحقق وظيفة التواصل الموقفي وهو”حمل المتلقي على الاشتراك مع المخاطب في موقف معين والسيطرة على وعيه وعلى عالمه الذهني كي يتكيف سلوكه مع مقتضيات ذلك الموقف ونتائجه العملية”[2]
يريد أن يعيد تشكيل الموقف النفسي الاستيحاشي، ليجعله في موقف القبول والاستئناس، أو على الأقل عدم الاستنكار.
سيحتاج الشيخ إلى أن يزيل هذا الاستيحاش بآلية أخرى، هي آليه الافتراض والتبرير والتوهين والتخفيف وتجاهل الوقائع. سيُشغّل هنا الشيخ صنقور آليات معجمه الأصولي الضخم (1000صفحة) سيكون مرجعيته التي تسند خطابه، كي يستقيم في وجه هذا الخصم المختلف الحساسية. فهل سيفلح في إزالة الاستيحاش أم سيضاعف من الاستيحاش؟ هذا ما سأتناوله في الحلقة المقبلة.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5223
الهوامش
[1]http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID= 186
[2] الحداد (محمد)، حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، ط,1 بيروت: دار الطليعة، .2002ص.117
العزيز علي
بشأن مقالك أدناه، لا نبعد بعيداً عن فقه استيحاشات نكاح الرضيعة كما كتبت (برغم من نفوري الشديد لهذه التعابيرات) لا نبعد أيضاً عن لعبة التلاعب بالمصطلحات التي يجيدها بعض “بعض الفقهاء” ويتفننون بإلقائها علينا كلما فتحت أبواب السجالات والجدل بشأن انتقاص المرأة ككيان إنساني في مجتمعنا. أقول ليس بعيداً، فما اعتبرته شأناً جندرياً وفي صلب اهتمامات الأوساط النسوية المدافعة عن حقوق المرأة والأطفال، ولكونك لست معنياً بمضمون خطاب الشيخ صنقور في هذا الجانب “فهنا قد ورطت نفسك من حيث لا تقصد”، بقدر ما على ما يبدو يشغلك من تداعيات طرحه، هو إنه وبالأحرى (فقهه) متورط إلى درجة ما بعصر حديث له حساسياته الحديثة تجاه الطفولة والمرأة والإنسان والحقوق والزواج “المسألة تتجاوز عصر الحساسية”، فضلاً لكونه لا يتحدث مع هذا الخصم مباشرة، وهنا برأيك تعمل عند هذا الشيخ آلية الافتراض والتبرير والتوهين والتخفيف وتجاهل الوقائع، التي تنزلق بالخطاب إلى مرحلة السجال الطائفي. علي لا تجر أقدامنا وتصر علينا للعودة في أدراجنا واستخدام تعبيرات تصطدم في واقع الأمر مع ما نؤمن به من مفاهيم حداثية لاتقبل اللبس في وضوحها. كان تعبير استخدام “ورطة” تعبير بليغ، لكن المتورطين من أسف كثر، واسمح لي عزيزي علي أنت واحد من هؤلاء المتورطين مع هذا الفكر لك عذرك “بسبب ترسبات النشأة والتربية” التي تجعلك تغوص في هذه الورطة لتقارب وتكشف وتفضح ، وبعدها تترك باقي الأمر للمدافعات الجندريات. وبعدها سوف أعيد عليك السؤال “وماذا بعد”!
في السياق ومنذ اسبوعين عقدت النخبة النسائية الوفاقية مؤتمرها تحت شعارات رنانة وهي “تمكين المرأة المسلمة سياسياً والمساهمة في نشر الثقافة السياسية ذات النهج الإسلامي وعدم تغييب المرأة قسراً عن المجتمع…الخ حتى الإكثار من الإصدارات الإسلامية وتوثيق التاريخ السياسي الإسلامي النسوي ” وهذه ورطة أخرى تضاف إلى الورطات التي ذكرتها، وهي تحيلنا شئنا أم أبينا لإثارة سؤال محدد: ما هو موقف المتورطين جميعاً من المفاهيم العصرية الحديثة التي برزت في سياق منظومة الاتفاقيات الدولية؟ ما هو موقفهم من مقررات مؤتمر بيجن؟ ما هو موقفهم من بنود إتفاقية السيداو؟ من حقوق المرأة الدستورية؟ من ومن…وهكذا نفتح الصندوق ونلقي الأسئلة تباعاً وبوضوح لغة العصر المفهومة التي تقبل النقد والدحض والتشكك فلا يقينيات ومثاليات في باطنها ولا مطلقات بين ثناياها ولا ثوابت غير سعيها لإنصاف “الإنسان” ونصف المجتمع “المرأة”! فهل يفصح المتورطون والمتورطات عن موقفهم تجاه هذه المفاهيم بل تجاه هذه الثقافة التي يقصقصونها ويبترونها ويحيلونها إلى قطع قماش بالية بعد أن يفرغوها من محتواها ومضامينها ويختصرونها في “ماركة الإسلام”، وأي إسلام، إسلام المذهب والطائفة!
معزتي
منى فضل