استيحاشات نكاح الرضيعة2

يورد الشيخ محمد صنقور ستة مناشئ للاستيحاش من الحكم بجواز نكاح الصغيرة، وهو يوردها، ليس لتقريرها، أي تقرير حقيقتها، بل لتقرير وهمها، أي أنه يعتبرها استيحاشات وهمية، وهو يشغل تقنياته الحجاجية في إزالة هذه الاستيحاشات الوهمية، ليثبت أن هذا الحكم لا يتعارض حقيقة مع حساسية الذوق العصري أبداً، وذلك لو قدر لنا أن نتخلص من هذه الأوهام الاستيحاشية.

كنت قد وعدت أن أخصص هذه المقالة لتحليل آليات الشيخ محمد صنقور في إزالة استيحاشات حكم نكاح الرضيعة، باعتبارها أوهاماً، لكني مضطر لتأجيلها لمقالة ثالثة، وربما رابعة، وذلك كي أفهم أولاً كيف يثبت خطاب الشيخ محمد صنقور- المدعوم بترسانة علم الأصول الذي تضخم حدّ أن عدد صفحات المعجم الذي كتبه الشيخ صنقور وصل إلى 1000صفحة- أن هذه IMG_03152الاستيحاشات أوهام لا ينبغي الاستناد إليها في تقرير صحة الحكم الشرعي؟

يستند خطاب الشيخ في إثبات ذلك إلى قاعدة أصولية أثيرة التداول، وهي تنص على أن”الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة، فمتى اتفق تحقق الموضوع ترتب عليه الحكم ومتى لم يتفق وقوع الموضوع ولو كان ذلك للأبد فإن الحكم المذكور سيظل منتفياً”[1]

يطبق خطاب الشيخ هذه القاعدة لتفنيد الاستيحاش الذي يتذرع بحجة “أن تزويج الصغيرة منافٍ لمصلحتها غالباً، وذلك لأن تزويجها سيمنعها من الاستمتاع بطفولتها وهو واحد من حقوقها”

ما علاقة هذه الحجة، بقاعدة “الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة” يجيبنا الشيخ، “بأن المصلحة من تزويج الصغيرة قد تتفق ولو في حالات نادرة كما لو افتُرض أن الولي كان عاجزاً عن تدبير شئون الصغيرة ولم يجد من أحدٍ يرعاها وهو يخشى أن يموت فتضيع ابنته وفي ذات الوقت وجد رجلاً في مقتبل العمر صالحاً سويَّاً قادراً على رعايتها وهو يرغب في الزواج منها مع إحراز أنه لن يعاشرها ما لم تبلغ السن المناسب لذلك، فحينئذٍ أي محذور عقلائي يمنع من تزويجها منه”[2]

الحكم الشرعي بجواز زواج الرضيعة، مبني هنا على تحقق مصلحة الرضيعة بالزواج بافتراض (وجد الولي العاجز، رجلاً في مقتبل العمر صالحاً سويَّاً قادراً)، حالة الولي العاجز والرجل الصالح السوي، هي هنا الموضوع المفترض.

الحكم الشرعي بجواز زواج الرضيعة ثابت وواقع (مجعول)، مبني على هذا الافتراض. إن هذا الافتراض من خطاب سماحة الشيخ، يغفل إن الرجل الصالح السوي لا يمكنه، ليس فقط أن يقبل بهذا العقد بل لا يمكنه أن يرى نفسه إلا مستغلاً لحاجة، ولا يمكن لرجل أن يحتفظ بصفة الصلاح، وهو يستغل حاجة رجل وطفلته لرعاية.

ليس المهم هو هنا ما يغفله افتراض خطاب الشيخ، بل ما يغفله هذا الحكم. فالحكم المجعول حين نضعه في سياق عصرنا، ونبرر له اليوم باعتباره حكماً صالحا ونافذاً، وله افتراضات تحقق المصلحة، وتنفي عقلائياً أي محذور(فحينئذٍ أي محذور عقلائي يمنع من تزويجها منه)، حكم يغفل التشريعات الدولية التي وضعتها المنظمات الحقوقية التي تدافع عن مصلحة الطفولة، هذا الحكم لا يمكنه أن يرى من الأفق الذي وضعته هذه التشريعات.

ومن يبرر لهذا الحكم بحجة “الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة” يضع هذه القاعدة في سياق يهزّ قوة بنيتها الأصولية، بل ويفتح الباب على التشكيك في صحتها وصلاحيتها للتبرير أو لنقل في جدوائتها بحسب التعبير الأصولي. وهذا يدعونا إلى أن نتساءل بقلق هل يمكن التعويل على أصول الفقه وحده في الوصول إلى حكم شرعي يحفظ مصلحة الإنسان؟

إن هذه القاعدة الأصولية تتناسى أن الأحكام الشرعية، تخضع مرة إلى حساسية الثقافة، ومرة هي تُخضع الثقافة لحساسيتها، إنها قاعدة تتناسى أن ما نسميه أحكاماً شرعية، لن نقول إنها أساساً خاضعة لتقاليد الجماعات والمجتمعات التي وجدت فيها أو أوجدتها، بل سنقول إن هذه الأحكام مدخولة بهذه التقاليد وحساسيتها. أو لنقل هي مكيفة وفقها، لو لنقل هي تراعي ذوقها وحساسيتها، ” ترتبط الحساسية برؤية ما، وبموضوع الذوق بكل دلالاته الاجتماعية والحضارية، وبكل ارتباطاته بالثقافة والقدرة على الحكم والتميز”[3]

وكي لا نصدم أفق معجم (1000صفحة) لن نجادل في صحة هذه القاعدة الأصولية (ليس من باب التسليم بصحتها) لكن سأجادل في محذورات تطبيقها، وأول هذه المحذورات، هو أنها تجعل الأحكام ثابتة ومقدمة على موضوعات مفترضة، لا موضوعات واقعة، وهذا ما يجعل الواقع لا يزحزح الحكم، بل يصير الحكم ضابطاً ومسيطراً ومهيمناً على الواقع، وهذا ما يشلّ من حركة الواقع، من يملك الحكم هو الفقيه ومن يحرك الواقع هو عقل الإنسان الذي لا يكف عن ابتكار وقائع جديدة تغير العالم وتعيد قراءته. إن الموضوعات التي هي العالم المتغير الوقائع الذي يبتكره الإنسان باستمرار، لا يمكن أن تكون مستوعبة ضمن الموضوعات المفترضة، التي يفترضها الحكم الشرعي، أو لنقل التي يفترضها عقل الفقيه الذي يستنبط الحكم الشرعي، ويجعله في حكم.

الأحكام لا يمكنها أن تستوعب الموضوعات (وقائع العالم المتجددة) ولا يمكنها أن تحاكمها ولا أن تحكم عليها. بل إن الموضوعات تفرض أحكامها، وقد تلغي أحكاماً، كما ألغى العالم الحديث أحكام الرق. لست أدري ما الذي سيؤثر في بيضة الإسلام لو اعتبارنا حكم جواز نكاح الرضيعة عند السنة والشيعة جزءاً من تاريخ الفقه القديم، وليس جزءاً من الفقه، كما هو حال أحكام فقه الرق؟

لن نحتاج إلى لعبة العنوان الثانوي، كي نلغي حكماً”أن الاستمتاع بالصغيرة جائز في حدِّ نفسه إذا لم يتعنون بعناوين أخرى طارئة أما لو طرأت عليه عناوين تُوجب وقوع المفسدة الشديدة من الاستمتاع فإنه سيصبح بذلك محرماً”[4]، أي لا نحتاج إلى أن تترتب مفسدة على نكاح الرضيعة، كي نلغي هذا الحكم، بل يكفي أن وقائع العالم تستوحش هذا الحكم، وهذا ليس من باب تعدد الثقافات واختلافها وحساسيتها تجاه المرأة والطفلة، بل من باب إن عالم المرأة الحديث قد أصبح خارج كل إمكانات وافتراضات هذا الحكم، صار هذا العالم يفرض أحكاما جديدة، وجزء من هذه الأحكام أنه يلغي هذا الحكم. فهو حكم مجعول، مجعول ليس من قبل الله، بل مجعول من قبل الإنسان الفقيه وفهمه وحساسيته وثقافته وأفقه ونقصه.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5293

الهوامش

[1]، [2]،[4] http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID=186

[3] علي الديري، التربية ومؤسسات البرمجة الرمزية، ص95، نقلاً عن دراسة صبري حافظ “جماليات الحساسية والتغير الثقافي” في مجلة فصول العدد 4/1986م

اترك تعليقاً