انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك؟1-3

من يقتل كمال أتاتورك
من يقتل كمال أتاتورك

لتنزيل بروفايل جريدة الوقت من يقتل كمال أتاتورك؟ pdf

تتفاوت البلدان بتفاوت أفق انتظارك لها، هناك بلد تنتظره بأفق وبلد تنتظره من غير أفق، حتى كأنك لا تنتظره، تركيا، تكاد تكون البلد الأكثر انتظاراً بالنسبة إلى أفقي، والانتظار ليس حالة سلبية، كما تخبرنا أدبيات انتظار الخلاص، فهو حالة توقع، تدفعك إلى أن تمدّ عينينك إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرة، والإنسان لا يمدّ عينيه إلا ليقرأ بهما ويؤول من خلالهما، لذلك فالانتظار نشاط تأويلي محكوم بأفق السياق الذي تعيشه. كانت تركيا، بالنسبة إلى أفقي، الجغرافيا التي لم أعاين تاريخها بحواسي كلها، والتاريخ يكون عصياً على الفهم حتى تمشي بقدميك في جغرافيته التي حدث فيها، وتاريخ تركيا عصي على الفهم أكثر لأنه تاريخ مازال يشتغل في الحاضر بلغات متعددة وحضارات متعددة وجغرافيا متعددة، فكيف يمكنك أن تقيم صلة أليفة مع هذا التاريخ، من غير المشي فيه؟
زهرة القطن
إذاً، لابد من المشي إلى تركيا وإن تأخر السفر، إنها زيارتي الأولى لتركيا، وهي تأتي تلبية لدعوة من «مهرجان تشقروّة العالمي» (Cukurova) الثاني، كنت بمعية الصديق الشاعر علي الجلاوي. كانت تجربة غنية في قراءة تركيا من جزئها الأقرب إلى العالم العربي، ففعاليات المهرجان الذي اتخذت من تفتح زهرة القطن البيضاء في الأراضي الزراعية المنخفضة شعاراً لها، كانت في مناطق أضنة ومرسين وأنطاكية التي يمكنك أن تراها من مدينة حلب السورية.

في هذه المنطقة الجغرافية لن تعدم عرباً أتراكاً، يتقنون العربية والتركية، ويحملون باتجاهاتهم اليسارية هموم القضايا العربية السياسية، ويسعون بحماس للانفتاح على الأدب العربي والثقافة العربية، وجزء أصيل من رسالة هذا المهرجان تكمن في التعريف بأدباء الشرق، وهذا ما دعا الأديب التركي الذي يتقن العربية بطلاقة محمد قراصو إلى أن يطلق على هذا المهرجان الذي يقام سنوياً ف ي أنطاكية في شهر مايو/ أيار عنوان «تلاقي أدباء الشرق الأوسط». وقراصو عضو في أكثر من عشرين جمعية أدبية في العالم، وهو باحث وقاص، وله مجموعة من المؤلفات الإبداعية والبحثيّة، كما له جهود عظيمة على صعيد التواصل الثقافي بين الثقافتين التركية والعربية، وهو بصدد إصدار أنطولوجيا عن الكتاب في الأردن وفلسطين.
أنت خبز
مع أنك لا تلمس حضور جلال الدين الرومي في الثقافة التركية بمقدار حضوره في الثقافة الإيرانية، التي تسمي كتابه «مثنوي» «قرآن بهلوي» أي «قرآن الفارسية». إلا أن تركيا كانت وفية لرأسه الذي لم يسقط فيها، لكنه استقر فيها، وأقامت فيه متحفاً باسمه، في «قونية» التي وصلها وفي الرابعة والعشرين، وتوفي فيها في 17 ديسمبر/ كانون الأول العام .1273
لكن هذا المكان قبل أن يكون قبراً وقبل أن يكون الآن متحفاً، كان تكية أنشأها جلال الدين لتكون بيتًا للصوفية، وتُعد من أجلِّ العمائر الإسلامية وأكثرها روعة وبهاء بنقوشها البديعة وزخارفها المتقنة، وثرياتها الثمينة، وطُرُزها الأنيق، ويظهر على الضريح بيت من الشعر يخاطب به «جلال الدين» زواره قائلاً:
يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدِّ الرحال
قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال..
لقد جعلت اللغة التركية جزءاً منها لصيقاً باسم الرومي، حين منحته من تقاليد لغتها لقب «مولانا»، أي أستاذنا وسيدنا باللغة التركية، ومع أن الكلمة عربية، لكنها في هذا الاستخدام تركية. صار هذا اللقب خاصاً به، ولا يحضر اسم جلال الدين إلا مسبوقاً بـ «مولانا». لقد استحق جلال الدين هذا اللقب، لأنه أستاذ في هداية القلوب والعقول وتوجيهها لتبحث عن ذاتها وتكتشفها، ويمكنك أن تعرف عما تبحث، وعما تبحث في تركيا خصوصاً، ومن أنت، أو من ذاك الذي يمكن أن تكونه في تركيا، حين تقرأ عبارته «إن كنت تبحث عن ضيفك فأنت إنسان، وإن كنت تبحث عن لقمة خبز فأنت خبز، وإن كنت تعرف هذه الجملة يعني أنك تعرف العمل.. عن ماذا تبحث فأنت ذاك». كانت عبارة «مولانا» مصباحي في تركيا، عن ماذا كنت أبحث في تركيا؟ التجربة العلمانية لتركيا، هي ما كنت أبحث عنه، وهي الأكثر انتظاراً في أفقي المشحون بتاريخ تركيا الطويل، وجدت نفسي أبحث عن العلمانية الأتاتوركية، ومع أني أعرف أني علماني، لكني لست علمانياً أتاتوركياً، وللدقة أنا كنت أبحث عن مآلات العلمنة الأتاتوركية، فأنا علماني يحسن الإصغاء إلى هذه المآلات.
دكتاتورية إصلاحية
منذ المرحلة الثانوية، بدت العلمانية الأتاتوركية، لأفقي الإسلامي، تغريباً، يحاول النيل من الإسلام، ولاحقاً بدت العلمانية الأتاتوركية – كما تلقيتها من محمد أركون – لأفقي العلماني، دكتاتورية تمارس استبداداً، باسم الحداثة. لم تكن تمثل العلمانية القائمة على احترام تعددية الحقيقة والعرق والدين والثقافة. وبسبب غياب هذه التعددية أصبحت هذه العلمانية شكلاً من السلطة لم تعرف حتى التعددية الحزبية إلا بعد مضي 23 عاماً من حكم الحزب الواحد الذي تمكن من التغلغل في الدولة والاستفراد بالنطق باسمها وباسم مصلحتها وسياستها العليا وأمنها الأعلى، وهذا جعل العلمانية الأتاتوركية دكتاتورية إصلاحية(i)، يصعب أن يُطلق اسم «الديموقراطية» عليها، كما يقول أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة الألمانية كلاوس كرايزر. غير أن هذه الدكتاتورية الإصلاحية، هي أساس جمهورية تركيا، الذاهبة اليوم بعيداً في سباق أن تكون دولة أوربية، مكتملة التجربة.
الأتاتوركية ليست مجرد صفة تاريخية للعلمانية التركية، أي مجرد صفة تشير إلى لحظة تاريخية تذكر باسم شخص، بل هي تشير إلى حدث تأسيسي يشبه الحوادث التأسيسية للديانات التي تظل مرتبطة بأسماء أنبيائها، ولا تغادرهم، فكما نقول الديانة المحمدية، نقول العلمانية الأتاتوركية، وكذلك نقول الدولة الكمالية، بالمعنى نفسه الذي يشير إلى نمط الدولة التي أسسها كمال أتاتورك «الكمالية أي عبادة الدولة الموضوعة فوق المجتمع والمكلفة بصنع الأمة»(ii).
لقد استندت الكمالية في تحقيق فوقيتها إلى الجيش الذي مازال إلى حد كبير، يختزل الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في القومية، من دون أن يتمكن من أن يستوعب أن «القومية مرحلة معينة بتاريخ الشعوب»(iii)، وأنها قابلة للتحديث باستمرار. ويعتبر «مصطفى كمال باشا» المولود في العام 1881 في المدينة المقدونية تسالونيكي، التي كانت حتَّى العام 1912 عاصمةً لإحدى الولايات العثمانية، مؤسس جمهورية تركيا الحديثة. أمَّا لقبه «أتاتورك» فقد أُطلق عليه بأمر منه مع نهاية مسيرة حياته في العام 1934 من قبل مجلس الشعب التركي (البرلمان). إلاّ أنَّ العالم يعرفه باسم «أتاتورك» (أبو الأتراك) – هذا الاسم يختلف عن اسمه الأوَّل «مصطفى» ويختلف عن الاسم الذي أطلقه معلِّمه عليه «كمال». كذلك لم ينس الناس في تركيا اسميه الفخريين «غازي» و«خلاصكار» (أي المنقذ والمخلِّص).
قتل أتاتورك
تركيا بحاجة إلى قتل الأب، والقتل هنا، ليس حرفياً، فقتل الأب مفهوم، يحيل في الميدان النفسي والأدبي إلى التخلص من سلطة الشيء الذي يسبق ويمارس عليك حضوراً طاغيا يحول دون تخطيك أو تجاوزك له، تركيا، تبدو اليوم، في مخاضاتها العسيرة، تقاوم قتل أبيها الحديث، وهناك من يقف من دون ذلك، وهناك من يهدد بالثأر إن حدث ذلك، وهناك من يطلق صيحات التحذير التي تقرأ في كل حركة تهديداً بهذا القتل. وليس هناك أكثر قتلاً لأب الأتراك أو تهديداً بقتله أو الخطوة على طريق قتله، من الحجاب ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وحركات الأكراد الانفصالية التي أتاح لها غزو العراق إمكانات انفصال تراها الدولة ممكنة أكثر من أي وقت مضى.
يأتي الخوف من هذا القتل من جهات عدة: من جهة الأقليات العرقية التي لم تتسع لها علمانيته القومية، ومن الاتجاهات الإسلامية التي لم تتعدد بها علمانيته، ومن الاتجاهات الليبرالية التي لم تتمقرط وفقها علمانيته، ومن الاتجاهات اليسارية الأممية التي لم تستوعب علمانيته إنسانها.
كانت تركيا تمثل أبوة العالم الإسلامي، وهي بهذه الأبوة الإسلامية استوعبت في عاصمتها أعراقاً مختلفة، وإذا كانت علمانية أتاتورك، قد تمكنت من قتل هذه الأبوة الرمزية متعددة الأعراق والثقافات بأبوة خالصة التتريك، أي بأن يكون أبو تركيا أباً للأتراك وحدهم، فإنه لم يتمكن من قتل هذه الأعراق فعلياً رغم تاريخ الاضطهاد، ولم يتمكن من قتلهم رمزياً ليكونوا أتراكاً بالعرق والثقافة، بدل أن يكونوا أتراكاً بالمواطنية.
الخط الأحمر
حين سألت مرافقنا ومترجمنا الدائم أسعد جوناي: ما أبرز القضايا الساخنة في تركيا؟ قال تغلغل التدين في جسد الدولة والمجتمع عبر واجهته الأبرز «حزب العدالة والتنمية»، والهويات القومية غير المستوعبة في الدولة، وفي مقدمتها القومية الكردية.
أسعد جوناي، في العقد الخامس من عمره، عربي تركي، درس الطب في سوريا حتى السنة الرابعة، وعمل في إذاعة دمشق أثناء دراسته الجامعية، انخرط في اليسار الماركسي منذ سنواته الجامعية، يمتاز بشخصية مبدئية وفية لتكوينها الأيديولوجي، فهو يساري في IMG_3779كل شيء، يترحم على الاتحاد السوفيتي، ويلعن بنبرة صوتية (شيعية علوية) مفككي الاتحاد السوفيتي، يتحدث عن علويته التي غادرها منذ صباه، بروح علمانية، لكنه لا ينسى أن يشيد بانحياز (الطائفة العلوية) للحق والعدالة التي كانت تجده في نموذج الإمام علي، وهو يتحدث عن الإنسان الأممي الخارج من أطره الدينية والقومية والمذهبية، ويتحدث عن العمال وانخراطه في نقابتهم، وعمله اليدوي اليومي الذي يفاخر به، بالمستوى الذي يفاخر به بقراءاته للأدبيات الماركسية الأساسية وإلمامه بحركات المعارضة والثورة في التاريخ الإسلامي، وهو لا يكف عن تكرار أن الإنسان مجرداً من أية إضافة هو مرجعيته في النظر إلى الأمور.
يقول «لدينا حرية في تركيا، لكن هناك خطاً أحمر، اسمه أتاتورك، لا يمكنك أن تتجاوز هذا الخط، لقد صار مقدساً، وعليك أن تلتفت يمنة ويسرة فقد يكون هناك مخبر، مهمته حراسة هذا الخط الأحمر من جرعة الحرية التي قد يفهمها الناس بشكل يفوق سقف هذا الخط. هناك خوف ليس على الدولة، بقدر ما هو خوف على تراث الأبوة الرمزية لمؤسس الدولة».
هوامش
i ) موقع قنطرة:

http://www.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-340/_nr-39/_p-1/i.html

ii ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص102
iii ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص102

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114529

28 تعليقا على “انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك؟1-3”

  1. العزيز علي الديري،

    شكرا لهذا المقال الجميل.

    في التسعينيات كنت مسؤولا عن متابعة أعمال فرع بنك طيب في إسطنبول، وكنت أزور تركيا مرتين في العام الواحد. كان الأمر غريبا، الإسلامي يضطر لإخفاء إنتماءه خوفا من الإضطهاد، فهو يصلي خلسة ويصوم دون أن يعرف زملاءه الذين يتناولون وجبة الغداء في رمضان كأي يوم آخر. الحجاب كان هرطقة في عالم المصارف فلم أتعرف على محجبة واحدة في بلد مسلم.

    العلمانية في تركيا غيرها في أغلب دول العالم، حيث حولها مصطفى كمال إلى دين للدولة يعاقب كل من يتحداها ويدخل السجن (كما دخله رئيس الوزراء أردوغان بسبب ترديده قصيدة شعر إسلامية). وبإمكان أي عقيدة أن تنبت في ظروف غير طبيعية ولكنها لا تستطيع أن تستمر، فطبيعة البشر وتطلعهم للحرية أقوى من عقيدة أتاتورك أو لينين وستالين. علمانيو تركيا المتعصبون يخوضون حربهم الأخيرة ضد أية فكرة أخرى تحول القومية التركية المنغلقة إلى قومية تقبل التعددية الفكرية والقومية والثقافية. لذلك فالحرب ضد حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي يحاولون حله عن طريق دعوى في المحكمة الدستورية بسبب رفضه علمانيتهم، هي نفس الحرب ضد حركة التحرر الكردية العلمانية القومية حيث حرموا الأكراد من تعليم لغتهم في المدارس وحتى وقت قريب منعوا إذاعاتهم وحجروا على ثقافتهم. علمانية أتاتورك هي علمانية في الشكل وقومية متعصبة في جوهرها، وهي شبيهة بعلمانية هتلر وموسوليني، وربما كانت ستكون مثلهما لولا أن تركيا هزمت في الحرب الأولى وجردت من مستعمراتها ولا تملك إمكانات صناعية تؤهلها المنافسة على حصة في تقسيم العالم بعد سايكس بيكو.

    وللعلم فإن أكبر دعاة العلمانية في تركيا هي الطائفة العلوية التي يبلغ تعدادها حسب ما أذكر 15-20% من سكان تركيا.

    شكرا علي مرة أخرى، وأتمنى ألا ينتهي البحث عند هذا فتجربة تركيا مهمة من نواحي عديدة منها السؤال الملح: هل يمكن أن يوجد حزب إسلامي يؤمن بالديمقراطية والعلمانية، وما هي الظروف الملائمة لتطور مثل هذا الحزب الإسلامي (العلماني) في المجتمع العربي.

    إبراهيم شريف

  2. جميل نشاطك التأويلي على الدوام

    كنت اتمنى ان نراك اكثر… لكنك جئت وسط زعيق الديمقراطية المجوف

    اتمنى ان تسنح فرصة قريبة للقائك… ابلغ التحية لجميع الاصدقاء الذين لم نرهم بعد

    محبتي لك
    وعمي هذا السيرتش

  3. عزيزي/ علي الديري.. أبو راشد
    تحية
    قرأتُ موضوعك بقلب مشدود، إذ شأني كشأنك، قبل أسابيع عدتُ من أسطنبول، عاصمة الخلافة الإسلامية بالدولة العثمانية، التي أطاحها أبو الأتراك، الجنرال السابق بجيش السلطان

    إلا أن ما أود التنويه إليه هو تضارب الروايات التي سمعتها وقرأتها بشأن إطلاق لقب أتاتورك على مصطى كمال باشا، الرواية الأولى هي التي ذكرتها في موضوعك بشأن أمره للبرلمان بإطلاق هذه التسمية عليه، ولكن الرواية الثانية تنقضها، وتقول أن هذا اللقب أطلقه البرلمان عليه بعد وفاته، ولكنني للأمانة لم أستقصي مدى صحة المعلومتين

    أترقب الحلقة الثانية والثالثة.. بقلب مشدود

    تحياتي الفوسفورية
    راشد الغائب

اترك تعليقاً