على هامش مشاركته في أنشطة مركز الشيخ إبراهيم.. عباس بيضون لـ«الوقت»:
الشعر ما عاد ديوان أي أحد
هو فن منقرض بلا سوق وأستغرب وجود شعراء شبّان
الوقت – حسين مرهون، علي الديري
كون المرء اليوم شاعراً يفترض في الأقل إقراراً بالشعر كمقترح إبداعي ما يزال قادراً على قول رؤى جديدة لم يتم قولها. إلى حد ما هذا صحيح، لكن ليس مع عباس بيضون. فالشاعر الستيني اللبناني الذي تخفق راية تجربته على ضفاف خمسة عقود يقول ‘’صار الشعر حيواناً منقرضاً’’. كونه لايزال شاعراً ليس بالضرورة أمراً بذي معنى. يقول رداً على سؤال ‘’لا معنى لبقائي شاعراً حتى اليوم’’. غير أنه لا يجد دافعاً لسؤال نفسه عن الجدوى من أنه ما يزال يكتب الشعر ويحيي الأمسيات الشعرية. ويرى أن ذلك ينبغي أن يكون سؤال الأجيال الجديدة تحديداً، فهي وفدت على الشعر في فترة كان يشهد فيها كساداً حتى أنه لم يعد ديوان أي شيء. ويستدرك ‘’حين كتبت الشعر، كان لما يزل ثمة مكان يُتوخّى من الشعر وثمة مكانة’’. على رغم كل ذلك، فهو لم يقتنع حتى الآن بموت الشعر، على الأقل ما دام هناك شعراء شبان يأتون إلى الصنعة غير آبهين بظلام النهايات. وهو يدافع عن المشروعية التي يصدر عنها الشعراء الجدد، حتى وهي مشروعية تقف على إقصاء اللغة والأدبية لصالح اللّحظي سريع التبدل وشحيح العاطفة. يقول ‘’أنا واحد ممن دافعوا عن مشروعية هذا التوجه’’. ‘’الوقت’’ التقت عباس بيضون على هامش إحيائه أمسية شعرية الأسبوع ما قبل الماضي في بيت الشعر – بيت الشاعر إبراهيم العريض وحاورته.
* ربما عدّ بلدك لبنان مهداً ثانياً بعد العراق بالنسبة إلى تجربة الشعر الحديث، خصوصاً مع مرحلة مجلة شعر أواخر الخمسينات وبداية الستينات، وهي المرحلة التي تنتمي تجربتك إليها. لنبدأ من الآخر، دعنا نطالع في مآلات هذا المهد الشعري، وتحديداً في أوراق الشعر الشبابي في لبنان اليوم؟
– لست أدري ما إذا كان هناك شعر شبابي أو كتابة شبابية أو لا. لكن عموماً، فإن ما يدخل ضمن إطار ما تسميه الشعر الشبابي – من دون أن تكون لهذا المصطلح قوة موضوعية بالضرورة – لايقدم اقتراحاً أو تجربة جديدين. هو إن شئت، إحساس مختلف بالأشياء، بالزمن، المكان، الحياة والمشاهد. وطبعاً غير الإحساس الذي كانت تتوفر عليه الأجيال السابقة. من هنا فأنا أفترض أن الشعر الشبابي، هو بمثابة الانتقال إلى إحساس بالحياة مختلف، إلى حياة ثانية، وهذا ليس حكم قيمة بالضرورة. إذا ما أردت أن نتوسع قليلاً، يمكن القول إن الكتابة الشعرية تختزن داخلها أمكنة عدة، منها الصحراوي ومنها الريفي. حتى في الكتابة النثرية الأمر نفسه موجود. مثلاً القصيدة النثرية التي تعتمد كثيراً على الصوت، والتداعي الصوتي هي قصيدة صحراوية. وحين أقول صحراوية فأنا لا أدين أحداً، فقد تكون كذلك وتكون قصيدة آسرة جداً. مثال آخر، تجد المنطقة التي يخرج منها شعر (الشاعر السوري الكردي) سليم بركات (1951)، والتي تقوم على اللغة بشكل رئيس، هي منطقة صحراوية. كونها تعتمد على الإقامة في مكان واحد رئيس، وهو اللغة كما أسلفت، ما يعني أن قصيدته ساكنة إلى نفسها، وما دام الحال كذلك فإننا هنا بإزاء إحساس الصحراء. أما المنطقة الريفية، فيمكن إدراج شعر (الشاعر السوري) محمد الماغوط (1934 – 2006) في دائرتها. ثمة شعراء كثر، يمكن توزيعهم بضمن هاتين الدائرتين.
* حسناً، فأين يمكن أن نجد قصيدة المدينة إذن، قصيدة بيروت إن شئت؟
– تجدها لدى الأجيال الجديدة. إنني أفترض إن هذه الأجيال هي أجيال مدينية، بمعنى أن إحساسها بالزمن، المكان والعيش بصورة عامة، هو إحساس مديني. وفي التفصيل يمكن القول إن واحداً من مظاهر الإحساس بالمدينة هو الحضور الكبير للحظة السريعة. للسرعة نفسها، السرعة في تناول الأشياء بما يجعل من القصيدة أقل إيغالاً حتى لا أقول أقل عمقاً. مظهر آخر، هو التركيز على اللحظة البصرية مصحوباً ذلك بشحّة عاطفية فضلاً عن شحة أدبية إضافة إلى غنائية سريعة. تلك هي أهم مظاهر الإحساس بالمدينة، وهي نفسها المظاهر التي تتخلل معظم التجارب الشبابية الطالعة. وكما أسلفت، فإن هذه المظاهر لا يمكن أن تحول على تجربة أو مقترح جديدين بقدر ما تحول على إحساس بالأشياء مختلف. لكن حين نتحدث عن شعر شبابي، فإنني أفترض هنا أن هناك مكاناً للشعر، وليس للعمر فقط. العمر لايعني شيئاً، قد يتدخل في الحسم أو ربما لا يتدخل، لكن الشيء الأساس في هذه العملية كلها، هي الرؤية.
القصيدة الراهنة بلا لغة
* هل برأيك ما تسميه هنا رؤية يمكن تلمسها من التجارب الراهنة للشباب، حتى لا نقول الشعر الشبابي؟
– نعم، موجودة بدرجات متفاوتة. ومرة أخرى، أرجو ألا يفهم من رأيي تصديراً لحكم قيمة، أسوأ أو أفضل. لكن في المجمل، تجد في معظم الشعر المنجز اليوم من طريق أصوات شابة، سيطرة للحظة المرور السريعة بالأشياء، العواطف الأقل إيغالاً، الغنائية السريعة، والاستغراق في المشهد البصري. ليس ثمة منعرجات أو دواخل في القصيدة إلى حد يمكن معه القول إن شعر هذا الجيل هو بدون لحظات تأملية كبرى. وربما أمكن القول هنا إن ثمة انعداماً للمؤلف، خصوصاً بعد أن تم التخلي عن اللغة. صارت اللغة مجرد أداة إبلاغ، وهو الأمر الذي قاد إلى نوع من اللغة الواحدة، اللغة التقريرية التي يمكن أن تكتب بها كل شيء.
*هل تعني أنه ما عادت هناك أسلبة؟
نعم، إذ صار من الممكن الحديث عن عمل من دون مؤلف. وهي بالمناسبة سمة تلتصق بالفن الحديث عموماً. عدد كبير من الفنون ما عادت ثمة بصمة لمعديها بمثل ما كان الحال عليه في السابق. وفي الشعر، انتقل الأسلوب إلى العمومية، إلى اللا أسلوب تقريباً، وبالتالي إلى اللا أدب. إن شئت، من هنا يمكن أن نتحدث عن شعر شبابي.
* يبدو أن حكمك قاسٍ حيال التجارب الشبابية؟
أبداً أبداً، أنا لديّ موقف إيجابي كثيراً من هذه الظاهرة. وقد دافعت عن الشباب من هذه الزاوية بالذات. من وجود فن شبابي معاصر يمتلك مجموعة من السمات ربما لايتحملها شعراء من جيلي أو من الجيل الذي قبلي. لقد أشرت في أكثر من مقام ومقال عن شعر معاصر، شعر بلا مؤلف أو خصوصية أو أسلبة انطلاقاً من أن معظم الفن الحديث مبتنى على هذه الأفكار تحديداً. انظر، لقد اعتبرت أن كلامي السابق قاسٍ، في حين كان الكلام وصفياً. لم أفهْ بأية كلمة هجومية. إن دلّ ذلك على شيء، فهو يدل على أننا نتوفر على مجموعة من القيم المختلفة.. أنت شاب وأنا كهل. ثمة كلمات ما إن تلقى تشحذ لها أحكام قيمة. كلمة خصوصية مثلاً، ما إن تدخلها في التداول، تقول مثلاً إن هذا الشعر بلا خصوصية حتى تظهر وكأنها شتيمة. بالمقابل، فإن الشعر ذا الخصوصية، يظهر كما لو كان شيئاً ذا شأن عظيم. فهذه الكلمات تستبطن أحكام قيمة. في حين كان رأيي بشأن التجارب الجديدة يتوخى التوصيف ليس إلا.
كل تجربة الحداثة ضد الخصوصية
حين تقول إنها تجارب من غير مؤلف، فأنا أفهم الأمر على جهة أنها تجارب منتفية الفردية. وما إن تنتفي فرديتها فهي تكف عن أن تصبح شعراً. وإلا ما رأيك؟
نعم، لكن معظم الشعر الأميركي اليوم هو شعر منتفي الخصوصية. جزء كبير من الفن الحديث مبني على انتفاء الخصوصية، بل هو ضد الخصوصية أصلاً. ثمة اختلاف هنا، بين الحداثة (Modernism) وما بعدها. ما بعد الحداثة (Post Modernism) هي نفي للخصوصية.
* لكن نفي الخصوصية لا يعني نفي الفردية.
نعم، لكنني لا أصدر حكم قيمة هنا. كل ما أحاول قوله هو أن جزءاً كبيراً من كتابة الشباب اليوم يقوم على عدم الأسلبة، على عدم الاكتراث للغة أو للأدبية بصورة عامة.
*هناك رأي لصديقك حازم صاغية يرى فيه أن الأيديولوجيات الشمولية هي التي لا تؤسلب مستعيضة عن ذلك بالمضمون. وعلى العكس من ذلك تماماً أيديولوجية الفرد الحديث، أو الفردانية التي تعتني بالأسلوب كثيراً. كيف نوفق بين هذا الرأي ورأيك القائل بانتفاء الأسلبة عن تجارب شباب ولدوا وظهرت تجاربهم فيما كانت الأيديولوجيات الشمولية الكبيرة تنهار تاركة الفسحة لظهور الفرد حيث هو القيمة أولاً وأخيراً؟
نفي الخصوصية لا يعني بالضرورة أن الحال قد آل لمصلحة التوليتارية إنما لمصلحة السوق. لمصلحة شيء يتجاوز الفرد. في الأدب أو في الفن، ما عاد ثمة من يكترث للأفراد إنما للسوق. تفتح "غاليريه" لتبيع لوحاتك، تكتب رواية للشيء نفسه، وقس على ذلك.
* معنى ذلك أن السوق أصبحت شرط العمل الإبداعي.
نعم السوق، الفردية ما عادت تعني أي شيء. في الزمن الحداثة كان ثمة مكان للفردية، لكن في الزمن المابعد الحداثي انتفى ذلك. لقد استطاع الكتاب والرسامون في السابق أن يفرضوا احترامهم على المجتمع، حيث كان ما يزال من يعطي الأولوية للفرد. حالياً، اختفى هذا الاحترام، ولم تعد الفردية قيمة بقدر ما القيمة في السوق. مثلاً، إذا ما وجد فنان على قدر من الاحتراف في رسم الوجوه، يستطيع أن يفتح له "غاليريه" ويلقى إقبالاً ورواجاً، فيصبح فنه هو الفن.
الشعر فن منقرض لا يعني أي شيء
* هل نستطيع القول إن الزمن السائد حالياً هو زمن سوق بمعنى (Consumption Culture). وبالتالي فالقصيدة قصيدة سوق بهذا المعنى وبما يعني في المحصلة أنها ابنة زمنها؟
لست أدري ما إذا كان يصح هذا الوصف أو لا. لكن أطمئنك، ميزة القصيدة اليوم، الجيدة والرديئة على السواء، أنها قصيدة بلا سوق. لم يعد لها سوق أصلاً، الشعر كله خرج من السوق، العرب والعالمي معاً. لو تابعت المجلات الثقافية الأجنبية في السنوات الأخيرة، على الأقل في فرنسا، ستجد أنها لا تكترث للشعر بتاتاً.
* يبدو أن الشعر ما عاد ديوان العرب، ربما ولا ديوان أي شيء.
نعم، لم يعد الشعر يعني شيئاً. هو فن منقرض، وبالتالي فن بلا سوق.
لكن ألا ترى أن ما ينطبق على الشعر، وهو شعر شعراء الحداثة تحديثاً، ينطبق أيضاً على كل ما يتم الاصطلاح عليه عندنا، فن حديث من مسرح وتشكيل وموسيقى ودراما إلخ إلخ. فجميع هذه الفنون في ورطة وتتزايد الشكوى من نخبويتها الموغلة، فهي أيضاً من دون سوق؟
بداية أنا أعترض على استعمل كلمة حديث أو حداثة هنا، إنها كلمة كبيرة. كلمة حداثة واحدة من ديانات المثقفين العرب التي لايوجد لها معنى. الحداثة انتهت من زمان ولم تترك من أثر علينا، ولا حتى أي أثر. في مجتمعات أخرى، الأوروبية مثلاً، نعم، وهي لذلك ولجت في ما بعد الحداثة. أما الحداثة عندنا، في المجتمع العربي، فقد انتهت بإنتاج أدب متعبد بالحداثة وممتدح لها. دعنا نخرج من هذا المصطلح.
* لقد كانت تسمية مقترحة، لكن حسناً.. هل يروك لك استخدام كلمة "شعر راهن"؟
نعم، هذا أفضل. ذلك أن الحداثة مجموعة من العناصر المتداخلة، لك أن تسميها منظومة، وهي لا تعني بالضرورة كل جديد. "الراهن" كلمة أقل ادعاء وأقل أيديولوجية. يأتي باستمرار عند الكلام عن الحداثة، جدل سوفسطائي، من قبيل هذا الشيء حديث وهذا غير حديث، حبذا لو خرجنا من ذلك واستخدمنا مصطلحاً آخر قادراً على أن يصل بنا إلى شيء.
الفنون كلها في مأزق
* طيب، لننتقل الآن إلى الإشكالية الرئيسة، وهي أن مأزق الشعر اليوم هو نفسه مأزق التشكيل والمسرح والموسيقى إلخ. ربما باستثناء الرواية.
أيضاً هنا أعترض، فالرواية نفسها في مأزق. كون أن لها رواجاً لا يعني أنها خارج المأزق. ربما رواجها الشعبي تحديداً، هو الذي يكمن سبباً في مأزقيتها، ذلك أنه جعل من أرباب السوق يتدخلون كيما يتحكموا في شكل الرواية وفي الإنتاج الروائي عموماً. ليس صدفة مثلاً أننا بعد كل التجارب الروائية الكبيرة، انتقلنا شيئاً فشيئاً إلى زمن ليس فيه رواية كبيرة. الرواية هي الأخرى انتكست، وصارت تميل إلى السهولة والتبسيط وعدم الاستغراق في الدهاليز الشكلية. برأيي، الرواية في طريقها إلى الوصول إلى ما وصلت إليه السينما. فإذا ما عدت إلى التجارب السينمائية ما قبل المرحلة الحديثة، سينما (المخرج الإيطالي) فدريكو فليني Federico Fellini (1920 – 1993) مثلاً، ستكتشف أنها سينما لا تتكرر، لا يوجد لها مثيل في كل إنتاج السينما الحديثة. وحتى لا يمكن مقارنتها بأي من الأفلام الحائزة على جوائز "أوسكار" هذه الأيام. المسرح هو الآخر، ما عاد فيه ثمة تجارب كبيرة. بدأنا ندخل في عصر، الفن فيه عموماً بلا تجارب كبيرة. الفن كله اليوم أمام خيار صعب، وبالتالي فأنا أفترض اتفاقاً إلى حد كبير مع الفرضية الموجود في سؤالك.
* لنبقَ في حدود الشعر. إذا كان الشعر فناً مقترضاً وبلا سوق، كما لم يعد ديواناً لأي شيء. فبأي معنى أنت شاعر، وأنت مدعوّ في الأساس لإحياء أمسية شعرية؟
– لايوجد أي معني. لكن أشير هنا إلى أنني في الوقت الذي بدأ فيه أكتب شعراً، لم يكن الشعر قد وصل بعد إلى المستوى الذي وصل إليه اليوم. كان ثمة مكانة له آنذاك، وربما أمكن القول إنه كان لما يزل ديوان العرب. لذا فأنا أفترض أن هذا السؤال ليس مطروحاً عليّ، إنما هو مطروح على الشعراء الشباب في الأساس. أنا نفسي أسأل: لماذا ما يزال هؤلاء شعراء في عصر نشهد فيه انحسار الشعر. على رغم ذلك، فثمة شيء إيجابي هنا، فكون الشعر بلا سوق، فهذا ترك على الأقل فسحة لتطوير إمكانية أن ينتج بشروطه.
سبب كافٍ لبقاء الشعر
* هل تجد أن ثمة مشروعية للسؤال اليوم عن جدوى الشعر أو مشروعية لتثمير مصطلح مثل "موت الشعر"؟
– يجب التفريق هنا بين الجدوى والرواج. إذا كانت الجدوى تعني الرواج فإن الشعر حتماً بلا جدوى. لكن دعنا نعقد مقاربة أخرى. أرى الجدوى تحديداً في كون الشعر مقاوماً للموت. كونه ما يزال موجوداً وما يزال ثمة شبان يجهدون على أن يصبحوا شعراء، رافضين شروط السوق، فهنا تماماً تكمن الجدوى. إنه شيء مفاجيء ما من شك، أن يخرج شبان شعراء في مجتمعات لاتعطي وزناً للشعر. وهذه بالمناسبة لا تقتصر على البلدان العربية، حيث لدى الشعر تقاليد قديمة ومايزال الشعراء يحظون ببعض من المكانة، وتجد أخبار إصداراتهم صدىً لها في بعض الملاحق الثقافية، بل حتى في الدول الغربية. ما يزال هناك شبان يأتون إلى الشعر، بالمئات، مصرّين عليه على رغم قلة الحظوة والمكانة، وذلك بنظري مبرر كافٍ وحده لكي يبقى الشعر، وإن كان غير بقادر على إيقاف موته.
* هل تشكل من هذا الأفق في رؤية للشعر دافعك إلى نقد جيلك، جيل الحداثة الشعرية وجيل مجلة الشعر الذي أوحى ذات يوم، بواسطة البيانات الشعرية وغيرها، أن الحداثة العربية إنما تبدأ من الشعر أساساً؟
كانت هناك أوهام كبيرة. لكن آنذاك، كان الشعر مايزال الفن الأول. كانت الرواية موجودة، ولكن كان الشعر هو الفن الرسمي. برأيي إن شعراء الحداثة أعطوا الشعر هذه المكانة، كونه حتى تلك اللحظة، كان فعلاً "ديوان العرب" ثم أنهم وجدوا ميزتهم في الشعر. لقد طوروا هذه الفكرة إلى حدّ تمت فيه أسطرة الشعر، صار شيئاً أقرب إلى الأسطورة. وهو ما جعل منه فناً لا تاريخياً، فناً متجاوزاً للتاريخ، وبمثابة الرسالة الشاملة. لقد وقعوا في وهم أن الواقع يمكن أن يبدأ من الشعر، وكذلك النهضة والانبعاث والخلق الجديد، فيما تمّ عطف الشعراء على ما يشبه العرق الخاص. وهو ما أوقع الشعر في حالة من الطوبى الشاملة ذات القدرة السحرية.
الأوهام.. من أين جاءت
إن شئت، فإن عمل الرواد الأوائل تمثل في إعطاء الشعر قيمة سحرية وجعل الشعر ملكوتاً مستقلأً، كما تمثل في منحه قوة تاريخية "نيتشوية" – نسبة إلى الفيلسوف الألماني فرديريك نيتشة – يقع عليها التثوير والتخريب وإعادة الخلق. فصار الشعر معهم أقرب إلى "سوبر مان" superman. بنظري إن وهم هذا التصور، أتى من مكانين. أولاً، من عبادة الحداثة، حيث اعتبر الشعر رسول الحداثة كونه التكنيك الذي رفعها على صعيد التجربة العربية. ثانياً، من تزامن عبادة الحداثة (أولاً) مع سيادة الوعي القومي الناصري، أو قل التخريب القومي. ولأول مرة صارت هناك أمنية عامة تعبر عن نفسها من خلال لغة مشتركة، تاريخ ومستقبل مشتركين ينصهران كلاهما في عنصر الأمة المرجوّة. ومرة أخرى، استُعمل الشعر بوصفه الحاضن للثقافة القومية، فأعطي وظائف تتجاوز وظيفة الشعر. حتى راح من راح يبحث في الشعر عن كل شيء، تاريخنا الماضي والمستقبل الآتي. هذان العاملان وضعا الشعر في اللاتاريخ. لكن هناك ممن بقي من جيلنا أو الأجيال التالية التي عاشت انهيار هذا السحر، افتضاحه وزواله، من سعى لنقد هذا الوهم الكبير. فجرت بإزاء ذلك، عملية عكسية تتغيّا إعادة الشعر إلى الشعر ونزع السحرية عنه، فضلاً عن نزع رساليته العامة. وعلى ذلك يمكن القول، صار الشعر شيئاً آخر، صار فناً بالكاد يكفي نفسه. أما الشاعر فقد تحول إلى مجرد مراقب أو صاحب حرفة. وهو ما كفّ معه الشعر في المحصلة، عن ممارسة دور البطل أو عالم الملكوت المستقل.
تساءلت في أحد مقالاتك ‘’من هو الشيعي في لبنان؟’’ منتقداً احتكار حزب الله وأمل لتعريف الشيعة في لبنان. ماذا يعني السؤال اليوم عن من هو الشيعي أو من هو السني في ظل عودة الهويات القديمة إلى السطح وسيطرتها ليس على تعريف الشيعة فقط في لبنان إنما على تعريف العرب قاطبة؟
– يمكن وضع ذلك في الإطار التالي.. إن لدى العرب حالياً ملجأ واحد هو الملجأ الأيديولوجي. بمعنى آخر، حين يتحدث العربي اليوم عن ماضيه فإنه يتحدث عن ماضٍ غير موجود، لكن الأيديولوجيا تطرح إمكانية استعادته. من هنا تغدو ملجأ. أيضاً حين يتحدث العربي عن الوحدة، فهي الأخرى غير موجودة، لكن الأيديولوجيا تعمل على إشاعة وهم فوقي أن ذلك أمر ممكن. وعلى هذا فإن التمسك بالأيديولوجيا – وحتى بسرابها وبتاريخ مفقود إضافة إلى وحدة لاوجود لها – هو الشيء الوحيد الذي يحفظ للعرب صورة، فيما تتحطم كل الصورة المفترضة خارج ذلك. لهذا سبب فأنت ترى أن صدام حسين أو أسامة بن لادن شخص يمكن أن يأتي في أي لحظة بينما لا يؤثر مرور الزمن على أي شيء. وهو الأمر الذي يمكن إيعازه إلى أن هذه الصور المفترضة محفوظة وخالدة إلى حدّ كبير من دون أية صلة لها بالواقع أو التجربة. هي صور سبحانية تأخذ قيمتها من نفسها وليس لها أي مقابل تاريخي. عندما تقول للعربي إنك ‘’مغدور’’ فهذه الكلمة وحدها كافية لإثارة غريزته. ولا مرة سعى إلى أن يجد مقابلاً لهذه الكلمة، ذلك أن كلمة مغدور جزء من البنية الأيديولوجية خاصته. أيضاً عندما تقول له إن عليك أن ‘’تقاتل’’ تجده يهب إلى داعي القتال فوراً. ولا مرة حاول أن يسأل نفسه عن الحاجة إلى القتال. هذه الكلمة أيضاً جزء من البنية الأيديولوجية. إنه في حالة حداد قائمة استمراريتها على الرغبة في استرجاع شيء مفقود. قد يكون اسم المفقود هذا، ‘’الوحدة’’ التي لم تتحقق ولا مرة أو أي اسم آخر. ثمة دائماً شيء مفقود يسعى العربي إلى استعادته، فيما لا يمكن تحقيق هذه الاستعادة إلا بحرب. وهو ما يفسر أننا كنا دائماً مجتمعات عسكرية، على الأقل ثمة ما يدعو إلى العيش في وهم هذه الحالة. وكما ترى فإننا موجودون في وسط عالم من الصور الأيديولوجية التي لا تتزمّن أو تناقش، وهو الأمر الذي يعني إما بقاءها مهيمنة وإما عودتها المستمرة. ما جرى أو يجري حالياً على أكثر من ساحة هو بمثابة عملية عودة إلى هذه الصور. صورة انهيار الوحدة العربية (1958 – 1961) أو صورة نكسة حزيران (1967) أو صورة النهاية الشنيعة للثورة الفسلطينية. تجد أنها صور تتكرر باستمرار من دون أن تجري الاستفادة منها في أي شيء.
الديمقراطية في خدمة الديكتاتورية
كانت لك إشارة في أحد مقالاتك تحمل فيه الديمقراطية مسؤولية تحرير الهويات القديمة. وفي مقالات أخرى صرحت ‘’الديمقراطية ليست حلاً’’، ‘’الديمقراطية تعطيل للسياسة بدل إطلاقها’’، ‘’الديمقراطية من غير ديمقراطيين’’، ‘’الديمقراطية وفق النمط الميليشياوي’’ إلخ. ما تفسير كرهك للديمقراطية؟
– أحد مآخذي على الليبراليين هو تحولهم إلى دعاة للديمقراطية. أنا شخصياً لست كذلك، لست داعية ديمقراطية ولا أجد فيها حلاً. الديمقراطية اللبنانية منحة أعطيت للبنانيين وهي مبنية على التوازن فقط. أنا إن شئت، لا أجد نفسي متحمساً لهذا النموذج. المؤكد بالنسبة لي أن الديكتاتورية في العالم العربي ليس مردها خطأ سياسي، فالديكتاتورية هي الأيديولوجية العربية. تجد أن العرب حتى في البلدان الديمقراطية يفتقدون إلى عقل ديمقراطي. بل لدي موقف يذهب أبعد من ذلك، إن الديمقراطية كلمة تعميمها من أجل إفساح المجال أمام الديكتاتورية. وإلا ماذا يعني تسييس كل فئات الشعب أو جعل السياسة شعبوية. برأيي إن ذلك يحصل من أجل إعطاء قاعدة أكبر للديكتاتورية. بالتالي فإن الديمقراطية لم توجد في بلادنا إلا لخدمة الديكتاتورية، وهي كانت دائماً مرحلة مؤقتة من أجل عودة الديكتاتورية. وعلى ذلك فإن الموضوع لا يتعلق بالهويات فقط إنما بمشاكل أعقد.
تبدو فاقداً إلى أي أمل؟
– إنني أتحدث عن سبب عودة الشعبي الدائمة في رؤيا العرب بعامة. لم نستطع البتة أن نتجاوز كوننا قبائل باتجاه إنشاء مجتمع مدني في أي بلد عربي. إن الكلام عن عربي واحد أو أمة عربية مجرد وهم. حين تتكلم عن الغربي أو الأوروبي فأنت تتكلم عن بناء ثقافي وسياسي أدى إلى نشوء كيان اسمه الغرب أو أوروبا. العرب يفتقدون إلى شيء مشابه، فالعربي اللبناني غير العربي البحريني. بنظري إن ما يجري في لبنان حالياً سببه إمكانية أن يشذ لبنان عن هذه القاعدة ولقابليته في أن يتغير. إن النموذج اللبناني مؤهل دائماً إلى أن يتغير على أساس مختلف. وكلما سعى بهذا الاتجاه نشبت حرب أهلية.
«السفير الثقافي» ليس أنا
في ظل هذه الأجواء كانت لديك تجربة طويلة مع رئاسة ملحق ‘’السفير الثقافي’’. كيف اقتربت من هذه الموضوعات الإشكالية عبر الملحق وما نوعية الخطاب الذي كان مسيطراً عليه بين مرحلة وأخرى؟
– الملحق الثقافي ليس مجلة نظرية ولا حتى مدرسة أو اتجاهاً أو تياراً. الملحق صحيفة بالمعنى العلمي للصحيفة. بإزاء ذلك فأنت لا تعمل شيئاً سوى أن تعكس ما أمكن التنويعات الثقافية الموجودة. تستقبل كل الآراء، كل الإنتاجات، شريطة أن تكون على قدر من المستوى. الملحق ليس عباس بيضون. الصفحة الثقافية صفحة تجارية تملك كل المقومات التي تملكها الجريدة. الجريدة تقدم كل الآراء، تقدم المشهد السياسي وتترك لكل الأطراف أن تعبر عن نفسها. بالتالي فإن الصفحة الثقافية لا تعمل شيئاً آخر وليس منتظراً منها غير ذلك.
لكن في بعض الأحيان قد تكون شاعراً فتأخذ الصفحة الصبغة الشعرية، أو ناقداً أدبياً فتأخذ صبغة النقد الأدبي، وقس على ذلك. ألم يكن لك بصمات على الصفحة عكست عبرها طبيعة خطابك؟
– لا أدعي أنني في الملحق أعمل شيئاً من هذا القبيل. ربما كنت ناشطاً أو متحمساً في المجال الثقافي لكن النشاط والحماس هذين لايتعديان النبش في القضايا أو استقبال السجالات والآراء المختلفة حين يتعلق الأمر بالصفحة الثقافية. إنني أحاول أن أترك لكل الآراء كما كل أنواع الإنتاج الأدبي والثقافي أن تعبر عن نفسها من خلال الصفحة. أعطيك مثالاً هنا، حتى القصيدة العمودية أنا دائم البحث عن قصيدة جيدة لكي أنشرها. كما أنني دائم البحث عن قصيدة التفعيلة. برأيي إنه لايحق للصحافي أن يأخذ موقفاً ضد أي نمط إبداعي، بما في ذلك القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة.
هل تحاول من خلال ذلك أن تدفع عن نفسك تهمة؟
– لا أبداً، لا أحتاج لدفع أية تهمة. بنظري إن على الصحافي أن يعبر عن الموجودات وعن عناصر الحياة الثقافية ما أمكن، مع تنوعها وحتى مع عدم الاتفاق معها. في حين الشيء الوحيد الذي يتبقى لك شخصياً هو تقرير المستوى.
أنا وعدة من نفرٍ آخرين
لكن خطابك يختلف عن خطاب ‘’السفير’’ في المطلق. على الأقل دعنا نقول الخطاب ذاك الذي تعبر من خلاله عن موقفك من طبيعة الصراع الحاصل في لبنان اليوم؟
– هذا الأمر لا يقتصر علي فقط، فلست الوحيد. هناك عدد من المحررين في الجريدة يقفون في الموقع المقابل من الخطاب العام للجريدة وفي مستوى ثانٍ من خطاب حزب الله. وهؤلاء من أعمار مختلفة لكن تجاربهم السياسية انتهت بهم عند هذا المطاف. إنهم يشكلون عدداً لا بأس به، وهم في الناتج يمنحون الجريدة قدراً من التنوع والاختلاف.
لو طلبنا منك عقد مقارنة بين ملحق ‘’السفير’’ وملحق ‘’النهار’’ بإشراف زميلتك جمانة حداد. كيف تجد المقارنة؟
– لا أعرف، لست أنا من يتوجب عليه أن يعقد المقارنة أو حتى يُعتمد عليه في ذلك. القارئ وحده من يستطيع عمل هذا الشيء. لكن بطبيعة الحال، كل من الملحقين أسس لتقاليد معينة. إلى هنا وأكتفي من دون أن أجد أي داعٍ للمقارنة أو المباهاة. أنا مجرد صحافي، والملحق الثقافي ليس أنا. إنه ملحق موجود في جريدة تخاطب كل الناس، بالتالي فهو الآخر أيضاً ملحق يخاطب كل الناس. ألفت هنا إلى أن ملحق ‘’السفير’’ ليس ملحقاً بالمعنى الدقيق للملحق، هو إن شئت جزء من الجريدة اسمه ‘’السفير الثقافي’’. في حين ملحق ‘’النهار’’ مستقل ويشكل لوحده نوعاً من المجلة المستقلة التابعة للجريدة. وبما أنه كذلك فما من شك يستوجب أن يكون متوفراً على جهاز إداري، في حين ‘’السفير الثقافي’’ مجرد ملحق أسبوعي من 4 صفحات. وهو الأمر الذي يعني أنه لا يوجد مجال للمقارنة.
لكن هل يعني شيئاً مثلاً بالنسبة إلى المثقفين اللبنانيين حين يقومون بنشر نص أو مقال في ‘’السفير’’ بدلاً من نشره في ‘’النهار’’؟
– لا أبداً فالنشر متاح لهم في ‘’السفير’’ و’’النهار’’ وفي بقية الصحف الأخرى. لا يوجد حق حصري ولا يعد نشرهم شيئاً في الصحيفة هذه أو تلك دليلاً على أي شيء
موقف واضح.. وقديم
حسناً، بالثقافة.. كيف تقارب اللحظة المشهدية الحاصلة في لبنان الآن. كيف ترى إلى أفق الانسداد المستحكم من وضعيتك كمثقف؟
– هذا سؤال سياسي.
لنقل إنه سؤال سوسيو – ثقافي نابع من كونك في الأصل تكتب مقالاً سوسيو – ثقافي أسبوعياً من خلال منبر ‘’السفير’’. إضافة إلى أنك تملك إرثاً سياسياً جاور الشعري في بعض الفترات وقد تمثل ذلك في عبورك على الورشتين البعثية فاليسارية؟
– نعم، هذا قديم جداً. لكن أقول هنا إن لدي موقفاً قديماً وليس غامضاً. لقد عبرت عنه باستمرار من خلال مقالاتي ويعرفني الناس من خلاله. أنا أحد نقاد حزب الله بصورة خاصة.
على ماذا يرتكز هذا النقد تحديداً أو ما هي مواضيعه. هل فقط على ما سبق وأن كتبت على وضعية احتكار حزب الله لتمثيل الشخصية الشيعية أم أن ثمة مرتكزات أخرى يمكن سوقها بهذا الصدد؟
– لا، ليست هذه كل القصة. أشير أولاً إلى أن كوني مولوداً شيعياً لا يعني أنني أطالب بحق شخصي. كما لا أقول بعدم أحقية حزب الله في تمثيل الشيعة في لبنان. فهو وإن لم يكن يمثل الشيعة فعلى الأقل هو يمثل جوهم العام. أنا فقط أضع هذا التمثيل موضع تساؤل. لكن إن شئت، فذلك لا يعبر عن جوهر خلافي معه. خلافي الحقيقي نابع من رؤيتي إلى مستقبل لبنان وربما إلى وجوده. وهو الأمر الذي يجعل من الاختلاف شيئاً ضرورياً لا غنى عنه. فحين يتعلق الأمر بمستقبل البلد، أو بوجوده، فهنا يغدو الموقف السياسي نوعاً من الالتزام، أي لا يمكن التخلي عنه أو تجاوزه. ضمن هذا التوصيف أشير إلى أن الخيارين المطروحين على لبنان حالياً ضمن أجواء الصراع، هما أن يكون لبنان دولة ثورية مارقة حاملة لواء مواجهة الإمبريالية حالها حال كوريا الشمالية أو إيران وسوريا وفنزويلا، أو يكون دولة طبيعية مثل أي دولة من دول الأسرة الدولية لديها التزاماتها العامة حيال حالتي الحرب والسلم وحتى حيال السلام مع إسرائيل. بعد 30 سنة من الحروب المتواصلة أجد نفسي نابذاً لفكرة الحرب، بصراحة لم تعد تروق لي. ثمة مشروعان في المنطقة، مشروع الحرب المستمرة وثمة المشروع السلمي. إن شئت فأنا مع المشروع الأخير وضد الحروب المستمرة. إن هذا هو موقفي بعد تبسيطه. برأيي، إن الحرب المستمرة فكرة مخيفة تماماً، بل خرافية في أي مكان وجدت. وبالنسبة إلى حزب الله فهو حزب جنود. والجنود وظيفتهم الأولى والأخيرة هي القتال. قد ينخرطون في الحياة المدينة قليلاً أو كثيراً لكن عملهم الفعلي هو القتال. وحين لايقاتلون يلجأون إلى تقسيم المجتمع ووضعه على حافة حرب أهلية. بالنسبة لي، كل تسييس للدين هو مشروع حرب أهلية، أكان ذلك في لبنان أو غيرها، الآن أو لاحقاً. في الحقيقة، إن ذلك ما هو حاصل في العراق وفي فلسطين أيضاً. تسييس الدين لا يؤدي إلى مكان آخر غير الحرب الأهلية. هم (حزب الله) يريدون الحرب الأهلية؟. حسناً، إنهم أحرار في ذلك لكن أنا شخصياً ضد هذه الحرب. مشكلة المشروع الثوري في كل العالم أنه لا يحسب حساب الواقع. فيما الواقع اللبناني لا يتحمل هذا المشروع المقترح عليه، إلا حين يكون المطلوب هو تدميره.. تدمير المجتمع والدولة وكل شيء. شخصياً، فأنا لست مع تدمير لبنان، تلك هي كل القصة.
سيّان مدحت على الهوية أو قتلت!
ما تعليقك على قيام أحد الزعماء السياسيين بتوظيف موقفك في سياق المغالبة الحاصلة بين الفرقاء السياسيين عبر الإشارة إلى كونه يصدر عن مثقف شيعي؟
– لقد نشرت مقالاً رددت فيه على (رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي) وليد جنبلاط. قلت بالحرف الواحد.. إن المدح على الهوية مثل القتل على الهوية تماماً، ولا يوجد أي فرق. بل قلت أكثر من ذلك.. لقد انشققنا على الجماعة منذ نعومة أظفارنا أنا وآخرون ليس من أجل أن يأتي أحد بعد كل هذه السنوات ليتذكر عنا ذلك. إنما انشققنا بسبب أن عندنا رؤية كانت تخاطب المستقبل. لذلك تجد مثلاً أن نقاد حزب الله الرئيسين كلهم من مثقفي ومفكري الشيعة. ليس أنا فقط إنما وضاح شرارة وأحمد بيضون وعلي حرب وحسن قبيسي وآخرون كثر. لكن ألفت هنا بالمناسبة إلى أن موقفي من حزب الله لا يعني أنني مع الفريق الآخر. طالما سخرت في كتاباتي من 14 آذار بسبب أنها جماعة تقليدية. حزب الله عبارة عن حزب ثوري والطريقة التي يفكر فيها استراتيجية. في حين الفريق الآخر عبارة عن جماعة تقليدية، زعماء طوائف ليست لديهم أية فكرة عن نموذج. يكذبون حين يقولون إنهم يتطلعون إلى صناعة دولة. إنهم بلا خيال حتى… ومشروعهم سخيف، لكن الفرق بينهم وبين حزب الله هو أن لدى هؤلاء مشروعاً سلمياً. هنا تحديداً ربما تجدني ألتقي معهم. خصوصاً مع عدم وجود خيار ثالث. بالمناسبة أنا أنتقد باستمرار الذين يتحدثون عن طريق ثالث، خاصة حين يكون البلد مهدداً. ثمة شعور لدي أن هناك مشروعاً تدميرياً للبلد، وكائنة ما كانت النوايا فأنا أعتقد أن تحميل البلد أعباء من دون أن يكون مستطيعاً تحمل تبعاتها، فهذا لا يعني شيئاً سوى تدميره. أنا أعتقد أن هذا البلد يستحق أن يستقر وينمو. ليس لأنني لبناني فقط، فأنا لست وطنياً، أي ليست لدي أية عصبية وطنية. إنما أولاً لأن هذا البلد ضعيف وثمة من يعمل على التواطؤ عليه، بالتالي فأنا من موقع أخلاقي أتعاطف معه. أصلاً أنا كل مواقفي نابعة من أخلاقيات أكثر مما هي نابعة من السياسة، فأنا لست معلقاً سياسياً أو أعمل على تظهير توقعات سياسية. ثانياً، لأنني أرى أن هذا البلد يدفع ضريبة محاولته أن يتقدم إلى الأمام ويكون مختلفاً. ثمة استعداد كامن في هذا البلد إلى أن يصبح حديثاً. تجد أنه بلد تتقاطع على حدوده ثلاث لغات، أقل الطبقات الاجتماعية ثقافة تتحدث بأكثر من لغة. كما تجد احتراماً لحريات الناس الفردية وللحب الحر، فضلاً عن تفتت القبيلة ووجود ملامح أولى لنشأة مجتمع. هذا البلد كان يسير في هذا الاتجاه. وتدميره برأيي هو بمثابة عقاب له لكن في حال نجح هذا التدمير فإنه سيصيب كل المنطقة.