ورقة افتتاحية لحلقة نقاش حول ما بعد الحداثة بأسرة الأدباء والكتاب في 21يوليو2008
ما بعد الحداثة، حمّالة أوجه وحمالة حطب.وجوه معانيها متعددة ووجوه تطبيقاتها متعددة ووجوه تجلياتها متعددة، لذلك هي حمّالة أوجه. وهي حماّلة حطب، في إشارة إلى أم جميل زوجة أبي لهب التي كانت تحمل الحطب وتحرقه أمام بيت النبي، لتهدد الدعوة النبوية التي كانت تبشر بمركز معنى جديد للإنسان.
مفكرو يوم القيامة
ما بعد الحداثة، أحرقت بحطبها كل المركزيات والثوابت ومعايير تمييز الأشياء والحضورات المتعالية وأعلنت نهاية الدعوات السماوية والأرضية، من أديان وأيديولوجيات وفلسفات مثالية، حتى صار مفكروها يسمون بمفكري يوم القيامة، فهو لا يكفون عن إعلان النهايات، نهاية الإله ونهاية الإنسان ونهاية العقلانية ونهاية الحداثة ونهاية التاريخ ونهاية المركز.
لقد أحرقت ما بعد الحداثة المدلول، لم يعد الدال يحيل إلى مدلول أو يتطابق معه، لقد غدا الدال منفصلا ومستقلا وحراً ومختلفاً ومرجأ. وكي نوضح ذلك، علينا أن نتذكر أن العلامة تتكون من ثلاثة مكونات: الدال (الكلمة) والمدلول (المعنى) والمرجع (الواقع).
ذهب سوسير إن نظام اللغة يتكون من علامات، والدوال علاقتها بالمدلولات اعتباطية. فالكتاب (دال) اعتباطي، ليس هناك علاقة سببية أو طبيعية تجعلنا نطلق هذه الكلمة على الكتاب، وكان يمكن أن نسميه قلم، هكذا تتكون اللغة من دوال مختلفة كي تستحضر مدلولات مختلفة. وهي بهذه الطريقة تستحضر الأشياء التي في الواقع (المرجع).
محو الشيء
الدوال ليست مرتبطة بهذه الأشياء التي في الواقع ارتباطاً سببيا وهي ليست موقوفة على الواقع، لذلك الدوال في حل من هذه الأشياء التي في الخارج، ويمكن لهذه الدوال أن تقيم بين بعضها علاقات متحررة من أي مرجع خارج اللغة. من هذه العلاقات يمكنها أن تنشئ واقعاً جديدا، تسميه بطريقتها التي تريدها وترغب فيها.من غير أن تستند إلى شيء خارجها (إله، عقل، واقع، ثابت، مركز، مرجع) يعطيها المشروعية.
سوسير محا فكرة الشيء (المرجع) وأحل محله فكرة العلاقات. والعلاقات ليست لها مركز واضح، إنها مجرد روابط اختلافية. هناك مسافة بين الدال والمدلول، تأخذ شكل ”ثغرة أو هيمنة أو عمل تحكمي”.
يشير مصطفى ناصف في قراءته إلى ما بعد الحداثة إلى ما أحدثته من تحول في البلاغة، فقد قامت البلاغة التقليدية على فكرة القصد ووحدة الجهة والثقة بمعرفة شيء متميز تماما، وقامت البلاغة المعاصرة على ملاحقة ما يسميه نيتشه جيشا متحركا من الاستعارات والكنايات والتجسيمات، حتى أصبحت كلمة اللغة يراد بها أحيانا فكرة الصورة.
ما بعد الحداثة هي، الانتقال من فكرة المعنى الثابت المتميز والبيان والمدلول والعقل والمنطق إلى المتداخل والعلامة والتشكيل والسطوة والدال والرغبة والتأثير[1].
القوة التي تهيمن تصيّر هذه المسافة بين الدال والمدلول لصالحها، هكذا تصير الأشياء في حالة صيرورة (تغير) مستمر، وفق ما يريده القوي، الخطاب الذي يستخدم الحق (الدال) لا يحيل إلى الحق ولا إلى العقل ولا إلى الرب، بل يحيل إلى ما يريده القوي والمهمين حقاً.
واللون الدال على الجميل، لا يحيل إلى قيم مطلقة تمثل الجمال العقلاني أو الإنساني أو الرباني، بل يحيل إلى ما يراه القوي جميلاً، هكذا الموضة يصنعها من يملك قوة التحكم في السوق وساحات التداول.
دوال الاستهلاك
يشير عبدالوهاب المسيري في قراءته لما بعد الحداثة إلى أن هناك مجموعة من الثنائيات الأساسية: الإنتاج مقابل الاستهلاك، المنفعة -البرانية- مقابل اللذة -الجسدية-، التحكم والإرجاء مقابل الانفلات والإشباع المباشر، التراكم مقابل التبديد والإنفاق، الدولة مقابل السوق.
والطرف الأول من الثنائية (الإنتاج والمنفعة والتحكم والإرجاء والتراكم والدولة) يفترض وجود مركز للكون (إنساني أو طبيعي). حين يسود هذا الطرف من الثنائية فإننا ندخل عالم الحداثة.
أما الطرف الثاني من الثنائية (الاستهلاك واللذة والانفلات والإشباع المباشر والتبديد والسوق) فيفترض انعدام الحدود وغياب المركز. ومن ثم تتساوى كل الأشياء، وهذا هو عالم ما بعد الحداثة السائلة [2].
على مستوى الإبداع، لم يعد الأدب خاضعاً إلى تقاليد تسبقه أو شعرية تحدد معاييره أو ملتزماً بأيدلوجيا يتطابق معها، لم يعد ملتزما حتى بالمتلقي، هو يمثل نفسه، هو لا يدل على شيء خارجه. والخطاب السياسي كذلك ليس محكوماً بمنظومة عقلانية أو حقوقية أو إنسانية، كما بشّر بذلك عصر الأنوار، حتى عقلانية عصر الأنوار لم تعد مرجعية. ثمة محو للثنائيات والمسافات وسد للثغرات بين الجسد والروح والسماء والأرض والعقل والخيال والأنوثة والذكورة والدال والمدلول، صرنا أمام دالٍ ابتلع مدلوله، كما يقول المسيري.
التطهر من الميتافيزيقا
سوسير لم يلغ تماماً العلاقة بين الدال والمدلول، كذلك البنيويون، لذلك يتهمهم أنصار ما بعد الحداثة بأنهم مازالوا ملوثين بالميتافيزيقا (كل ما يتصل بالمثاليات والعقلانيات والإلهيات)، أي مازالت العلاقة بين الدال والمدلول قادرة على التواصل وإنتاج معنى. ما فعلته ما بعد الحداثة، هو أنها ألغت هذه العلاقة، فصار الدال يحيل إلى دال آخر لا إلى مدلول، هكذا صارت الإحالة لعبة دوال حرة، ليس هناك مركز يلزمك بالإشارة إليه. فمعنى النص يحيل إلى نص آخر ومعنى الكلمة يحيل إلى كلمة أخرى، لا توجد إحالة إلى شيء بالخارج، لا يوجد شيء خارج النص. دوال مثل الإله الإنسان العقل، لم تعد تحيل إلى نسق ثابت يقع خارج الإنسان، صارت مدلولات هذه الكلمات تحل في الإنسان نفسه، ومصطلح الأسرة الذي كان يشير إلى امرأة ورجل وأطفالهما فقد مدلوله، إذ أصبح يشير إلى أي ترتيب مستمر أو موقت بين أي عدد من البشر من أي جنس: ذكورا كانوا أم إناثا أم من المخنثين. الأسرة مثل أي نص ما بعد حداثي، منفتحة تماما وهي تجمل عددا من المعاني يجعلها أقرب إلى اللامعنى. كذلك دوال الحب والأنثى والجنس، وهذه يرصدها المسيري بدقة في نقده للحداثة.
نسيان أسماء آدم
يمكن القول (ما بعد الحداثة) هي لحظة نسيان الأسماء التي علّمها الإله لآدم.هي لحظة تحرر من معاني هذه الأسماء التي علمها الربّ، ولحظة تحرر من معاني الأسماء التي علمتها الأيديولوجيات والفلسفات المثالية والعقلانيات للإنسان. ما بعد الحداثة أسماء من غير علم (مدلول).
في دفاع الفيلسوف أبوليوس في مدينة صبراته عن نفسه ضد تهمة السحر التي وجهت له بسبب تزوجه من أرملة ثرية بعد أن رفضت كثيرا من الرجال، كان أبوليوس، يقول في قاعة المحكمة ”هل ثمة أمر أسخف من أن تستنتج من تشابه الأسماء تشابه معنى الأشياء؟”[3]
إنه يشير إلى لعبة الدال والمدلول التي استخدمها خضمه ضده، ما دمنا قادرين على إحداث التشابها والاختلافات فنحن قادرين على اللعب بالأشياء ومعانيها، وإذا كانت قوة خطاب أبوليوس مكنته من فضح هذه اللعبة، والدفاع عن حقيقته، فإن الجمهور الواقع تحت سيل من ألعاب الدوال لا يمكنه أن يكتشف سحر هذه الألعاب، وهي تشكل واقع الأشياء والعالم، إنه لا يملك غير خيار استهلاك هذا السحر بواقعية مفرطة الخيال.
قوة الوقف
كانت مهمة الحداثة كشف الحقيقة التي استمات أبوليوس في إثابتها باسم العقل، أما مهمة ما بعد الحداثة فهي التبرير لإرادة القوة والاستجابة لواقع غلبتها وهيمنتها، والتكيف مع الواقع الذي تخلقه. صارت القوة وإرادتها العمياء، إذ ليس لديها عيون تركز بها وفيها أو ترجع إليها، صارت هذه القوة تُوقف الدوال، كما كانت القوة الإلهية توقف الدوال على معانٍ ثابتة تعلمها للإنسان، كي يستقر بها. من يوقف الدوال (اللغة) يهيمن على الواقع. ما بعد الحداثة أوقفت الدوال عن أن تكون تابعاً لمركز أو معنى أو مدلول سابق. صارت القوة هي التي تنشئ الواقع والعوالم ولا حقيقة خارج إنشائها. لقد تحولت فلسفة اللغة من فلسفة صدق وكذب ومطابق للواقع وغير مطابق للواقع إلى ”فلسفة مجازات واستعارات أو تخيلات. نحن أمام دوال لا أمام مدلولات. لقد أزحنا كلمة الواقع أو كلمة المرجع”[4].
لـــذلك نجد إدوارد سعيد يــــوصي بأن نضـــع النــص في الدنيا بدلا أن نضعه في عالم مثل غامضة وأحلام نقية وان نقـــرأه قراءة سياسية. لايمكننا أن نقرأ الخطابات التي تتحدث عن الإرهاب والطائفية والمواطنة وحقوق الإنسان، وكأنها أسماء آدم التي أوقف الله معانيها في الجنة على الحق والصدق والواقع، بل هي دوال في الدنيا ومعانيها ملوثة بالتفاحة التي هبطت بنا إلى هذا العالم.
جذمور ما بعد الحداثة
من أكثر المجازات دلالة على ما بعد الحداثة، مجاز الجذمور Rhizome، الجذمور ساق أرضية تشبه الجذر أحيانا. يكون الجذمور أفقياً وفي نفس مستوى الأرض تقريبا مثل جذمور السوسن أو أعمق بكثير مثل جذمور اللبلاب أو البطاطس.
يشير هذا المجاز عند دولوز[5] إلى ضرورة التخلص من نزعة البحث عن الجذور أو العودة إلى الأصول أو لحظة الميلاد الأولى (الجذر – البذرة)، وكذلك يشير إلى التخلص من الولع بالوصول إلى النهايات وتحقيق الغايات (الثمرة – البذرة) [6] ولهذا كانت حملته على ولع هيدجر ببواكير الفكر اليوناني وفي نفس الوقت حملته على تبني الفلاسفة الفرنسيين للمقولة الهيجيلية حول نهاية الفلسفة. والجذمور أيضا تلخيص لشعاره ”فلنبدأ من الوسط” ويتميز الجذمور عن الشجرة وعن البذرة وعن الجذر في أنه يحقق ثلاثة شروط أساسية وهي:الاتصال والغيرية والتعددية التي لا تميل لأصل يجمعها. ويرى دولوز أن اللغات كلها قد تكونت طبقا لهذه الآلية.
عندما نتصور الفكر مع صورة الجذمور فإن هذه الصورة تكسب الفكر ديناميكية وقدرة على التوليد. وتتبدى الملامح السياسية لفكرة الجذمور في هذا النداء الذي يوجهه دولوز لكل الطامحين في تحرير رغباتهم :”كونوا جذامير ولا تكونوا جذوراً، الشجرة نسب أما الجذمور فهو خلف، الشجرة تفرض فعل الكينونة بين الموضوع والمحمول أما الجذمور فيفترض حرف العطف.
لا داعي للبدء في شيء أو الانتهاء منه، فقط يحسن الخروج والدخول. إن الوسط ليس نقطة بين طرفيه ولكنه اتجاه عمودي وحركة اختراقية تأخذ الطرفين في غمارها”.
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=123761
الهوامش
[1] انظر: بعد الحداثة صوت وصدى، مصطفى ناصف، ص16 وما بعدها.
[2] انظر: عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
[3] أبوليوس، دفاع صبراته، ترجمة علي فهمي خشيم، ص.108
[4] بعد الحداثة صوت وصدى، مصطفى ناصف، ص.22
[5] عن مجاز الجذمور، انظر:
– أنور مغيث، سياسات الرغبة دراسة فلسفة دولوز السياسية.
– جان جاك لوسركل،عنف اللغة، ص.251
-عبدالوهاب المسيري، اللغة والمجاز، ص.45
[6] ربما كانت البذور والجذور والثمار في عنوان سيرة المسيري ”رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية” معبراً ببلاغة عن معارضته ونقده لما بعد الحداثة.
– الورقة عبارة عن ورقة افتتاحية لحلقة نقاش حول ما بعد الحداثة بأسرة الأدباء والكتاب في 21يوليو2008
عندما قرأت ورقتك انتابني شعور طالما أحدث لي هواجس ومخاوف وقلق، لم أعد أرجع عندما أفكر أو أتجه إلى مركز.
فوجدت نفسي معلقا بين الأرض والسماء لا أنا إلى هذا ولا إلى ذاك، ولا يخفى على شعور أي إنسان إذا كان واعيا أنا هذه الصورة لا تمثل إلا انقراضا إلى الهوية والمرجع.
فهل الإنسان عبر كل آفاقه المعرفية والفكرية وآلياته السلوكية يستطيع أن يمارس الحياة بكل تفاصيلها وتعرجاتها وتجلياتها بلا مركز ؟ ؟
أنتظرك بفارغ الصبر
جاو
مرحبا بك سيد شهريار،
بالمطلق، لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا مركز، لكن نقد فكرة المركز، الغرض منها تخفيف سلطة المركز على فكرنا وسلوكنا ومعرفتنا ورؤيتنا. إنه نقد يهدف إلى إقامة مسافة حرة بيننا وبين المركز، كي نعيش برحابة أكثر.
من جانب آخر، تخفيف سلطة المركز يتيح لك أن تقيم علاقات متعددة مع مراكز متعددة. وهذا لا يمكن أن يكون إذا ما ظل المركز صلبا وخارج النقد..
تحياتي لك