في حوار الوقت مع محمد عبدالقادر الجاسم: «1-3»
الاستقواء بالقبيلة والدينيين لمواجهة حركات التحرر الليبرالي .. والأثمان باهظة
يرى أن الدستور هو تقنين لواقع المجتمع، لذلك لابد أن نرجع إلى أصل الدولة وأصل العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية قبل وضع نصوصه. ويجد أن هناك صراعاً دائماً بين مشروع الدولة الديمقراطية في الكويت وبين مشروع الحكم القائم على توارث الإمارة. وأن تعاظم القوة الدينية في الكويت يعود إلى استقواء الحكومة بها وبالقبيلة لضرب حركات التحرر الليبرالي التي نشطت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وأن أثمان هذا الاستقواء باتت باهظة لتيار يطلب ويطلب ولا يعطي. المحامي محمد عبدالقادر الجاسم، رئيس تحرير صحيفة «الوطن» الكويتية سابقاً، ومقدم برنامج «مجلس» في قناة «الحرة» سابقاً أيضاً، ومسؤول موقع «جسر المعرفة» حالياً، وهو مشروع ثقافي متخصص في القانون، حيث يحتوي على ترجمة مجانية لمجموعة من قرارات هيئات قضائية فرنسية هي المجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة ومحكمة النقض، إضافة إلى بعض قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
الحوار مع خلفيات الجاسم السياسية والقانونية، فتح إشكالات متعمقة بشأن ما سبق، وبشأن جوانب أخرى يبدو بعضها شديد التقارب مع الأوضاع السياسية الخليجية الأخرى، ويبدو بعضها الآخر أكثر تمايزاً..
* سأحاول تلخيص فكرة كتابك «روح الدستور» وأتمنى أن يكون قريباً من روح الكتاب. اعتمدت في هذا الكتاب على الرجوع إلى المجتمع الكويتي، الذي كان مجموعة من العائلات المهاجرة تراضت فيما بينها على تنصيب أو انتخاب أحد أفرادها ليكون حاكماً. وقع الاختيار على أحد أفراد عائلة آل صباح. في البداية، لم تكن الأمور تبلورت أن يكون الحكم وراثياً في هذه العائلة. كانت السلطة تعتمد على روح التشاور والاتفاق والتفويض من قبل جماعات العائلات المهاجرة التي شكلت المجتمع القديم كما سميته، من دون استفراد ومن دون قهر ومن دون غلبة.
سؤالي هو، ما السبب الذي يدفعك اليوم إلى التذكير بهذه الروح في قراءتك للدستور الكويتي. ما الذي يجعل محامياً يفتح ملف الروح لا ملف القانون، خصوصاً أننا قد اعتدنا أن يذكرنا المحامون بالقوانين لا بروحها؟
– النصوص الدستورية لا يمكن أن تقبل كنصوص جامدة. نصوص الدستور في أي دولة، هي في الغالب تقنين لواقع المجتمع مع التطلع للمستقبل. الدساتير التي تُزرع في تربة غير صالحة، لا يمكن أن تؤتي ثمارها. الدستور وثيقة ذات مضمون سياسي واقتصادي واجتماعي، لابد من وجود واقع سابق لهذه النصوص. من يضع الدستور يستلهم فلسفة الدولة القديمة أو المجمع القديم، ليرسم ملامح المجتمع الجديد. لذلك لكي نفهم الدساتير، لابد أن نرجع إلى المجتمع القديم، إلى أصل الدولة وأصل العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن خلالها نستطيع أن نفهم الدستور ونحكم أيضاً على مدى توافق هذه النصوص الدستورية مع واقع المجتمع، وبالتالي مدى صلاحيتها في تنظيم هذا المجتمع. الرجوع إلى المجتمع القديم هو أساس لفهم النصوص الدستورية، خصوصاً في مجتمع هادئ مثل المجتمع الكويتي لم يشهد انقلابات ولا ثورات ولا تكتلاً جذرياً في العلاقات السياسية.
* لاحظت في محاولتك لتفسير مواد هذه النصوص، أن المادة الرابعة التي تنص على أن «الكويت إمارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح..» قد استغرقت معظم صفحات كتاب «روح الدستور» (من صفحة 171 إلى صفحة 337)، هل تجد أن هذه المادة تشكل قلب الدستور أم أنها تمثل إشكالاً محورياً في الدستور الكويتي؟
– الإطالة في شرح هذه المادة يرتبط بشرح عشر مواد أخرى وردت في قانون توارث الإمارة. المادة (4) تشير إلى قانون توارث الإمارة، فكنت مضطراً إلى شرح جميع نصوص توارث الإمارة وهي 9 مواد.
قلب الدستور .. أم إشكال محوري
* ماذا تشكل المادة (4)، هل هي قلب الدستور؟
– قلب الدستور هو المادة (4) والمادة (6). وربما أنا أشرت في الكتاب، إلى أن التسلسل الأمثل لمواد الدستور هو أن تأتي المادة 6 في موضع المادة 4 ثم تأتي المادة 4 في موضع المادة .5 الدستور الكويتي حاول أن يقيم نظاماً فريداً حين قال في المادة 6 إن نظام الحكم ديمقراطي السيادة فيه للأمة مصدر القوة، وفي الوقت نفسه في المادة 4 يشير الدستور إلى أن زمام الحكم أو الحكم في ذرية مبارك آل صباح. التوفيق بين الديمقراطية وسيادة الأمة والحكم الوراثي صعب جداً. كي تخلق نظام حكم يعطي كل ذي حق حقه، يعطي الأمة حقها بأن تحكم نفسها وتعطي الأسرة الحاكمة حقها التاريخي بالقيام بدور ما في إدارة الدولة.
* هذا الترتيب الذي تراه أنت الآن ربما تفرضه متغيرات حدثت لاحقاً في الحياة السياسية الكويتية، وربما لم تكن حاضرة في لحظة وضع الدستور. هل تجد هناك متغيرات تفرض إعادة هذا الترتيب؟
– المتغيرات واقعية لا تستدعي أي تعديلات في الدستور. عندما وضع الدستور كانت الأسرة الحاكمة تضم العديد من الشخصيات ذات الخبرة السياسية. كما كانت العلاقات داخل الأسرة الحاكمة متوازنة، باعتبار أن هذه الأسرة لها فروع. من الطبيعي أن يكون هناك تنافس وتوازن في الوقت نفسه. المتغير الآن أن معادلة الفروع انتهت بحكم النهاية الطبيعية للأشخاص، في الوقت نفسه من الواضح أن الأسرة الحاكمة لم تعد تضم شخصيات قادرة على إدارة الدولة، أو مواصلة النهج القديم في الحكم، أو الحفاظ على التوازن السياسي في البلد. هناك نقص شديد في معيار الكفاءة ، هذا النقص لا يتطلب معالجته بتعديل الدستور، وإنما يتطلب تحسين أداء الأسرة الحاكمة ذاتها. يعني الإشكال السياسي القائم اليوم في الكويت يتلخص في سؤال يتردد عن أنه حتى لو تم تغيير رئيس الوزراء فمن هو البديل؟ لا يوجد.
لماذا لا يوجد؟ يبدو أن الأسرة الحاكمة أو ذرية مبارك تحديداً، لديها نقص عددي ونقص في الكفاءة. نحن حين نتكلم عن البديل نتكلم عن بديل يحمل رؤية لا عن شخص مكان آخر. هناك مطالبات كثيرة ع لنية بضرورة استقالة رئيس الوزراء الحالي أو إقالته، وأنا كتبت مقالاً شديداً أثير فيه إشكال البديل.
كيف حدث الفصل بين مشروع الحكم والدولة؟
* أشرت في كتابك «شيوخنا الأعزاء» إلى أن روح الدستور الكويتي استطاعت بحكمتها أن تدمج مشروع الحكم في مشروع الدولة، ولكن يبدو أن المتغيرات السياسية في الواقع لم تستطع أن تدمج مشروع الحكم في مشروع الدولة، وهذا ما يفسر استمرار الأزمات في الحكومة والبرلمان وفي الحياة السياسية. كيف حدث هذا الفصل بين مشروع الحكم ومشروع الدولة؟
– فصلت الأسرة الحاكمة مشروع الحكم عن مشروع الدولة بعد وفاة عبدالله السالم. تعاملت مع مشروع الحكم بإدارة مستقلة وبتعارض مع مشروع الدولة. تعرضت الممارسة الديمقراطية في الكويت إلى نكسات عدة، كانت الأولى العام 1965 مباشرة بعد وفاة عبدالله السالم. عندما تمكنت الحكومة بشكل أو بآخر من إصدار مجموعة من القوانين المقيدة للحريات، ثم جاءت مسألة تزوير الانتخابات في العام ,1967 ثم حل مجلس الأمة سنة ,1976 وحل مجلس الأمة سنة .1986 هذه الأمور مثلت تصادماً بين مشروع الحكم ومشروع الدولة بعد انفصاله. الآن ربما أتيحت ظروف لإعادة الاندماج، إلا أن مشروع الحكم لايزال منفصلاً عن الدولة، ولايزال أنصار مشروع الحكم يرون أن هذا المشروع يتعارض مع مشروع الدولة الديمقراطية، لذلك لاتزال الكويت تراوح مكانها لا تتقدم؛ لأن الصراع قائم بين المادة 4 والمادة 6 رغم أن الدستور حاول الدمج بينهما. مع الأسف، نحن ندعو دائماً إلى عودة مشروع الحكم للاندماج بمشروع الدولة، وأن يكون للحكم وللدولة هدف واحد. نحن دولة بلا هدف وفي حالة صراع بين هذين المشروعين.
هناك خلط دائم بين الحرية والديمقراطية
* ما الذي يجعل الديمقراطية الكويتية نموذجاً يضرب به المثل، ويتمنى الكثيرون استيراده؟
– لن نقول الديمقراطية الكويتية، بل الممارسة البرلمانية الكويتية وأجواء الحرية، إذ كون ذلك يشكل ديمقراطية عند البعض ربما محل خلاف. الممارسة البرلمانية في الكويت ربما تترك انطباعات سلبية في الخارج؛ لأنها ممارسة غير ناضجة، خصوصاً في السنوات الأخيرة. أجواء الحرية في الكويت هي التي تلفت الأنظار، وهي التي ربما تحسد عليها، أجواء الحرية في الكويت سقفها مرتفع، وفي تقديري تكاد تكون الأعلى في الدول العربية، خصوصاً في السنوات الثلاثة الماضية. لايزال في الصحافة في الكويت من يطالب بالتخلص من مجلس الأمة نهائياً، وبالتالي الحرية بالكويت هي التي تلفت النظر. أما التجربة البرلمانية، فتوجد فيها سلبيات كبيرة، إضافة إلى ذلك أنا لست من أنصار تعميم النماذج؛ لأن لكل دولة الحق في تصميم برنامجها بما يتناسب مع واقعها، فلكل دولة أهداف وظروف وتطبق برنامجها بما يتناسب مع واقعها. لا يمكن تطبيق الدستور الكويتي في دولة مثل البحرين، ولا السعودية، فلكل دولة خصوصيتها وعليها أن تضع النظام المناسب لها. لكن الحرية قيمة إنسانية. من حق الإنسان في الكويت أن يكون حراً وكذلك الإنسان في أدغال إفريقيا. هذه قيمة مرتبطة بالوجود الإنساني.
حقيقة، لدي رأي ربما يختلف مع الآخرين، هل الناس ترغب في الديمقراطية التي هي آلية، أم ترغب في الحرية؟ دائما أقول أعطوا الناس حريتها، والإدارات الحكومية وغيرها تعمل كما تشاء. في أميركا عندما يقال عن الانتخابات الأخيرة، إن نسبة التصويت تصل إلى نسب عالية فإنهم يتكلمون عن 60% فقط. في الأحوال الطبيعية قد لا تصل حتى إلى 50% فليس هناك اهتمام كاف بالممارسة. ولكن كل أميركي يتمتع بحريته. بينما دولة مثل الكويت قد تجد أن نسبة التصويت للبرلمان ربما تصل إلى 90%، لكن هذا ليس دليلاً على وجود درجة عالية من النضج السياسي، هناك اختلاف بين الحرية والديمقراطية. البعض يرى أن حق الانتخاب هو قمة الحرية، بينما الواقع يفترض أن يكون اهتمام الشباب ببناء مستقبلهم الشخصي واقتناص فرص للحياة والعمل أفضل. في منطقتنا، المسائل متداخلة جداً، هناك خلط دائم بين الحرية والديمقراطية.
* ما الذي يجعل الممارسة البرلمانية الكويتية بهذه المثالب، هل قوة التيار الديني وحضور القبيلة واستخدامهما في مشروع الدولة؟
– من بين المستجدات تعاظم قوة التيار الديني في الكويت، ونتيجة انفصال مشروع الحكم عن مشروع الدولة اتجه الحكم منذ العام 1965 حتى الآن إلى الاستقواء بعناصر موجودة في المجتمع، فسعى إلى الاستقواء بالقبيلة لمواجهة التيارات الليبرالية، القومية التحررية آنذاك. سعى الحكم إلى فرض معادلة أخرى من خلال تكثيف الوجود القبلي وتحويل القبيلة من وحدة اجتماعية إلى وحدة سياسية. كذاك في منتصف السبعينات سعى إلى تقوية التوجه الديني، وهو يدرك تماماً أن التوجه الديني الفائز في الكويت لم يكن توجهاً فطرياً. سعى الحكم إلى تعزيزه من خلال دعم جمعياته ذات النفع العام، وتمكينه من تولي كثير من مناصب القرار. مشروع الحكم في صراعه مع الديمقراطيات ومشروع الدولة، استعان بالقبيلة تارة واستعان بالتيار الديني تارة أخرى، هذه الاستعانة ليست بلا ثمن، تم تعظيم قوة القبيلة وتم تعظيم قوة التيار الديني. تحولت القبيلة من وحدة اجتماعية إلى سياسية. في شهر مايو/ أيار الماضي صارت مصادمات بين قوات الأمن وكل القبائل. كل قبيلة على حدة. مصادمات استخدم فيها الغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية وغيرها. كل هذه لا تنتمي إلى تاريخ العلاقة بين الحكم والقبيلة، لكن الحكم ربما لأسباب عدة، أراد تقزيم القبيلة، والنتيجة أنه فشل فشلاً ذريعاً.
القبيلة انتصرت في نهاية المقام على الدولة بالرسائل وإقامة الانتخابات الفرعية. القبيلة أصبحت الآن أكثر قوة من السابق، وجاءت الحكومة كمجلس الوزراء وتحالفت مع التيار الديني بشقيه السلفي والإخوان. مقابل هذا التحالف هناك ثمن يدفع، ليس فقط منح التيار الديني مقاعد في مجلس الوزراء، وإنما الخضوع لسطوة التيار الديني الذي دائماً يطالب ولا يعطي. تم تغيير هوية المجتمع الكويتي بسبب التحالف بين التيار