«الخيال ليس إلا العقل في أكثر حالاته قوة وإثارة».[1]
«في الأحلام تبدأ المسؤولية. لا يمكن أن تنشأ المسؤولية بلا قدرة على التخيل»[2].
لماذا يحتاج السياسي إلى الخيال؟ لأنه الأكثر مسؤولية عن الواقع، والواقع لا يقبض عليه، بل يُقترب منه بخطط تصنعها الأحلام، ويوسّعها الخيال. «يرتبط الحلم ارتباطاً وثيقا بالخيال، ويمكن تعريف الحلم بأنه خيال يسعى إلى هدف، أمنية يتلبسها طموح، رغبة ما لتجاوز ما هو قائم إلى شيء آخر»[3] السياسي الذي لا يتوفر على هذه القدرة. يفلت منه الواقع وينعدم عنده الحس بالمسؤولية العاقلة بالخيال. فلا يمكن لك أن تعقل الواقع من غير صور الخيال، التي تتيح لك اللعب فيه وإدارته، بل وصناعته. العقل ينشط ويمارس فاعليته المسؤولة بالخيال، وينشط كذلك ويمارس فاعليته بالمتخيل، لكنها فاعلية غير مسؤولة، ذلك لأن المتخيل نشاط جمعي يقوم على تصورات وجدانية غير حقيقية وغير واقعية، والمتخيل يجد تصوراته الأثيرة في التاريخ، التاريخ يمده بوقائع لم تحدث وشخصيات لم توجد، وأحداث مختلقة وسير مركبة، وبطولات وهمية. الخطاب السياسي العربي في مجمله موجه في الغالب إلى جماهير تعيش في التاريخ المتخيل، لذلك ينشط هذا الخطاب بالمتخيل الجمعي لا بالخيال الفردي. الخيال نشاط العقل الفردي حين يحاول أن يدرك المستقبل أو يفسر الماضي، أما المتخيل فهو نشاط البنية اللاشعورية الجماعية حين تحفزها صور رغبوية في التاريخ، أي التاريخ كما نرغب أن يكون أو أنه قد كان.
كما هو حلم الجماعات الدينية في استعادة دولة الخلافة الراشدة وعصور الإسلام الذهبية ودولة الإمام علي ودولة الرسول. الأمثلة على الخطاب السياسي الذي يشتغل بالمتخيل لا بالخيال كثيرة، مثلا الخطاب السياسي الطائفي بين الخصوم السياسيين، يقوم على إذكاء المتخيل التاريخي لصراع الطوائف السياسي والديني وفقه هذا الصراع، ولعل في تحديد عالم الاجتماع العراقي فالح عبدالجبار لمقوم الطائفية ما يؤيد ذلك، فهو يقول «رغم أن الطائفية تقوم على إذكاء الخلاف الديني فقها ومؤسسات، فإنها في واقعها صراع مرير على الموارد والسلطة».[4] السياسي في صراعه المرير على الموارد والسلطة يُشغل معجم المتخيل من قبيل (الفرقة الناجية، أهل البدع، النواصب، نصرة الطائفة، أهل الجماعة، الدفاع عن السنة، سب الصحابة، كسر ظلع فاطمة، الكفر، الروافض، الخطر الشيعي، ولاية أهل البيت، التبرؤ والتولي، طاعة ولي الأمر، الصفويون، أبناء المتعة). مفاهيم هذا المعجم ومفرادته، تشتغل في الخطاب السياسي بشكل مباشر أو غير مباشر، لا تتوفر هذه المفاهيم على خيال ينتج صوراً ترسم للفاعل السياسي وشارعه الملتهب مستقبلاً محكوما بالمسؤولية والحيوية والإثارة، إنها تستعيد حروبه التي لا تنتهي، وصراعاته السياسية الأزلية. السياسي حين يفتقد الخيال يستعين بهذا المتخيل كي يعود بواقعه للوراء. الملك الحسن الثاني، في خلافه مع الإمام الخميني، استند في خطابه السياسي إلى تمثيل نفسه بمتخيل الخلافة الديني، أمير المؤمنين المدافع عن أهل السنة وعن المذهب المالكي ضد انتشار التشيع الذي ازدادت حدته بعد انتصار ثورة الإمام الخميني. وانحدارهما من سلالة السادة لم يزد خطابهما السياسي إلا تنافسا ونفرة. والأزمة السياسية الحالية بين المغرب وإيران، تعود في جانب منها إلى صراعات هذا المتخيل في الخطاب السياسي. الخيال يُوسّع الواقع ليستوعب الجماعات المختلفة والمتخيل يضيّق التاريخ والواقع. إحدى أزمات خطابنا السياسي أن خطب الجمعة هي إحدى مكوناته بل هي مرجعيته، وعلاقة المسجد بالتاريخ تقوم على التقديس المتخيل، وعلاقته بالواقع تقوم على الحلال والحرام والظالم والمظلوم، والحق والباطل، لا وسائط بين هذه الثنائيات. المتخيل، يمكن أن يكون مُكوّنا فاعلا في خطاب الثورات والانتفاضات والمقاومات، لكنه لا يمكن أن يكون كذلك في خطاب الدولة والاستقرار والمجتمع المدني إلا حين يوظف بمسؤولية عاقلة، حينها يكون خيالا يفتحنا على المستقبل.
المتخيل في خطاب السياسي يحرض جمهور شارعه على القيام برد فعل نافر (صدامات، تسميمات، تهويشات، تخريب إعلانات، ترويج إشاعات، طرد من مجالس، تسقيطات..الخ) لكل من يصنفهم مخياله الجمعي بأنهم أعداء.[5]
خطاب النائب البرلماني الشيخ جاسم السعيدي، نموذج للخطاب السياسي الذي يشتغل بالمتخيل في إنتاج أفعال نافرة في الحياة السياسية بين الجماعات المختلفة دينيا وعرقيا وثقافيا، وبيانه الأخير عن احتفالات عيد النيروز يضج بهذه الأفعال النافرة «جميع الاحتمالات ستكون مفتوحة في حال تم السماح بالاحتفال بهذا العيد أو الترخيص لأية جهة للاحتفال به، على أية جهة رسمية قد رخصت لهذا الاحتفال أن تسحب ترخيصها فورا وإلا فإنها ستعرض نفسها للمساءلة النيابية.. لا يعقل أن يتم الاحتفال بمثل هذه الأعياد في دولة إسلامية والشريعة الإسلامية مصدر تشريعها وتقام فيها مثل هذه الاحتفالات المحرمة شرعا».[6] المتخيل الديني والتاريخي للدولة الإسلامية والشريعة في هذا الخطاب السياسي غير المسؤول، يضيّق الواقع والدولة والمجتمع والأعياد، على العكس من ذلك فالخيال في خطاب السياسي يحرّض جمهور شارعه على القيام بأفعال يرون من خلالها واقعهم بشكل مختلف، ويرون مآزقه الحقيقة في الحاضر لا في الماضي، ويسعون إلى توسيع هذا الواقع عبر القبول بالجماعات المختلفة معهم، ويعددون من إمكانات الحلول لأزماتهم السياسية.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10058
هوامش
[1] وردزورث، من كتاب الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضي، شاكر عبدالحميد.
[2] هاروكي موراكامي، رواية كافكا على الشاطئ، ص.192
[3] جورج طرابيشي، صناعة الأوهام.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=32024
[4] فالح عبدالجبار، من يعيد تأسيس الوطنية العراقية؟،
http://www.iraqiwriters.com/inp/view.asp?ID=1586
[5] باسمة القصاب، مخيال الشارع الانتخابي، صحيفة الوقت، العدد 25 ,278 نوفمبر 2006
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=28095&hi
[6] جاسم السعيدي، من بيان أصدره مكتبه، وأرسل إلى الصحف المحلية.
شكرا لك أستاذ علي على هذا الطرح الذي حقيقة يمس الخيط العميق للممارسة السياسية التي تسير وفق المتخيل الجمعي الذي جعل واقعنا محكوما بهذه الذاكرة .
ولكن ألا يوجد مخيال أيضا عند الجماعات السياسية من مثل القوميين و البعثيين وغيرهم من الجماعات التي تحمل أيضا أيديولوجيا.
هل الأيديوجيا مخيال أيضا ؟
وهل يستطيع الفرد أن ينفصل عن مخياله أو حتى الجماعة هل تستطيع أن تنحيه؟
الخيال إلى أين يحملنا؟