هناك صناعة مبدعة للأوهام، وهناك عقول جبارة تنتجها وتروجها وتدير عبرها الواقع. وحياتنا بدون هذه الأوهام تكاد تكون مستحيلة، فنحن لا يمكن أن نتخيل حياتنا من دون أوهام شركات الدعاية والإعلام، وبدون أوهام الدعاة التي تضمن لنا الجنات الخالدة وتمحنا الامتيازات المتفردة، ولا حتى بدون أوهام رجال السياسة التي تجعلنا مسؤولين عن العالم وعن تغييره وحتى لو كانت النتيجة تدميرنا. لكني لا أتكلم عن صناعة الأوهام وترويجها، بل أتكلم عن الأوهام التي تنتج عن بعض الأمراض النفسية التي يصاب بها بعض الناس، والأوهام التي يحملها صاحبها نتيجة الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير "ثمة أوهام تنتج عن بعض الأمراض النفسية يصاب بها بعض الناس، وثمة أوهام يحملها صاحبها نتيجة الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير"[1]
(الخديعة الكبرى) نتاج هذا النوع من الأوهام، أوهام الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير، والوهم الأكبر أنها تعتقد أن القضية منطقيا الآن يجب أن يكون موضوعها التحقيق في دعاوي كتابها عبر لجنة يمثلها الملك والشيخ أحمد عطية الله حافظ أسرار الملك ومستودع أمانته.
هي تدعوك لتحقق في أوهامها، لا أن تحقق في مرضها، وأنا هنا لا أقصد المرض النفسي بمعناه الطبي لأني لست طبيبا، لكني أقصد المرض النفسي بمعناه الفكري، هي تدعونا للتحقيق في أوهامها باعتبارها أطروحات فكرية معقولة ومتماسكة، وإذا لم نستجب لذلك، فوهمها يصفنا بأننا نتعمد حرف الموضوع والابتعاد عن القضية الرئيسة والمهمة. هي تريد أن تقرر أين تضع الجميع وفق خارطة وهم خديعتها الكبرى.
مصدر الوهم يمكن التحقق منه ودراسته فهو يشكل موضوعا للطب النفسي ولعلم الاجتماع وكذلك لعلم تحليل الخطاب. فالوهم مادامت تنتجه ذات وتصدقه فهو مرض يختص به الطبيب النفسي، ومادام هذا الوهم يتعلق بمعتقدات جماعية ويصدر عن تصورات جماعية فلعلم الاجتماع أن يهتم فيه بوصفه ظاهرة اجتماعية، ومادام هذا الوهم مصاغ في خطاب مكتوب فلعلم تحليل الخطاب أن يدرسه ويحلل تركيبته الخطابية.
الوهم بالنسبة لهذه العلوم موضوعا للدراسة من أجل فهم الإنسان والمجتمع والجماعات الخلاصية وأمراضها. من هنا فخطاب الخديعة الكبرى يصلح أن يكون موضوعا لهذه العلوم، ولا يصح أن تتعامل هذه العلوم معه كأطروحة فكرية متماسكة وجديرة بالنقاش والرد، من هنا فدعوة الكاتبة لا تصح علميا.
كيف يمكن أن نحقق في دعاوي لا يحتملها منطق مجريات الأحداث السياسية اليومية، من مثل "حركة حق الأكثر تورطا في التعاون المباشر مع المخابرات الامريكية عبر وسطاء منهم (البندر وآخرين) وحسن مشيمع وعبد الجليل السنكيس معروفان بتنسيقهما مع الهيئات الامريكية وسفرهم المتواصل للغرب… الحركة الشيرازييه بقيادة الشيخ محفوظ والسيد جعفر العلوي لها دور في هذا المخطط الإنقلابي وهو يتناسق مع أهداف المخابرات الامريكية التي تستهداف الجمهورية الاسلامية مع ولاية الفقيه"[2]
وفي مقابل هذا التواطئ، يبرز الشيخ أحمد عطية الله ضحية عليها أن تدلي بشهادتها لتأكيد حقيقة تواطئ هذه الشخصيات مع المخطط الأمريكي "الشيخ أحمد بن عطية الله آل خليفة هو المؤهل لتمثيل الملك في لجنة التحقيق لكشف المخطط، لقد جاء تقرير البندر لدق اسفين بين الشعب وهذه الشخصية" (انظر الكتاب، ص493)
لن أحتاج إلى صياغة حجج منطقية للتدليل على أن صاحبة (الخديعة الكبرى) تصدر عن وهم، وهم مصاغ في خطاب ميلودرامي، المركز فيه هو ذات الواهمة أو المتوهمة المتورمة بالشطط، يأتي هذا الشطط في تشكيلة خطابية مكونة من الأحكام والتنبؤات والاتهامات والقذوفات والتخوينات والفضائحيات التي لم تستثن جهة ولا شخصية سوى المجلس العلمائي وجلالة الملك والشيخ أحمد عطية الله، كل ذلك من أجل أن تنسج مؤامرة كبرى تزعم أنها تستهدفها وتستهدف من خلال اختراقها البحرين. بل إن الأحداث العالمية لا يمكن تفسيرها إلا من خلال تحركاتها التي لا مكان فيها للصدفة "هل من عجائب الصدف التي لا تعترف بها المخابرات الامريكية أن الكاتبة (نرجس طريف) كانت قبل يوم واحد فقط من حادثة تدمير البرجين في الولايات المتحدة الامريكية في رحلة قصيرة لإعادة إبنتها إلى البحرين"[3]
جميع الشخصيات الواردة في الكتاب تقوم بأفعال غالباً مركزها ذات الكاتبة، وهي لن تتردد في استخدام أي شخصية استخداماً غير أخلاقي من أجل أن تحبكها ضمن سياق المؤامرة التي تستهدف اختراق جدار الكاتبة المحصن بالذكاء والوعي واليقظة والقدرة على الكشف وقلب قواعد اللعبة، لقد قادها هذا الذكاء لاكتشاف موظفين مندسين يعملون في مؤسستها "اكتشفت الكاتبة أكثر من خمسة عملاء تولوا مراقبة ورصد تحركاتها على مدى ثمانية سنوات منذ خروجها من السفارة"[4]
إن خطاب الوهم، لا يعرف حداً عقلانياً يوقف به جموحه المخترق للمكن وللمستحيل، هكذا يضرب يمينا وشمالا فـ"منصور الجمري وجريدة الوسط ضالعة في إنجاح المخطط الامريكي الانقلابي وهو يدعم السفارة إعلاميا من أجل انجاح هذا المخطط … جمعية الحور النسائية التي تديرها زوجة أحد القضاة (الشيخ حميد المبارك) احدى الواجهات السفارية غير المعلنة … زهراء مرادي احد اتباع السفارة السريين المنتسين في الوفاق"[5]
في مقالة سابقة تساءلت: هل لدى سياسينا خيال؟ وكنت أدافع عن أهمية الخيال وقدرته على أن يمكننا من فهم الواقع وكيف أنه يسمح لنا بأن نحلم بتغيير الواقع لا تغييبه. ما يغييب الواقع هو الوهم لا الحلم، فـ "الوهم حلم كاذب ، حب تكشَّف عن خيانة ،ومن يحمل الوهم لا يعرف أنه وهم ، بل يعتبره حلماً وطموحاً وسعياً مشروعاً، وبعد ذلك يأتي الانكشاف والتثبت. بين الحلم والوهم خيط رفيع ، ثمة أرجوحة تنقل الحلم الى مكان الوهم، والوهم الى مكان الحلم"[6]
الأكيد أن الخديعة الكبرى، أخذته الأرجوحة إلى مكان الوهم، هناك يسقط العقل وحين يسقط العقل، لا يعود ثمة واقع، لقد أسقط الوهم الكاتبة في خديعته الكبرى، فراحت تطلق عقلها وتطلق معه أوهامها، ووفق هذه الأوهام راحت تتخيل الحكومة الجديدة " وزيرة الاعلام في الحكومة الجديدة التي ستتولى حكم البحرين بعد تنفيذ المخطط الإنقلابي المدعوم امريكيا وصهيونيا هي باسمة القصاب التي تمثل الخلاص الامريكي فهي لديها مؤهلات شخصية وتدريبها المهني لهذا الدور اخذ يتصاعد تدريجيا في الفترة الآخيرة من خلال بروزها الإعلامي والصحافي الذي دشنته الرواية الامريكية التي سوقتها باسمة، و الدكتورة صفية البحارنة وزيرة للتربية، ود. بتول أسيري وزيرة للمالية والاقتصاد" [6].
كل الحوادث توضع على مقياس سرير هذا الوهم، كما هو الأمر مع سرير بروكست قاطع الطريق في الأسطورة الرومانية، الحادثة التي تقصر عن طول هذ السرير تُمط بقوة الوهم، حتى تأخذ مقاس السرير، والحادثة التي تطول على السرير، تقطع بقوة الوهم لتكون بمقياس السرير بالضبط. تباً لهذا السرير الذي يفصل الوطن على مخدعه ليوهمه بالخديعة.
هكذا يفسر هذا السرير النرجسي نشر صور الملك "نشر صور عملاقة للملك في كل شوارع البحرين على غرار صور الطاغية صدام حسن، يقف وراءها رجل الدولة الأقوى رئيس الوزراء بقصد أن يحفر له خاتمة كخاتمة صدام" [7].
والآن، من كان منكم عاقلا، فليحقق في هذا الوهم.
هوامش
[1]،[6] جورج طرابشي، صناعة الأوهام.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=32024
[2] نرجس طريف، الخديعة الكبرى، دار الإبداع (وهي دار وهمية)،ص 449
[3] المصدر نفسه، ص436
[4] المصدر نفسه، ص373
[5] انظر المصدر نفسه، الصفحات: 448،377،251
[6] المصدر نفسه،ص448
[7] المصدر نفسه، ص241
شكراً لك يا عزيز علي الديري.. أنا عالمي صغير جداً بقدر معرفتي بالزمن! أطوي الزمن مثلما يطويني! بينما أعيش في شرنقة حدودها عالمي فمخيلتي هي ذلك العالم! نتسابق إلى حيث لآ أدري!! أوهم أعيشه؟ أم أنا هو ذلك الوهم؟ يقول الدكتور علي شريعتي في كتابه “الدعاء” على ما أذكر “خدايا چگونه مردن به من آموز تا چگونه زیستن خود خواهم آموخت” إي “إلهي أرشدني كيف أموت حتى أختار كيف أعيش”!! الخيار بيد هذا المخلوق “ذلك الإنسان المجهول” كيف يعيش حياته ومماته!! عندما يكون الإنسان في مقتبل العمر وهو (أو هي) في عنفوان عطائه ليتحرر تجده بسبق وإصرار يتدحرج ككرة الجليد من أعالي الجبال الباردة إلى أخضان منظمات سرية لكي يثبت وجوده فوق الموجود الرتيب الساكن المميت!! ثم يغرق بقراءات تلك الأدبيات حتى ينصهر إلى حد التجانس مع “الأنا الجمعي”! يستمر البعض في هذا “الأنا الجمعي” لمدة طويلة أوقصيرة في بعض الأحيان.. لماذا؟ يقول أحد علماء الإجتماع أن الإنسان مخلوق غير إجتماعي يحب العزلة! ولكن متى؟ عندما تصل نبوغه إلى منتهاه حيث لا يجد من يفهمه! فينتحر لتخرج روحه إلى علو السماوات! قد يكون هذا وهم في نظر البعض! ولأننا لم نعش حيات الكاتبة نرجس طريف لا نعرف عنها الكثير من طفولتها عنفوان عطائها في رحم تلك الجماعة ومن ثم بعد خروجها إلى عالم أكثر وسعةً مما كانت هي فيه! لست بدكتور نفسي ولا طالب في علم الإجتماع ..فأنا بلا عنوان في هذا العالم الرحب! وإلى الآن لم أتشرف بقراءة كتابها حتى أدلو بدلوي أو على أقل تقدير تعليق بسيط على ما كتبت!! اما قرأت في الصحف – إن كانت صحيحة – ولا ازعم أن ما كتب في الصحافة صحيحة مثلما كتبه الكتاب لأن هناك مثلما نعلم مقص آت لا محالة – فإنها-أي الكاتبة كما قرأت في الصحف – خرجت لتشهر بكل من وجدت من الفاعلين على الساحة السياسية والإجتماعية! إتهمت نخبة من الناس جزافاً فأصبحت هي السجان والجلاد والقاضي!! فحرية الكتابة الموجودة في المملكة وبرغم المقص الموجود فهي سمائنا وبحرنا وأرضنا التي نتنفس بها! تلك الحرية الهامشية لم تأت من فراغ! فالنحاول أن لا نلوثاها بقاذورات أكثر ما هي عليها اليوم! فلنفتح حوارا معها في المنتديات والجمعيات وليأت الآخرون من “المتهمين من قبلها” في مناظرة! قد يستغرق وقتاً ولكن لا يصح إلا الصحيح!!
وأي خديعة تــلك ؟!
كثيرات هم العرافات والأكثر منهم الدجالون وأصحاب الخرافات والتأويلات الكاذبة الحمقى ! فبقدر ما يصدقون يكذبون لذلك لا يعول على حديثهم ولا يؤخذ منهم وجه حق ، ليس لأنهم خبثاء بل لأنهم أصحاب عقد نفسية عاشوها و لا يزال الكثير منهم قابعين في غياهبها ! ولا أدري وأنا أتصفح ذلك الكتاب عن أي عرافة أو قارئة فنجان سوف أتحدث وثمة الكثير من الأمور لابد وأن تؤخذ في الحسبان وتعرى أمام قلة الأدب والحياء والتشهير بخلق الله من أناس يدعون الثقافة وأصحاب توجهات فكرية ضالة يريدون لها أن تنتشر في مفاصل المجتمع الذي ما عاد يفرق بين الكذب والصدق ، بالرغم من أن هناك أناس لا تنطلي عليهم هذه الأقاويل حتى ولو كتبت ودعمت بالعشرات من التحليلات التي تعطي غطاءاً مجنوناً في ٥٠٠ صفحة مملؤة بالعقد والأمراض النفسية القاتلة !
قد يظن الكثير من الناس أن مثل هذه المؤلفات التي تكشف المؤامرات والزيف هي أمور يجب أن تعطى حيزاً ووقتاً وأهمية بيد أنها ليست كذلك ، فهي مجموعة من الخرافات والاستدلالات الباطلة التي وان دلت على شيء فإنما تدل على أن من يكتب هذه الأسطر ما هو الا معتوه أو مصاب بخلل في أحد وظائف عقله ويود استفراغ ما في باطنه عن طريق السب والشتم والتشهير ليبرق في سماء المجتمعات الذائبة في التاريخ الغابر !
يؤسفني أن يكون الرد قاسياً صلباً كحجر لأنني ومنذ أن تداولت الصحف والمنتديات خبر نشر هذا الكتاب رأيت نفسي مجبراً على كتابة هذه التدوينه لما فيه من تفريغ للشحنات التي تشتعل في داخلي – سيما وأن الكثير ممن شهر بهم في هذا الكتاب هم من الأصدقاء الذين يعز علي أن يوصموا بمثل ما وصمت ووصفت تلك الكاتبة ! فمن باب الاحسان أن نقف إجلالاً واكراماً لهم رافعين قباعتنا ، لأنهم لم تثبت عليهم هذه التهمة أو حتى بالانضمام لمثل هذه التيارات الدينية المدعاة بالسفارة ! ليس هناك مجالاً للشك بأن صاحبة ( الخديعة الكبرى ) تمتلك حساً ونضوجاً فهلوانياً في توصيف و توظيب وكيل التهم والشتائم بشكل مرتب تكاد تحسد عليه واقعاً وهو الذي يعتبر من المجالات الفرعية التي تصب في أحد فروع تخصصاتها الأخلاقية .
المشكلة الرئيسية كما أسلفت لكم أن الكاتبة تعاني من عقد نفسية وراديكالية مقيته كانت قد بذرتها وجنت ثمارها من خلال النيل من الشخصيات والرموز الدينية والنخبة المثقفة ، ناهيك عما لجأت إليه من أساليب معتوهه ، من قذف وسب علني بلا وجه أخلاقي عندما استخدمات ألفاظاً يخجل المرء من ذكرها هنا ولكم أن تقرؤا خديعتها الكبرى – فهي استخدمت أصابعها المستعارة في الهجوم الشرس بلا روادة على كل الفئات في المجتمع والتي مارست بحقهم أبشع التنكيل والاتهامات في محاولة جادة منها لإسقاطهم وكشف عوراتهم وما هو مستور في نظرها أمام المجتمع الذي يعيش على هوس الإشاعة والإفترءات ! لم تكن مادة الكتاب سوى فضيحة للكاتبة نفسها والتي وضعت نفسها في موقف محرج وسخيف أمام العالم عندما كتبت هذه الشعوذات ولا أدري بالفعل عما إذا كانت تعلم أنها أهدرت وقتاً وجهداً ومالاً في طباعة كتاب لم يضف للمتلقي ولا واحد بالمئة في رصيده الثقافي ، سوى جنيها المزيد من اللعنات والضحك على ما جاء في خرافتها الكبرى !
صديقنا الديري نعرفك جريئا فلماذا لم تنشر رد نرجس طريف على مقالتك التي نشرتها في الوقت (على جزئين) حفاظا على حق الرد وبامكانك أن تعلق عليها إن شئت؟
أرجو ان لا تمانع بان اقوم بنشرها عوضا عنك هنا لوجود اهتمام شخصي برصد ردود الفعل في هذا الموضوع بالذات:
سقوط اقنعة “وهم الحداثة”: الديري منفعلا ! (1/2)
• بقلم- نرجس طريف:
السادة بصحيفة الوقت، يرجى التفضل بنشر مقالنا التالي، وذلك من منطلق حق الرد لنا على المقالة المنشورة سابقاً بصحيفة الوقت (العدد: 1133) للكاتب علي الديري بشأني وبشأن كتابي “الخديعة الكبرى”، مع الشكر والتقدير:
ما كنت لأحيد عن موقفي بعدم التعليق على أي ردود أفعال أو قراءات “واهمة” أو “غير واهمة” لكتابي “الخديعة الكبرى”، لأني كنت وما زلت أصر على أن العلاج الوحيد للتخلص من كل الاشكالات التي نشأت أو ستنشأ حول ما عكسه الكتاب من حقائق – ولتكن في ذهن البعض أوهاماً – هو التحقيق العلني والشفاف في كل ما يحويه؛ إلا أن ما يبعثني الآن على الكتابة يأتي من منطلق مختلف تماما. فالكتابة عن موقف الناقد الحداثي علي الديري الأخير مني شخصياً ومن كتابي هي شيء آخر له أسبابه الخاصة، ذلك لأنني منذ تعرفي عليه في حواري الشهير معه بعد خروجي من تنظيم السفارة عام 1999 ارتبطت معه بعلاقة احترام من نوع خاص لا بصفته كذات مفكرة أو كشخصية اعتبارية كما عبر عنها في مقاله (هذا هو اسمك.. الخديعة الكبرى(1) ) بل بصفته ذاتا إنسانية أرى أنها تملك قيماً أخلاقية تستحق التقدير في زمن يندر فيه من “يحاول” أن يكون حراً وشريفاً في مواقفه وعلاقاته.
على أن الديري أخطأ التقدير كثيرا في مقاله السابق عندما اعتبر أني عندما اشرت لبعض قيمه الاخلاقية بصورة ايجابية (وسماه تمجيدا وتبجيلا) فقد فعلت ذلك من أجل تمجيد خطابي أو دعماً لقضيتي؛ فالديري أكثر من يعلم بالتنافر بين خطابينا ومدرستينا الفكريتين بحيث يستحيل أن يفيدني التمجيد لخطابه ونقده وطريقة تفكيره في أي شيء لصالح خطابي وقضيتي. بل إن كل المقالات المنشورة لي – ومنها ما كان ناقدا لفكره وأسلوب تفكيكيه الحداثي في بعض الصحف البحرينية – وحتى ما جاء في الكتاب من إشارات لفكره وطريقة تحليله ونقده التفكيكي لا تفيد هذه النتيجة التي وصل إليها على الاطلاق.
إنني عندما اعتبر مقالَتي الديري اللتين نشرهما في صحيفة الوقت مؤخرا صفعةً فذلك ليس لأني تفاجأت كلية من نتائجهما الاجمالية بشأني وشأن كتاب “الخديعة الكبرى”. وهي نتائج يكفي الاشارة إليها من منظور مدرستي الأيدلوجية بكلمة قصدية واحدة هي (الوهم) وحسب دون إضاعة الوقت في اللعب بالكلمات والتأويلات السقيمة.
والواقع أنه من كثرة ما لاك الحداثيون هذه الكلمة وبشكلٍ كيفي بحيث تراهم قد مجدوها عندما تأتي في سياق حداثي وجعلوا منها مسبة وانتقاصاً متى ما وجهوها لأعداءهم “الأيدلوجيين”، فلم تعد الكلمة في حد ذاتها ولا مفهومها الحداثي تشير لأي شيء محدد يجعلها مهينة أو قاسية، ليس لي فقط بل غالباً لكل من يفهم خطاب وتوظيفات الحداثيين لمفردات لغتهم الاعتباطية. بل أن الديري نفسه في حواره معي المنشور علناً عام 1999 والذي ضمنته لاحقا في كتاب الخديعة الكبرى كتوثيق لأول خطوة في اكتشاف الخديعة(2)، تحدث عن “شعوره” بأني أوقع نفسي في وهم مضاعف: الأول سماه وهم اللغة، والثاني وهم البحث عن الحقيقة الجوهرية(3). إنما حيث جاء تقييمه آنذاك في سياق حوار متزنٍ وهاديءٍ فقد انقذ نفسه حينها من مأزق هوى إليه سريعاً في مقالتيه الأخيرتين.
إن هذا التقييم الذي جاء على لسانه عام 1999 ينطبق بصورة تامة على موقفه وأوهامه الكبيرة في تفكيك خطاب الكتاب وقضيته وشخصية المؤلفة في عام 2009. فتقييمه الأخير ينطلق من وجهة نظر آحادية طارئة ومنفعلة وتنتمي الى مدرسة فكرية مخالفة ومتنافرة كلياً مع مدرستي ومع خطاب كتابي وقضيتي فيه، ومع هذا فهو يعرض تقييمه كحقيقة جوهرية مسلّمة لا نقاش فيها أمام جمهور يعلم جيدا أنه لن يتيسر له أن يطلع على أي وجه آخر للحقائق، ليس فقط بسبب تأثير قراءته المشوهة كناقد حداثي بل لأن الكتاب أصلا غير متاح بسهولة للجمهور حتى وإن رغب بقراءته لينظر فيه بحياد وموضوعية. فلماذا يقحم الديري نفسه في هذا الأمر ولمصلحة من إن كان ذلك يطعنه هو أولا ويطعن شخصيته ومصداقيته كناقد قبل أن يطعن الكتاب وكاتبته وقضيتها فيه؟!!
كان متاحا للديري – لو كان هو الديري الذي أعرفه وبدون أي مؤثرات خارجية – أن يخفف من حدة الوقوع في هذا التناقض الصارخ بمحاولة لا أيسر منها، وذلك من خلال محاورتي في بعض نتائجه المتعجلة بعد قراءة الكتاب، ولو أنه فعل فقد كان من المحتمل بل الغالب أن لا يتبنى أية وجهة نظر لي في الكتاب تماما كما لم يفعل في كل حواره معي في عام 1999، إنما من المحتمل بل الغالب أيضا أنه سيرى وجها آخر للحقيقة قد يؤثر في السيطرة على حدة انفعاله التي اساءت له كثيرا واساءتني من أجله. ولكن يبدو أنه كان من المقرر لهذا الانفعال أن لا يهدأ إلا بعد انهاء المهمة “الجهادية” التي ستحسب عليه بكل ويلاتها بغض النظر عمن كانت له يد فيها بصورة أو بأخرى. وعندما أشك بوجود تدخلات وجهت ردة فعل الديري الأخيرة فلأن هناك وقائع – أثبتها في كتابي- تؤكد حدوث هذا الأمر سابقاً. هذه الوقائع التي أشار الديري لوقوع اخطاء “فادحة” في نقلها (ولم يفصل) لا يمكن حسم دقتها او خطئها دون التحقيق – الذي أطالب به – وذلك بغض النظر عن تحليلي للوقائع الذي لم انفي مطلقا امكانية وقوع الخطأ فيه والذي يفترض نقده من قبل محللين (مختصين) في المرحلة التالية بعد الانتهاء من التحقق في الوقائع.
وحتى لو جادلنا بأن الديري لم يكن ملزما اخلاقيا بمناقشتي بما توصل إليه من تحليل لكتابي وشخصيتي قبل نشره مباشرة في عموده اعتمادا على تبريره بأن فعله يأتي ردا على فعلي في نشر بعض الوقائع المتعلقة به وبأشخاص يهمه أمرهم دون استئذانه، لكنه في الحد الأدنى كان ملزما تجاه نفسه وشخصيته الاعتبارية بأن لا يكتب بهذا القدر من العجلة والحدة والانفعال. وكان للحديث المباشر معي -وهو متيسر له وخاصة في الفترة التي سبقت كتابة المقال بأيام معدودة- أن يعطيه فرصة ليفعل ذلك احتراما لذاته الاعتبارية ولمدرسته الحداثية التي يفتخر دوماً بفضاءها المفتوح الذي لا يوقعه تحت سلطة نموذج فكري معين كما يقول (4). وللمقال بقية..
_____________________________________________________
1- هذا هو اسمك.. الخديعة الكبرى، بقلم علي الديري- صحيفة الوقت، العدد: 1133 بتاريخ 29 مارس 2009
2- حوار منشور بعنوان “سيرة الذات والجماعة في حوار.. تعاقبات العمى والبصيرة” 1999
3- راجع الحوار السابق في سؤال الديري رقم 58 واجابتي له.
4- انظر في حوار التعاقبات سؤال الديري رقم 62
هذا هو الجزء الثاني من المقال كما نشر بالوقت:
سقوط اقنعة “وهم الحداثة”: الديري منفعلا ! (2/2)
•
نعم لقد اسقطت في كتابي (الخديعة الكبرى) وقبله في حواري مع الديري نفسه -كل المحذورات القانونية والاجتماعية والاعلامية المعتادة- لأني لا أعتقد على الاطلاق من منطلق مدرستي الفكرية وتجربتي وخبرتي الذي يختلف عن منطلق الآخرين بمن فيهم الديري بأني أبالغ في وصف الكوارث والخطر كما يعتقد الديري ويعكسها حقيقة جوهرية لا تقبل التعدد.. فعلت ذلك لا بدافع الانتقام ولا الانتحار الذاتي أو الاجتماعي بل من أجل “فرض” التحقيق الذي سيجعل الآخرين يدركون وجود مؤامرة حقيقية لا موهومة على الأرض.
إن حقي المشروع الذي أطالب به في التحقيق العلني في الكتاب قد تأكد أكثر بعد حملة التشهير الاعلامي والاجتماعي ضدي التي لا يمكن لأحد أن ينفي علمه بها الآن خاصة بعد التوجيه المهين للوطنية والشرف والأخلاق الذي يأتي في سياق مضمرات خطاب الديري وغيره.. فهل يحق لأحد أياً كان أن يتدخل في مسار تحقق هذه الدعوة وهي غير موجهة له أصلا ويحاول توجيهها باتجاه آخر من منطلق انفعالي او افتعالي؟!!
ولأعوض على الديري رغبته الملحة في أن يكون له دور ما سأدعوه هنا لتبني موقف آخر يليق بشخصيته الاعتبارية التي القته في مطب تقمص أدوار محترمة لغيره: فيحكم على التحقيق بعدم الجدوى، ومرة يتقمص دور الطبيب النفسي ويخترع مرضا نفسيا فكريا، ومرات عديدة تقمص في مقالتيه دور السياسي والقانوني والاجتماعي ليلغي كل هذه الأدوار التي ضمنتها في طلب تشكيل لجنة التحقيق العلني. وفي كل هذه التقمصات خروج صارخ عن دوره الواقعي كناقد أدبي مجاله المفترض تحليل الخطابات الأدبية وفق مدرسته الحداثية التي لا ينبغي أبدا أن تعرض أحكامها كحقيقة جوهرية لا تتعدد!
هذا الموقف “التعويضي” للديري – أو من يمثل نفس وجهة نظره – يعرض اسلوب “المناظرة العلنية” في كل ما طرحه من تحليل للكتاب وقضيته وشخصية كاتبته ولنر من هو المتوهم والمريض نفسيا فكريا؟، ومن ذا الذي يشط اشتطاطا ويخشى المواجهة؟، ومن ذا الذي يسقط في أوهام المدارس الفكرية المفتوحة الفضاء فتجعله يتناقض فعلا وقولا.. ؟!!(1)
العجيب أن هناك من يناقض نفسه بنفسه، إذ في حين أنه يوهم الآخرين بأن مشكلتي هي مرض نفسي فكري – ومن شأنها كذلك فأمرها هين ولا يُخشى لا من مناظرتها ولا من حوارها مباشرة ليعرض رؤيته بإحكام دون الاساءة لشخصيته الاعتبارية أو الحقيقية – فإن أسلوبه في التفاعل والعرض بعيدا عن مخاتلات الكلام لا يعكس إلا توجسا غريبا من الحوار المباشر وسعيا للتبرير الفارغ بوجود خشية من التعرض لملاحقات ما قضائية أو غيرها مما يحذوه لاتخاذ هذا البديل المناقض لشخصيته الحقيقية والاعتبارية.
انظر مقدمة مقال الديري (هذا هو اسمك.. الخديعة الكبرى) وتدبر في مضمرات خطابه وهو يعرض قيامي بتهديد من يثير إشاعات وقوفي وراء تقارير مركز أوال بتهديده باللجوء للقضاء. الديري هنا يفتعل بامتياز موقف سياسي في اختيار ما يذكر وما لا يذكر في الواقعة لايصال رسالة “سياسية” مشوهة. يتجاهل الناقد “الحداثي” فصلا كاملا في الكتاب يشرح كل ملابسات تقارير أوال وتفاعلاتها ولا يشير إليه على الاطلاق، وذلك ليحافظ على رسالته المضمرة كحقيقة جوهرية لا تقبل التعدد. فموقفه “الجهادي” يفرض عليه ايصال هذه الرسالة – الحقيقية للقراء تحذيرا او تمويها او غير ذلك!!
يمكنني أن أبرر للديري موقفه بأنه واقعٌ بالفعل في “الخديعة الكبرى” كالآخرين الذين نوهت عنهم في كتابي– إذ من الواضح من خلال تحليل الموقف وجود وهم طاغ سيطر عليه مؤخرا جدا بشأن شخصيتي ودوافعي في الكتاب مما سبّب انفعاله ثم افتعاله ثم مفعوليته – ولكني لا أود أن أفعل ذلك فأسيء إلى ذكاءه. إذ عندما يكون الديري واقعٌ في وهم كهذا فينبغي له أن يكون أول من يؤيد التحقيق العلني الشفاف عبر لجنة رسمية – أهلية(2) مراقبة اعلاميا وذلك ليكون هناك مجال لكشف كل “الخدع السياسية الكبرى” الموهومة بشأني وبشأن السياسيين الذين يمططون السرير على قد قاماتهم الطويلة!!! فلماذا يتخذ موقف للتغطية عليه ويرفض مثل هذا التحقيق؟!
فهل يستطيع الديري الانفكاك من سلطة النموذج الواحد السائد الآن في المجتمع من منطلق مدرسته الحداثية التي تنظر في أوجه الحقيقة المتعددة ويضع احتمالا بسيطاً لوجود من يعمل على إقصاء التحقيق في “الخديعة الكبرى” الموثقة والمعدة للتحقيق العلني عبر ايهام الجميع ومنهم الديري نفسه بوجود خدع سياسية أخرى لا توثق ولا تعرض للتحقيق؟!!
سأتوقف عند هذا الحد ليأتي التحليل لخديعة “التفكيك الحداثي” الكبرى التي اسقطت الديري في مطبات الانفعال والافتعال والمفعولية في كل كلمة وردت في مقالته “الثانية” باسمه في مقال لاحق!
________________________________________________________________________
1 – المناظرة العلنية لا يمكن أن تكون بديلاً عن التحقيق المطلوب بأي صورة من الصور، ولكنني أهدف منها للرد على من يعتقد أن صمتي طوال هذا الوقت هو لضعف حجة وعدم قدرة على الاجابة فيما يحسبوه أسئلة محرجة عن الكتاب ودوافعه!!
2 – مما يؤكد وجود افتعال ومفعولية في مقالتي الديري عن الكتاب أنه حرص على أن تأتي تعليقاته على الكتاب (الذي عدد صفحاته 511 صفحة) متطابقة لما راج في المنتديات بأسماء رمزية. مثلا تطابق ذكره للشخصيات “المقترحة” في لجنة التحقيق في الكتاب واغفال الآخرى مع كل التعليقات في المنتديات ومنها تعقيب التجديد توجيها لقصد “سياسي” لا يمكن أن تغفله عين خبير مطلع؟!!
ملاحظة:
في احد المنتديات نشرت نرجس طريف مقالا اوسع وقالت انه المقال الاصلي الذي ارسلته لك وللوقت اولا من فترة طويلة ولكن لم يتم قبول نشره كما هو . الموضوع موجود في هذه الوصلة:
http://www.abroon.net/FORUMS/showthread.php?t=1293
فهل بالامكان ان نحصل على تعليق منك على هذا الرد؟