ما الذي يجعل الحرف جزءاً أصيلاً من جمال لوحة لبنى أمين؟ أو دعني أعيد صوغ السؤال، لماذا تجربة لبنى أمين الفنية مفتونة بتشكيل الكتابة في لوحاتها؟ أو دعني أقول الأمر بشكل آخر، لماذا تفتنني الكتابة حين أراها في لوحات لبنى أمين؟
هناك فروقات بين هذه الأسئلة، لكن هناك مشتركاً واحداً هو الكتابة، وأنا أسأل عن الكتابة، الكتابة التي تبدع لبنى في جعلها لوحة أخّاذة بجمالها. وهو سؤال على علاقة بذائقتي الجمالية أكثر من علاقته بتجربة لبنى التي هي أوسع من سؤالي بالتأكيد، فكل متلق يقيم علاقته باللوحة التشكيلية من زاوية إدراكه الخاصة، وزاويتي تدرك اللوحة من خلال الكتابة.
علاقتي بلبنى تأتي من أفق الكتابة، هي ليست كاتبة وأنا لست فناناً تشكيلياً، لكن الكتابة فن والتشكيل فن، وكلاهما يخرجان الذات من فرديتها الخاصة ويتيحان لها أن تتصل بما يتجاوزها، تعرفت على لبنى من خلال هذا الاتصال الذي وصلني قبلاً بالصديق عباس يوسف وجبار الغضبان، كان محترفهما التشكيلي، ورشة عمل تضج بالكتابة والرسم والتشكيل والمعدن واللون والمرح، أخذتني هذه الورشة إلى تجربة في الاتصال، الاتصال عبر الجماليات، عبر تجلي الجميل، صرنا نقرأ في هذا المحترف ابن عربي وتجلياته التي ترى في كل لون من الخلق مظهراً لجمال من جماليات الألوهة. صرت أحب أن أتعرف على الألوهة، من خلال خلق اللوحة وألوانها المشكلة بحساسية فائقة الإنسانية.
صار الفن طريقي إلى المطلق، صرت أتصل بهذا المطلق عبر الفن، قلت للبنى مرة في رسالة مسجية إن هيغل يقول «إذا بلغ الفن غايته القصوى، فإنه لا يلبث أن يسهم مع الدين والحياة في تفسير المطلق وإلقاء الضوء على جوانبه، وكذلك في إيضاح كل ما يتعلق بحقائق الروح والأفكار الإنسانية الأشد عمقاً»[1].
قالت لي إن صديقك ابن عربي يقول:
وما الوجه إلا واحد غير أنه
إذا أنت عددت المرايا تعددا
هنا تلتقي مثالية هيغل تلتقي مع صوفية ابن عربي، كما تلتقي الكتابة والرسم في قدرتهما على أن يكونا مرايا تفسير للجمال وللمطلق وللغامض وللمجهول وللمستحيل الذي نسعى لبلوغه. يمكنا أن نرى العالم بالفن حين يبلغ غايته القصوى في لوحة يؤلف ألوانها فنان استثنائي، وبالفكر حين يبلغ غايته القصوى في كتابة يؤلف حروفها مفكر استثنائي، كما هو الأمر مع هيغل وابن عربي.
كان ابن عربي يرى «العالم كله مظاهر هذه الأسماء الإلهية»[2] الأسماء التي هي مطلق الكمال والجمال، أو لنقل بعبارة هيغل الفن في غايته القصوى أو لنقل الفن في مراياه المتعددة التي تشكل بإبداعها وجه العالم.
في محترف عشتار كما في محترف لبنى، تجد الكتب في مجاورة جمالية مع اللوحات، تلك تؤلف الكلمات لنرى في مرآتها العالم في أقصى حالاته تجلياً، وهذه تؤلف الألوان لنرى في مرآتها العالم في أقصى أبعاده. في سهرتنا الأخيرة في مرسمها، كانت لبنى تقلب كتبها القديمة وتستعيد تاريخ سيرتها معها، وهي تهيئها للانتقال إلى مرسمها الجديد، قلت لها تخلصي من بعضها كما فعلت أنا مع مكتبتي، قالت لي: لا أستطيع أن أتخلى عن ورقة واحدة فيها، كتبي لوحاتي المكتوبة، أحب أن أرى سيرتي من خلال تآلف هذه الكتب مع هذه اللوحات. الكتب جزء من لوحاتي، وكل جزء مرآة للجزء الآخر. الكتابة مرآة لألواني وألواني مرآة للكتابة.
مهمة الفن والكتابة إعادة «هندسة المعنى»، عبر تداخل الفنون والحقول أو عبر نقل المعنى من حقل إلى حقل، كي يعيد تجديد حياته. في هذه الهندسة وخرائطها الأقل تعيد لبنى وقاسم هندسة معنى الملاك والنزوة، يخرجانهما من الهندسة الدينية وفضاء المقدس والمدنس، أو قل يحرران الملاك من أجنحته الدينية ويمنحانه أجنحة من ألوان وكلمات وتأويل ومعان جديدة. يجعلانه مرآة لحالة تمازج الكتابة واللون.
الملاك ليس فقط روحاً سماوية نورانية لطيفة، كما يخبرنا النص الديني، فالمعجم الذي هو أوسع من النص الديني يخبرنا «المَلاَكُ: المَلَكُ وهو جسم لَطيف نُورَانِيٌ يتشكّل بِأشكالٍ مختلفة/ مَلاَكُ الأمْرِ هو قِوَامُهُ وخلاصَتُهُ أو عنصُرُه الجوهريّ؛ القلبُ مَلاَكُ الجِسْم. مَلاَكُ الْحُبِّ: سُلْطَتُهُ وَقُوَّتُهُ. المِلاَكُ الطريقِ: وسطه/ هذه الناقة مِلاَكُ الإِبل، أي تَتْبَعُهَا الإبلُ» هو روح أيضاً، أرضية تتجسد في شكل سلطة حب أو قوة كتابة أو دفقة لون أو طريق جديد يفتح لك تأويل، تعلمك بما في الأرض وما في الإنسان من أسرار.
هكذا يمكننا أن نتحدث عن ملاك الكتابة وعن ملاك الفن وعن ملاك اللوحة وعن ملاك اللون، فكل هذه الملائكة تتوفر على روح لها أمرها وقوتها وسلطتها وطرقها الجديدة في تأويل العالم.
هكذا الملاك يأخذك إلى ما يفتح عليك وبك، وهو يفعل ذلك بما يتوفر عليه من نزوة، والنزوة ليست الخطيئة، بل الخطأ الذي يجعلك في توثّب دائم وعدم استقرار، إنها هوى التجريب والاكتشاف الذي يجعلك عابراً دوماً بين حقول معرفية وفنية مختلفة وحالات متناقضة.
وفي المعجم «النَّزْوَةُ: الوثبْة، هوى مفاجئ شديد لشيء ما وسُرعان ما يزول؛ هو ذو نَزَواتٍ، أي لا يستقرّ على حال».
وكأن النفري كان بعبارته «العلم المستقر كالجهل المستقر» يريد أن يخلصنا من أوهام الثبات والاستقرار التي تجعل من النزوة شيئاً شيطانياً عابراً ولا يستحق الاحتفاء والاتصاف. الفن نزوة ملاك، كما الكتابة نزوة ملاك. وهو ليس بالضرورة نزوة شيطان، فشياطين الشعراء يمكن أن تكون ملائكة والنزوة يمكن أن تضاف إلى الملاك أيضاً.
والفن متى فقد نزوته وملاكه صار كالجهل المستقر والكتابة من غير نزوة ملاك يحررها ويفتح لها الطريق جهل آخر مستقر.
يفتتح قاسم ديوانه الأخير «دع الملاك» بقصيدة ملاك:
«دع الملاك يتولاك
يرويك ويروي عنك
دعه، يفتح لك الطريق
ويصقل لك يقظة التأويل
دعه، ينالك مثل برق العشق،
ملاك الكتابة»
«نزوة الملاك» هو الفن في سفره وترحله، وقدرته على أن يكون وسيط اتصال بين العناصر عناصر الكتابة والألوان. الفن بتقلباته وسرعة تحول ألوانه وتلاشيها وانثيالها، من هنا يأتي اسم المعرض المشترك بين ملاك قاسم وملاك لبنى «نزة ملاك».
«الفن هو أيضاً وسائط للسفر والإقامة
حيث العناصر
تتحِول وتتلاشى وتنثال
في خفق المعدن وشهوة الحجر
لوحات مثقلة بالكائنات الشاهقة».
أعود لسؤالي: لماذا تفتنني الكتابة حين أراها في لوحات لبنى أمين؟ يفتنني نزوة ألوانها التي تضج بالملائكة الحافين بها.
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=160265
هوامش
[1] هيغل. رياض عوض، ص .258
[2] ابن عربي، الفتوحات المكية، السفر ,11 ص .455
سلام أيها الديري
يرتقي الفن بتكامل أعمدته….لذا أحببت المكوث تحتل ظل خيمة مثل الملاك…
دام قلمك أخضر يورق وردا ويسكرنا بشذاه….