عن دار الساقي صدر حديثا كتاب "روافض ونواصب" وقد حرره حازم صاغية، وهو يضم مجموعة من الدارسات التي أعدها مجموعة من الباحثين، تتناول الصراع الطائفي في مجموعة من البلدان العربية.
يلفت عالم الاجتماع فالح عبدالجبار في دراسته المنشورة ضمن الكتاب نفسه والمعنونة بـ "الصعود الشيعي والتصادم الطائفي في السياسة والاجتماع العراقيين" إلى الفرق بين السلطة المرجعية والسلطة القاهرة، فهو يقول "يملك السيد السيستاني السلطة المرجعية Authority وليس السلطة القاهرة. فالسلطة هي قوة من أدوات القهر والإلزام، والسلطة القاهرة هي سلطة ترتبط بأدوات القهر"[1].
أعتقد أن هذا التمييز بين السلطة المرجعية والسلطة القاهرة، يتيح لنا فهماً أفضل لعمل المرجعية الشيعية في التاريخ والحاضر وعلاقتها بالسياسة وجماعة المؤمنين وعلاقتها بجماعة المواطنين. على أن صفة القاهرة هنا لا تعني الديكتاتورية، بل تعني امتلاك القوة المادية، كما هو الأمر مع الدولة، فالدولة سلطة قاهرة وهي الوحيدة التي يحق لها امتلاك وسائل العنف. وقد يؤدي هذا الامتلاك لأن تتحول السلطة القاهرة إلى سلطة دكتاتورية وقد لا يؤدي إلى ذلك، لذلك نجد دول دكتاتورية ودول غير دكتاتورية.
لكن علينا ألا ننسى الفرق، ففي الدولة، السلطة القاهرة ليست بيد شخص، بل بيد مجموعة من السلطات هي في مجموعها تشكل القهر. وسبب هذا التوزيع والفصل للسلطات يتحقق قدر أكبر من العدالة وقدر أقل من التسلط.
يرتبط التصور الشيعي لمرجعية الفقيه، بتصوره لمرجعية الإمام، فالفقيه الجامع للشرائط، نائب عن الإمام، لكن مفهوم هذه النيابة ووظيفتها وحدودها يختلف بحسب تعدد المدراس الفقيه والكلامية عند الشيعة، وباختلاف السياقات التاريخية التي عاشوها.
السلطة المرجعية، هي أقرب إلى السلطة الروحية وليس هناك عقد قانوني ينظمها، فهي أقرب إلى العرف والرمزية وتتعلق غالبا بالشؤون الدينية. ويتم أحيانا الرجوع إليها لتحكيمها أو الاستئناس برأيها في أمر خلافي بين الجماعة المؤمنين بها.وهي لا تتدخل إلا في القضايا العامة الكبرى بغرض التوجيه والنصح أو دفع ظلم فادح.
أما السلطة القاهرة، فيجسدها نموذج الولي الفقيه حسب مفهوم الولاية المطلقة، وهي تجد نموذجها في ما ينص عليه الدستور الإيراني، ففي المادة العاشرة بعد المائة، يتم تحديد وظائف القائد وصلاحياته (الولي الفقيه):"تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام. الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام.إصدار الأمر بالاستفتاء العام. القيادة العامة للقوات المسلحة. إعلان الحرب والسلام والنفير العام. حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاث. حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام.عزل رئيس الجمهورية.نصب وعزل وقبول استقالة: فقهاء مجلس صيانة الدستور.أعلى مسؤول في السلطة القضائية. رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية. رئيس أركان القيادة المشتركة. هـ – القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية. والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي"[1].
هذه الصلاحيات التي هي في قبضة يد الولي الفقيه، هي ما تجعل من سلطته سلطة قاهرة، فهي أدواته في الإلزام والقهر. والدولة في نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران، تجد معناها متحققاً بقبضة هذه اليد، ينقبض معناها وينبسط بقدر حركة هذه اليد.
يعود هذا التمركز للقوة في يد واحدة إلى التصور الشيعي لفكرة نيابة الفقيه عن الإمام، فالإمام المعصوم هو الذي بيده كل شيء، ويتحقق العدل والأمن بعصمة يده، وفي حال غيابه، تنتقل الصلاحية إلى الفقيه فتكون له الولاية التي كانت للإمام. الدستور الإيراني هو صياغة معاصرة لهذه الفكرة، وهي صياغة حديثة وجديدة وفيها قدر كبير من الاجتهاد والمرونة التي لا تعجبني، وهي مرونة مستمدة من طبيعة الاجتهاد الشيعي في الفقه، وهذا ما يمكن التعويل عليه في أن تجدد الجمهورية الإسلامية الإيرانية معناها من خلاله، لتتيح حيوية للإصلاح من خلال النظام. فكارثة العراق وشبحها الجاثم لا يمكن لعاقل أن يتمنى حدوثه في مكان آخر.
السلطة القاهرة لابد أن تتحول إلى الدولة لا إلى الولي الفقيه، وأحد قصورات الفقه الشيعي، تكمن في أنه يتصور الدولة طبقا لتصوره لفكرة الإمامة، وكأن الدولة في معناها الحديث هي الإمامة, وقد جاءت تجربة صياغة النظام الجمهوري الإسلامي الذي وافق عليه 98%من الشعب الإيراني آنذاك، طبقا لمفهوم الإمامة. مع تكييفها إدارياً لتناسب شكل الدولة الحديثة. هذا ليس انتقاصا من التجربة، لكنه مراجعة لها.
لقد تحولت الدولة إلى إمام قاهر، وما يحدث الآن هو محاولة لإصلاح هذه السلطة القاهرة، وأعتقد أنه حان لفكرة الإمامة في شكلها الفقهي أن تتحول إلى مرجعية من غير سلطة قهر وإلا ستستمر الأزمة أو تعيد نفسها في أشكال مختلفة.
كان المرجع النائيني[3]، في كتابه تنبيه الأمة، قد نبه في سياق دعمه للحركة المشروطة (الدستورية) إلى أن العصمة في مفهومها تهدف إلى تحقيق العدالة لا إلى تمركز السلطة والقهر والتسلط، من هنا فدعمه للدستور هو تحقيق إلى ما تبتغيه العدالة وأول الشروط التي تبتغيها تحقيق قدر عادل من توزيع السلطة في الدولة، ومنع استئثار شخص بأدواتها، وتحقيق قدر من حرية الاختيار الذي يحفظ العدل لا النظام، بمعنى فكرة الولي الفقيه في صورتها الحالية بما تتوفر عليه من قهر وإلزام، لا تحقق فكرة العصمة ولا فكرة العدالة ولا فكرة الدولة. وهي بحاجة إلى مراجعة نقدية من داخل الاجتهاد الشيعي نفسه، من أجل إصلاح سلطتها القاهرة.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11208
هوامش:
[1] نواصب وروافض، تحرير حازم صاغية، 2009، انظر دراسة "الصعود الشيعي والتصادم الطائفي في السياسة و الاجتماع العراقيين " افالح عبد الجبار، ص90.
[2] انظر: نصوص الدستور الإيراني على موقع:
http://www.alalam.ir/site/iranElection/2.htm
[3] انظر: علي الديري، تحرير العصمة.. مشروطية النائيني، جريدة الوقت،
العدد 610 – الثلاثاء 23 أكتوبر 2007.
إلى متى أيها الأشقاء والشقيقات في حاضرة حصن التدوين سنظل صامتين أمام وجه القرار رقم (1)