«جعل شكل الفلك كروياً لأنه أفضل الأشكال الجسمية»[1]
بشيء من التصرف يمكنني أن أعرف أجورا ذات الأصل اليوناني، أنها دائرة الساحة العامة التي يلتقي فيها الناس وأصحاب الأفكار من المثقفين والفلاسفة والشعراء ورجال الدين، ليعبروا عن أفكارهم ومواقفهم وانحيازاتهم. هذه الدائرة هي الميدان المشترك بين الناس في المدينة، وهي إحدى سمات المدينة.
في فيلم «أجورا» Agora للمخرج الإسباني أليخاندرو امينبار، كانت الفيلسوفة هيباتيا وريثة الفلسفة اليونانية، مهمومة بفكرة الدائرة. تعلم تلاميذها في مكتبة الإسكندرية إلى جانب أبيها (ثيون) الرياضي الفيثاغورثي رئيس مكتبة الإسكندرية، تعلمهم أن الدائرة أتم الأشكال، لأن جميع النقاط فيها على مسافة واحدة من المركز.
شاهدناها طوال الفيلم ترسم الدوائر الفلكية لتكتشف تمام الأشكال الفلكية محاولة معرفة أسرار مساراتها. وشاهدناها تدور بين أفلاك أديان الناس، لتقنعهم أن دائرة الساحة العامة (أجورا) تتسع لوجودهم في مدينة الإسكندرية. كانت تعوّل على تلاميذها ليكونوا رسل دائرتها ذات المركز المحايد تجاه جميع النقاط الموجودة في الدائرة، لكن تعويلها لم يكن في محله، فمركز الدولة صار مسيحياً والتلاميذ عَلِقُوا في هذا المركز، من هم من صار محافظاً فيه ومنهم من صار أسقفاً، ومنهم من صار تابعاً لجماعته المتطرفة.
في مقابل الدولة التي لم تتسع دائرتها لغير المسيحية في شكلها المتطرف، اتسعت دائرة درس هيباتيا للتشكيك والسخرية والتأييد والرفض والنقد لكل ما يصدر عن مركزها من أفكار، حتى أنها كانت تستخدم ببراعة اعتراضاتهم التي تأتي في شكل ساخر لمراجعتها لنظريات الفلاسفة حول دوران الأفلاك.
حين أراد أحد تلامذتها (أورستس) أن يجعل منها تامة منسجمة بمركزها من دون نقاط تلامذتها، رمت في وجهه خرقة ملطخة بدم نقصها (دم الدورة الشهرية) وأشارت له لينظر إلى السماء ويتأمل انسجام دائرة الفلك وتمامها، فكأنها تقول له: نحن دائرة تامة، أنا أصير دائرة تامة بكم، أما أنا وحدي فلست تامة، بل ناقصة. المركز إذاً يصير دائرة حين يجعل المسافة بينه وبين كل ما يقع في محيط الدائرة على قدر واحد.
لقد فقدت (أجورا) الإسكندرية تمام شكلها حين ضيّقت على بقية النقاط واتسعت لنقطة واحدة، بمعنى حين انحازت للمسيحية واتخذتها مركزاً كلياً للحقيقة، وأقصت بقية النقاط الأخرى من الدائرة (الوثنية واليهودية والتأويلات المسيحية الأخرى التي عدت فيما بعد هرطقات). لقد شاهدنا في الفيلم كيف خرقت هذه النقاط كلها عقد الدائرة، الوثنية حين هاجمت المسيحيين في الساحة العامة بسكاكينها وسيوفها وفؤوسها، والمسيحية حين دمرت علوم مكتبة الإسكندرية وتماثيلها وجعلت منها زريبة وأعملت سيفها في رقاب الوثنيين وحجارتها في رؤوس التي لم تتعمد بمائها، وأجبرت الجميع على التماثل مع مركزها، واليهودية حين ردت بحجارتها على حجارة المسيحيين المهتاجة بتحريضات (أمونيوس) في (أجورا) الإسكندرية التي فقدت شكلها الدائري.
وحدها هيباتيا بقيت تحمل هم الدائرة، دائرة السماء ودائرة الأرض. دائرة الأديان وأشكال تصوراتها للسماء، ودائرة المدن وأشكال تجسداتها في الأرض. ظلت هيباتيا منسجمة تماماً مع فكرة الدائرة، محترمة المسافة بين النجوم والكواكب وبين الأديان وبين التأويلات. بقيت هيباتيا تامة وعظيمة بهذا الانسجام الذي لم يخترق إيقاع المسافة، حين استنطقوها عن ديانتها وإيمانها ليحكموا عليها، قالت: أنا فيلسوفة، أؤمن بالفلسفة.
من خرقوا عقد الدائرة لم يحترموا المسافة ونسبها الرياضية. لقد تعلّمت وعلّمت هيباتيا الرياضيات ووظفته في فهمها للفلك السماوي وفي فهمها للفلك الأرضي، حيث الإنسان يصنع نقاطه في صورة دوائر مطلقة يسميها أديان ومذاهب وطوائف، وباسمها يحتل ساحة الدائرة العامة ويريد من الجميع أن يمتثل له، والدولة متى سلمت ساحتها العامة المشتركة لمركز حكمت على نفسها بالانغلاق والنهاية.
الدولة دائرة تامة، متى كان مركزها محايداً تجاه النقاط التي في دائرتها (الأديان والمذاهب والطوائف والتأويلات والأيديولوجيات). الإمبراطورية الرومانية المشهورة بمسارحها الدائرية وساحاتها العامة التي ورثتها عن الثقافة اليونانية، بدأت تفقد تمامها حين بدأت تفقد حيادها تجاه الفلسفة اليونانية خصوصاً واعتبرتها هرطقة وأخذت تنحاز تجاه نقطة المسيحية وسلمت أجورا إلى أمثال الأسقف (سيرل) الذي قاد الدعوة إلى اعتبار الفتك باليهود المقيمين بالإسكندرية واجباً مقدساً، وهو الذي صلى على جثة (أمونيوس) واعتبره شهيداً، واعتبر من فضائله تهييج الجماعات المسيحية لاقتحام مكتبة الإسكندرية.
سلطة الدولة لم تُبق لأحد أن يختار نقطته في محيط الدائرة، بل لم تعد هناك دائرة، منذ توطدت الوحدة المقدسة بين الكنيسة والدولة في الربع الثاني من القرن الثالث الميلادي، الجميع عليه أن يتماثل مع المركز، غير أن هيباتيا عشقت الدائرة وفضّلت الموت على أن تعيش من دون دائرتها، وكأنها كانت تتحدى سلطة الدولة في تحالفها مع سلطة الكنيسة. فكان ثمن تحديها أنها صارت شهيدة الدائرة، الدائرة بما هي علامة فلسفية ووجودية للتمام والحياد والتوازن والانسجام والتعايش مع المحيط.
الدولة لم تترك خياراً حتى لتلاميذ هيباتيا الذين كانوا بقلوبهم في دائرتها، وبأيدهم في جسد الدولة القابضة على كل الدائرة حد هصرها، وكانت يد دافوس تلميذها العبد الذي حررت عقله بعلمها ورقبته بعطفها، يد الدولة في وحدتها المقدسة مع الكنيسة حين أطبقت على نفسها، لتغادر أجوراً الإسكندرية وهي تنظر إلى السماء من خلال الدائرة.
«عذابات الفلسفة في المسيحية الأولى»[2] وجدت مظهرها الأكثر إيلاما في عذابات هيباتيا، كما وجدت البشرية بحسب وجهة نظر المسيحية عذاباتها في جسد المسيح المخلص، غير أن جسد هيباتيا لم يكن يزعم أنه جاء ليخلصنا من عذاباتنا، بل جاء شاهدا ليرينا كيف نصنع نحن عذاباتنا الدنيوية.
هوامش
[1] أخوان الصفاء، رسائل أخوان الصفاء، ج,4 ص.197
[2] انظر الفصل الثاني من: كتاب مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، جورج طرابيشي.