المواطنة كعضوية في الدولة، بمعنى يمكن لأي فرد في الدولة أن يكون مواطناً، أما المواطنة كعضوية في القومية، فهذا يعني أن المواطنة مقصورة فقط على من هو قومي، كما جرى في التجارب العربية التي اقتصرت فيها المواطنة ليس فقط على المؤمنين بأيديولوجيا الحزب، بل على المؤمنين بالحزب فقط، وبشكل أخص على الموالين لأب الحزب. وهذه حتى لا يمكن أن نسميها مواطنة. وتجديد الفكر القومي يمكن أن يكون ممكناً إذا راجع أطروحاته ضمن فكرة أمة المواطنين لا أمة القوميين ولا أمة حزب القوميين ولا أمة حزب رئيس القوميين.
المأزق الآخر للتصور القومي المتصلب، هو أنه يرى لغته تعبر عن حقائق لا تصورات، ومن ثم فالرؤية التي ترى من خلالها العالم حقيقية وواقعية. كانت عضو مجلس الشورى سميرة رجب قد اعتبرت مداخلتي عن اختلاف التصور اللغوي لمفاهيم القومية بين اللاتينية والعربية تعقيداً لا لزوم له، وأن المسألة بسيطة جداً، فالقومية هي الهوية. فحين تسأل عن هويتك تقول «عربي»، وهذا هو معنى القومية، والإسلام يعتبر عقيدة وليس هوية.
التصلب الذي هو قرين الأيديولوجيات، يميل دوماً إلى التبيسط وحسم الأمور الذهنية المعقدة في صيغ تبسيطية مختزلة، فهو يقدم تصوراً مبسطاً لا مركباً للواقع، والمراجعة النقدية لأي فكر تعمل على تفكيك هذه التبسيطات الاختزالية، وتقوم بإعادة تركيبها.
قلت لسميرة: الهوية موضوع مركب من ثلاثة عناصر، اللغة والدين والعرق، وتتفاعل هذه العناصر بشكل معقد، وحين يتوتر أحدها تتحول الهوية إلى هوية قاتلة، وندخل في حروب هويات كما هو الأمر الآن، وهذا ما يعبر عنه أمين معلوف في كتابه «هويات قاتلة».
لو كان مفهوم القومية بهذه البساطة والحزم كما تتصورها الأيديولوجيا القومية المتصلبة، لما كتب المفكر نصيف نصّار أكثر من 500 صفحة في تحليل تصورات من اشتغلوا بفكرة الأمة (أديب إسحاق، ابن باديس، سلمان البستاني، ساطع الحصري، أنطوان سعادة) التي هي أحد أهم عناصر مفهوم القومية في كتابه «تصورات الأمة المعاصرة: دراسة تحليلية لمفاهيم الأمة في الفكر العربي المعاصر».
حين نقول القومية تصور، فلا يعني هذا أنها تصور فردي، ناتج عن تصور مفكر أو منظر أو داعية لشكل من العلاقة بين عناصر مشتركة، بل هو تصور تصنعه حوادث وحروب وسياقات تاريخية، ويسهم في بلورته مفكرون ومثقفون ومناضلون ورجال دين وآباء مؤسسون، تصور الأمة الأميركية مثلاً كما يرصد تحولاتها هنتغنتون: إن الثورة أنتجت الشعب الأميركي، والحرب الباردة أنتجت الأمة، والحرب العالمية الثانية أنتجت ظهور انتماء الأميركان إلى بلدهم. وفي الستينات بدأت الهويات القومية الفرعية والهويات المزدوجة والعابرة للحدود، إلا أن حوادث 11/9 جلبت الهوية الوطنية للصدارة.[1]
القومية والأمة والمواطنة تصور، لذلك الناس في كل مكان (إيران، أميركا، العراق، ماليزيا، كندا) نجدهم يتساءلون، ويتفحصون ويعيدون تعريف ما يشتركون فيه وما يميزهم عن الآخرين: من نحن؟ إلى أي جهة ننتمي؟
الأمة كما يقول بنديكت أندرسون صاحب كتاب «الجماعات المتخيلة» مجموعة متخيلة.. «والقومية جماعة متخيّلة، ولكنها ليست متخيّلة من لا شيء، بل من عناصر قائمة في الواقع، مثل اللغة والثقافة وعناصر التاريخ المشترك»[2]. هذه العناصر القائمة في الواقع تركب وتفكك في كل مرة لصناعة هويات وطنية، والإنسان يمتاز بقدرته الفائقة على استخدام خياله الخلاق لتركيب عناصر واقعه بشكل مختلف مع كل حادث وتاريخ جديد.
الحرب هي أهم حادث تاريخي يلعب دوراً في تشكيل أو إعادة تشكيل مفهوم الأمة، الأمة الأميركية ولدتها حرب. وتاريخ الدول تشكله الحروب، مازلت أذكر الجملة التي كتبتها في 2 أغسطس/آب 1990 على دفتري الجامعي: «بعد غزو صدام للكويت، هل مازلتم تعوّلون على القومية؟ أما آن لكم أن تعطوا الإسلام فرصته ليحل لكم كل مشكلاتكم» لم أكن أعي حينها، أن هذه الحرب ستعيد تشكيل هوية هذه المنطقة برمتها، بقدر ما كنت مشغولاً بإثبات خطأ الأطروحات القومية الأيديولوجية من منظوري الإسلامي الأيديولوجي.
هناك حقب تاريخية يكون فيها الدين هو المشكل الأكبر للرابطة القومية كما في المرحلة المبكرة من القومية الأوروبية، كانت تحدد وطنيتها على أسس دينية، وهناك حقب يكون فيها العرق هو المشكل الأكبر، وهناك حقب تكون فيها اللغة هي المشكل الأكبر، وأحياناً يسهم أكثر من عنصرين في هذا التشكيل، كما هو أمر القومية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين التي أصبحت قوميات علمانية تحدد نفسها من خلال اللغة والعرق والثقافة. وكان موسوليني يقول «إن الأمة هي أسطورتنا» وباسم هذه الأسطورة صنع كوارثه العنصرية الشوفينية.
تكوين قومية أو أمة لقومية ما، يشبه من ناحية لعبة ويشبه من ناحية قدراً تاريخياً ويشبه أحياناً قدراً غيبياً. هي عناصر تتركب وفق نسب متفاوتة بحسب سياق الواقع الذي تصنع الصراعات حوادثه. حين نقول تبدو عملية تكوين القومية أشبه بلعبة، فلا يعني هذا سهولة التحكم في عناصر هذا التكوين، بقدر ما يعني أن الحوادث التاريخية الكبرى تلعب بكل قوم وجماعة لتعيد تشكيلهم كل مرة وفق مشترك ما ينسبون إليه قوميتهم.
إشكالية أي قومية تكمن دوماً في طريقة تعريفها لنفسها، وهو تعريف يستند إلى مجموعة من العناصر: اللغة، الدين، العرق، الأرض، السلطة. ليس لأي اختيار من اختيارات التاريخ بحوادثه لهذه العناصر في تكوين أي أمة، طابع مقدس، لكن التقديس يأتي لاحقاً لتثبيت تركيب ما في مخيلة القوم وشعورهم.
لكن التصلب الأيديولوجي لتركيب ما واعتباره حقيقة بدهية لا تقبل الشك ولا النقض، هو ما يضفي على صيغة ما من صيغ تركيب القومية قداسة، وباسم هذه القداسة التي يتم سكها بنعوت الثوابت والمطلقات، يفرز الناس إلى خونة وعملاء.
التجارب القومية، احتكرت الدولة ليس في قومية واحدة فقط، بل في تركيب واحد يمثل هذه القومية، وبل في حزب واحد يمثل هذا التركيب، بل وفي شخص واحد يمثل الحزب. لذلك فهذه الدولة ليست حتى وفق نموذج الدولة/ الأمة، بل هي وفق نموذج الدولة/ الفرد، الفرد الواحد الممثل للأمة والقومية والدولة. الخروج من هذا النموذج يتطلب تخليص أمة الدولة من احتكار قومية واحدة وتخليص القومية من تركيب متخيل واحد، وفتح الأمة على المواطنين.
أمة المواطنين، كما يقدمها «بشارة» تتيح للفرد أن يشكل نفسه وفق ما يريده لمستقبله وحاضره، لا وفق ما أرادته له تكوينات تسبقه.لا يضع عزمي بشارة القومية في مرتبة الأمة، في الدولة الوطنية، بل يضعها في مرتبة تيار له برنامجه السياسي وهمومه المعيشية اليومية، ويمكن أن تكوّنه الغالبية التي تجمعها عناصر مشتركة أكبر من عناصر الطائفة. «ليست القومية العربية أيديولوجية شاملة، بل انتماء ثقافي يدعي العروبي أنه أصلح من الطائفة ومن العشيرة، لتنظيم المجتمع الحديث في كيان سياسي»[3].
أن تكون عربياً اليوم، يعني أنه يمكنك أن تتجاوز طائفتك وتكون ضمن تيار مشتركاته الوطنية أوسع، ويمكن لهذا التيار أن يكوّن مع جماعات أخرى أمة من المواطنين. ومع ذلك فـ «القومية وعملية بناء الدولة والأمة ليست نظرية تنكر وجود طوائف وعشائر، بل هي جواب عن تحديات بناء مجتمع حديث»[4].
ليست أمة الدولة محتكرة من قبل قومية ما، بل هي تمثيل لمواطنين مختلفين في جماعاتهم المتخيلة.
[1] انظر: صاموئيل هنتغتون، أميركا: الأنا والآخر، من نحن؟ الجدل الكبير في أميركا
[2]، [3]، [4] عزمي بشارة، أن تكون عربياً في أيامنا، ص,16 ص,70 ص70