الديري: قد يراوغ المجاز أو يزيد الغموض لكنه لا يخفي الحقائق

البلاد: هدير البقالي
غالباً ما تتم اللقاءات وجها لوجه، أو عبر وسيلة إلكترونية بالفاكس أو الإيميل، أو عبر رسالة تبعث بالبريد، لكن ما حدث مع “$”، أنها أرسلت عبر “الموبايل” رسالة نصية إلى الناقد علي الديري الذي كان متواجداً خارج البحرين، فالتكنولوجيا الحديثة لم تعد عائقا معرقلاً، إضافة إلى أن الديري لم يرفض/ يعتذر عن الإجابة، علما أنه كان على متن الطائرة وقت عودته للوطن حينما أرسل نص الإجابات.
والديري يوقع اليوم بغاليري الرواق، كتابه الموسوم بــ “العبور المبدع”: استراتيجيات التفكير والتعبير، باستخدام المجاز” مع عرض مجموعة من رسوم الكتاب للتشكيلي عباس يوسف. وفيما يلي نص الحوار:

 

ما موضوع كتابك “العبور المبدع”؟
بالمعنى الضيق “العبور المبدع” ليس كتاباً، لكنه ورشة للكتابة، ورشة تدريب تأخذك إلى جرأة الكتابة. ليست هناك نصائح ولا تعليمات ولا خطوات ولا خطة. هناك عملية حيوية مليئة بالمتعة والخيال نسميها دينامكية الكتابة، ورشة هذا الكتاب تدخلك مباشرة إلى قلب هذه العملية، عبر استراتيجية اللعب بالمجازات (التشبيهات، الاستعارات، الكنايات، القصص، الحكايات، الأمثال). لن يقول لك الكتاب كيف تستخدمها، لكنه سيجعلك تستخدمها بطلاقة ومرونة وأصالة، وتلك هي شروط الإبداع.

 

كيف يقرأ علي الديري حضور المجاز في اللغة؟
دعيني أقرأه أولا في سؤالك، أنت استخدمت الـ (حضور). نحن نفهم هذا الفعل من خلال تجربتنا المادية المباشرة، فنقول حضرت المحاضرة وحضرت الفصل. فأنت هنا استخدمت شيئاً مألوفا ومعروفا لتري من خلاله شيئا غير معروف أو مألوف وهو (حضور المجاز في اللغة).
اللغة تحضر الأشياء والعالم إلى وعينا، تلك وظيفتها التي لا يكف الفلاسفة وعلماء اللغة عن الجدل حولها، ويزداد هذا الجدل حين يتعلق الأمر بالمجاز. أنا أتبنى الفكرة التي تذهب إلى أن المجاز مسألة عقلية لا لغوية. العقل لا يحضر الأشياء إلا عبر أشياء أخرى أكثر ألفة لديه، وهذا هو معنى المجاز. أن تحضر شيئا من خلال شيء آخر، وحين تحضره يمكنك أن تراه وتتواصل معه وتتمكن منه وتألفه.
الجسد هو الأكثر ألفة لوعينا، أنفك ويدك ولسانك ورجلك وعينك كلها جسدك وخبرتك المادية بها تجعلك ترى الأشياء والأفكار والعالم من خلالها. العقل يشتغل إذن بطريقة يجتاز بها جسده ليصل إلى ما يريد. ولغته مركبة وفق مقاس جسده ومحيطه الذي يتحرك فيه.

لمَ كل هذا الاهتمام بالمجاز؟
لأن المجاز الذي أنا معني به ليس فرعا من فروع البلاغة القديمة بل هو نظرية من نظريات العقل وعلوم الذهن والخيال. توسع حقل المجاز وموضوعه فاتسع الاهتمام به. المجاز يضم عائلة هي التشبيه والاستعارة والأمثال والكناية. لا أنظر للمجاز على أنه فن بلاغي لتجميل المعنى وتفخيمه وزخرفته، هو آلية من آليات عمل العقل وإدراكه، وهو استراتيجية خطابية لقول الحقيقة وآلية إقناعية وإعلامية لتعميم قناعات معينة. وبهذا التوسع صرت تعبر حقولا معرفية كثيرة حين تشتغل في المجاز.

كيف تربط اللغة العلمية “لغة الاختراع” بالمجاز؟
علينا أن نفهم المجاز على أنه آلية من آليات الخيال، لا يمكنك أن تدرك حقائق العلم من غير خيال، في الخيال أنت لا تغادر الواقع، أنت توسع حواسك الإدراكية لتستوعبه. والمجاز هو آلتك لتوسعة خيالك. في كتاب (بنية الثورات العلمية) كان مجاز الثورات السياسية هو أداة خيال توماس كون، ليرى كيف تشتغل النظريات العلمية وكيف تتطور وكيف تتغير. كيف يحدث الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر(paradigm). لم يكن مجازا عابرا أو مجازا توضيحيا هامشيا، بل كانت بنية الثورات السياسية والاجتماعية هي العين التي رأى من خلالها بنية الثورات العلمية، والمجاز عين.

هل ثمة فوارق في المجازات جغرافيا؟ بمعنى كيف تؤثر البيئة في المجاز؟
الجغرافيا هي المكان والإنسان يألف مكانه ويرى من خلال مكانه، لو رجعنا إلى المعجم العربي، فسنجد مألوفات البدوي من الخيمة والناقة هي التي كان من خلالها يرى ويقول فيصنع لغته، ولغتنا الفلسفية مأخوذة من هذه اللغة، لذلك لا يمكن أن تلعب بأي مفهوم فلسفي من دون أن تلعب بمعانيه الحسية المجازية التي جاء منها، وهذا ما يسميه طه عبدالرحمن التأثيل. وإحدى أهم مشكلاتنا في فهم مفاهيم المدارس الفلسفية والنقدية الحديثة، تكمن في أننا نعتقد أن معانيها المفهومية لا علاقة لها بأصولها الحسية التي جاءت منها. بل إننا نقوم باجتثاث المعاني المعجمية والتداولية للكلمة العربية كي نجعلها تتطابق مع مفهوم مترجم من لغة أخرى. الجغرافيا تمد المفاهيم بأرض قوية للعب والتصرف والإبداع. لكن عليك أن تجتاز هذه الجغرافيا كي تعبرها نحو جغرافيات غير مكتشفة، وبهذا العبور المبدع تتسع جغرافيتك ومفاهيمك وثقافتك ولغتك وحضوراتك في العالم.

إلى ماذا تخلص قراءات الديري في المجاز؟ وعلى أي النهايات تقف؟
المجاز استراتيجية عبور، تخلصك من وهم ما أنت فيه وهو نهاية الأشياء ومنطقة الثبات، ويأخذك دوما إلى مناطق جديدة، تفتحك على حقول معرفية ومجالات عمل ومفاهيم جديدة دوما. أستمتع بالفلسفة وهي تبتكر مفاهيم الحياة من الحياة نفسها، من حواس الإنسان وجسده، وأجد متعة في تحليل الخطاب وهو يعلمك كيف تفكك منطق الخطابات المبنية بمجازات تتوفر على درجة عالية من الإقناع الجماعي، وأتأمل في مجازات الكلام اليومي وأرى كيف يخلق مناخات تواصل وتنافر، وأرقب الخطاب السياسي وأرى كيف يسوس الحياة العامة. وأستمتع كذلك بتحويل هذه الأفكار إلى ورش عمل، وكتابي (العبور المبدع) هو ورشة عمل حول المجاز وطريقة استثماره في تطوير مهارات الكتابة.
لنقل أن اشتغالي على موضوع المجاز فتحني على علوم كثيرة وتخصصات معرفية متعددة وأنشطة عمل تطبيقية.

أين يقف المعنى إن كان الكلام كل الكلام “مجازا”؟ أليس نصك مجازا أيضا أي إنه أيضا غير أصيل وغير حقيقي؟
المعنى لا يقف، المعنى سيال ومتحرك ومتغير، ذلك بفضل طبيعته المجازية، وهذه الطبيعة هي أصالته وحقيقته. هذا لا يعني أنه لا توجد حقائق في العالم ولا يوجد واقع ولا توجد أشياء ولا يوجد خارج. لا يوجد كلام يمكن أن نعتبره هو الأصيل وهو الحقيقي وهو القادر… المجاز يقول لك حين ترى السماء وما وراءها، فأنت ترى حقيقة السماء وما وراءها من خلال حقيقة الأرض، وترى حقيقة الروح من خلال حقيقة الجسد، أي إنك ترى حقائق العالم من خلال حقائق أخرى، فتظل حقائق الأشياء نسبية أي منظورا لها من خلال نسبتها لشيء.

المجاز يكبر الحقائق لا يصغرها لنختبئ، لكنه أحيانا أو كثيرا، حين يستخدم في النصوص الإبداعية فإنه يجعلها أكثر غموضا كي لا تنكشف بسهولة، وحين يستخدم في النصوص السياسية والإعلامية فإنه يرواغ حقيقة ما. مهمة النقد تفكيك هذه المجازات، وهو لا يمكنه أن ينجز هذه المهمة إلا حين يفهم طريقة عملها في صياغة الحقيقة.

اترك تعليقاً