أخيراً، وصلت مكتبة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي(1990-1897)العالمية، منذ 1988 وأنا أنتظرها، كنت قد حلمت بزيارته منذ قرأت عنها في كتاب فهمي هويدي (إيران من الداخل) في المرحلة الثانوية، وتخيلت عدد الكتب التي تضمها، ظللت أتحدث عنها بإعجاب دون أن أراها. محملاً بأفق الانتظار العجيب دخلتها، ولم تكسر أفقي، لكن كان هناك شيء آخر كسر هذا الأفق بشكل إيجابي ضاعف من جمالها في داخلي، إنه مسؤول قسم المخطوطات في المكتبة، الأستاذ واسطي.
يتحدث وكأنه مخطوطة من هذه المخطوطات، وذلك لفرط الحميمية التي يتحدت بها عن هذه المخطوطات وللحماسة التي كان يبديها في تعريفنا بالطريقة التي جمع بها السيد المرعشي هذه المخطوطات، كل ما فيه كان ينطق: عينه وصوته وحركات يده ونبرات حروفه وسكتاته وتنقلاته بين رفوف المكتبة. بدت المترجمة الشابة الأهوازية سحر، مأخوذة أيضا به، وهذا ما أعطى لترجمتها حرارة كانت تستمدها من حرارة روحه التي بها ينَطق ويُنطق كل شيء. بعد أن عرض لنا المخطوطات القرآنية التي تمتد من القرون الأولى الهجرية مروراً بفترة الحكم الصفوي بإيران وحتى العصر الحديث، وقف في نهاية الصف ينظر من آخر مخطوطة إلى أول مخطوطة، وهو يقول: هل رأيتم حرفاً تغير من مكانه؟ عجباً كيف يتهمنا بعضهم بتحريف القرآن، ونحن حافظنا على جمال حروفه وجلال معناه بكل هذا الحب؟ ثم يصمت، ليدهشك بمخطوطات مقدسة أخرى، مخطوطات لكتاب الزبور وكتب الأديان الشرقية، يتحدث عنها باحترام شديد، ثم يقف برهة، وكأنه يخطب فينا: هل تعرفون الشبه بين الإنسان والكتاب؟
يسأل بحماسة من يهيئك لجواب عجيب، راح يسرد وكأنه أحد تلامذة أفلوطين الذين يرون العالم إنسانا كبيرا. ليست المخطوطات أشياء عند (واسطي) بل هي كائنات، هي إنسان له ظاهر وباطن وعنوان وأسرار وشكل وعمر وأمراض وغموض ووضوح وتاريخ وأصل وفصل.
هناك 37 ألف مخطوطة في المكتبة، تحمل خطوط العلماء الذين كتبوها وعرقهم وآمالهم وتشوفاتهم وعصارة قلوبهم قبل عقولهم.يتوقف (واسطي) لحظات قبل أن يقول لنا، أرجوكم اسمعوا مني ما سأقوله، وستتمنون لو تكونوا مخطوطات مثل هذه المخطوطات التي ترون الآن ظاهرها.هل تعرفون كيف جمع السيد مرعشي هذه المخطوطات؟ قلت في نفسي أكيد من أموال الخمس التي توفرت لديه. خجلت من نفسي لهذا الجواب المتسرع.قال (واسطي): انظروا إلى البطاقات المكتوبة جنب المخطوطات.
تأملت في بطاقة مخطوط مكتوب عليها، كتاب (الطرائف) رضي الدين علي بن طاووس، مقابل ختم القرآن.
كان السيد المرعشي في بداية مشروع جمع المخطوطات لا يملك المال الذي يمكنه من شراء المخطوطات، فيقوم بأعمال عبادية بالنيابة عن آخرين(ختم قرآن، صلاة نيابة، صوم نيابة)مقابل مبلغ مالي يجمعه لشراء مخطوط ما. كان يسجل فوق كل مخطوط الطريقة التي دبر بها قيمته. تشكل هذه البطاقات تاريخ العلاقة الشخصية الحميمة بين السيد المرعشي ومخطوطاته. لقد تسرب هذا العشق الذي ترك آثاره السيد على المخطوطات، إلى أمين المخطوطات السيد واسطي، فأكسبه طاقة الحب الذي يتكلم من خلالها عن هذه المخطوطات.
عرفت من خلال أمين المخطوطات، أن السيد تنبه إلى أهمية المخطوطات، وأنها كنز ثمين، من خلال المستعمر البريطاني الذي كان يشتري هذه المخطوطات ويرسلها إلى مكتبة لندن، وهناك ترقد آلاف المخطوطات.
إحدى أكثر القصص المشهورة حول علاقة السيد مرعشي مع مخطوطاته، هي حكايته مع مخطوط كتاب (رياض العلماء وحياض الفضلاء). كنت قد قرأت عن هذه المخطوطة في كتاب كولون تيرنر (التشيع والتحول في العصر الصفوي) والكتاب عنوانه في الأصل (إسلام بدون الله. فقد رجع (تيرنر) إلى هذا الكتاب في الفصل الرابع المخصص للحديث عن (العلامة المجلسي: البراني الأمثل) لكني لم أعرف حكاية هذا المخطوط إلا في هذه الزيارة للمكتبة التي بفضلها تمكن السيد أحمد الحسيني المحقق الفذ من إخراجه في7 مجلدات.
يقول السيد مرعشي: في 1921 خرجت يوماً من مدرسة (قوام) التي كنت أسكن فيها، فالتقيت امرأة تريد أن تبيع كتاب (رياض العلماء) للعلامة الميرزا عبدالله أفندي بخمس روبيات فعرضت عليها مائة روبية. وإذ برجل يشتري الكتب القديمة للحاكم الانكليزي يزايدني عليه، لكن المرأة لم ترضَ أن تبيعه. عادت معي إلى المدرسة، فبعت بعض الأغراض واقترضت من زملائي وسددت المبلغ. وبعد ساعة جاء الرجل مع الشرطة يتهمني بسرقة الكتاب، فسجنت ليلة وفي اليوم التالي أجرى عالمان مباحثات مع الحاكم وانتهت إلى إخراجي من السجن بشرط تسليم الكتاب إلى الحاكم بعد شهر. عدت إلى المدرسة وطلبت من زملائي نسخ الكتاب وأنهوه قبل المدة. فذهبت إلى شيخ الشريعة وأخبرته عن أهمية الكتاب، وبقي عنده حتى تنتهي المدة. لكن الحاكم قتل بهجوم شعبي قبل انتهائها. وبعدها انتقل الكتاب إلى ورثته، أما النسخة التي عندي فقد استنسخ منها 12 نسخة.
تكملة قصة هذا الكتاب الموسوعة، سنجدها عند السيد أحمد الحسيني الذي حققها وفهرس مكتبة السيد مرعشي، وكان محل ثقته.