رباب النجار في رواية "الحرون": بيوت المنامة أمهاتكم

“كنت أتمرد كثيراً وأعترض لأنتقم من العالم”

تقنياً، رواية “الحرون” للكاتبة البحرينيَّة رباب النجار، بسيطة ومباشرة. تظلّ تحدّث نفسك وأنت تقرأها، يمكنني أن أكتب مثلها بسهولة، لكنَّك لن تفعلها، ستظلّ معلقاً فيها منذ أول سطر حتى آخر صفحة، ستشعر بأنك تقرأ فيها شيئاً منك، شيئاً افتقدته وتريد أن تتَّصل به.

هي حكاية جليلة الحرون؛ الفتاة التي عاشت في النصف الثاني من القرن العشرين، طفلة في الخمسينيات، وصبية في الستينيات، وشابة في السبعينيات، وامرأة حرون بعد الزواج في الثمانينيات من القرن الماضي.

لحظة لقاء خاطفة في حيّ المخارقة بين الأم والبنت جليلة، تُعرض الأم كميلة عن ابنتها، تُطيّر نظراتها في السماء، لا تريد أن تنظر في وجه ابنتها. البنت تخز فيها، تريد أن تعرف سرّ هذا الإعراض والغياب عنها. نظلّ نلاحق هذا السر، ولا يتكشف لنا إلا جزء منه في نهاية الرواية، ولا تغيّر هذه المعرفة شيئاً في رأس الحرون.

ليس السرّ هنا بمعنى اللغز الذي يجعل منها رواية بوليسية، بل هو سرّ يتعلق بحكاية متعدّدة الأطراف، حكاية زواج ينتهي يوم صبحية العروس، ويخلّف حملاً يفرض فيه الجد على الأم عدم الزواج أو تسليم البنت. تسلّم الأم البنت لحظة ولادتها من دون أن تنظر في وجهها خشية أن تتعلّق بها. لا نعرف طوال الرواية سبب وقوع كلّ ذلك على وجه التفصيل. هناك إشارات خاطفة إلى وجود الأب في مكان ما في حالة غير طبيعية، لكن لا تكشف الرواية ولا تعرف جليلة ماذا حلّ بالأب وجعلها تقع ضحيةً لهذا الفقد الشديد الوقع على نفسها ومصيرها.

تظلّ جليلة طوال الرواية شديدة الحساسيّة والملاحظة، لكلّ حركة فيها أثر أم. في المدرسة تنظر إلى تسريحات شعر كل بنت وتقارنه بتسريحة شعرها التي لا أم لها، تحدثها زميلاتها كيف كنَّ يلجأن إلى أمهاتهن حين تُربكهن العادة الشهرية أول مرة في حياتهن، فيشتدّ عليها أثر الفقد، وتجد نفسها من غير أمومة تفضي لها باكتمال أنوثتها.

لا تجد جليلة غير غرفتها ومرآتها في الطابق الثاني من البيت العود. تنعزل هناك هروباً من العالم ونظراته القاتلة، حتى زوار جدتها من النساء الفضوليات تتجنّب الاختلاط بهن، تشعر بأن أسئلتهنّ تعمّق من مأساة انفصالها عن والديها، وتعليقاتهنّ تترك جرحاً على جرحها. تتذكَّر هذه التعليقات بألم كبير، تسمع إحداهن تقول إنها نحس على والديها، وأخرى تنصح جدتها بأن تبحث عن شامة شؤم في جسدها لتقوم بكيِّها، فتسبّب لها رعباً يدعوها لتتفحص جسدها في مرآتها خوفاً من وجود هذه الشامة التي ربما تتسبّب في حرقها، أخرى تأمر جدتها بمراقبتها أثناء النوم، لتتأكّد أنها لا تحرص بفكها وأسنانها وتصدر صوتاً أثناء النوم، فإن ذلك يجلب النحس.

هناك في غرفتها تتحدَّث مع مرآتها وشخصيات الروايات العالمية التي كانت تشتريها من مكتبات المنامة (مكتبة عبيد، مكتبة قصر المعرفة). تُركب واقعها من خلال هذه الشخصيات وما تمر به من أحداث. صارت تملأ الفراغ الوجودي الذي تركته أمها وخلّفه أبوها بالخيال الذي تستمده من هذه الشخصيات: كوازيمودر في رواية أحدب نوتردام، وكوزيت في رواية البؤساء وغيرها.

صارت جليلة تألف أوراق الكتب وتستوحش الناس، تعرف كتبها من روائح الورق، فلكلّ كتاب رائحة تميّزه. صار عالمها مكوناً من أربعة جدران، وأربع شخصيات؛ جدتها وأخيها سامي وصديقة طفولتها أمينة وجارتهم الضريرة فاطمة. ضمن هذا العالم الرباعي، يمكنها أن تجد شيئاً من ذاتها الضائعة منها. هذا لا يعني أنها كانت في عزلة عن العالم الخارجي، فقد كانت تخرج في (فريق المخارقة) وشارع المتنبي وشارع الشيخ عبدالله وباب البحرين، لكنها ما كانت تختلط بالناس، تظلّ تراقبهم وتحدّث نفسها لتعود إلى عالمها الرباعي.

تستفيض جليلة في وصف معالم فريق المخارقة وثقافته، وكأنَّها تريد أن تترك لنا إرثاً كي لا نُصاب بما أصيبت به من فقد للأمومة، تريد أن تقول لنا إنَّ في هذه الذاكرة أمومتكم الوجودية، لا تفقدوها، كي لا تتشوه أرواحكم كما تشوهت روحي. لا تُطيّروا نظراتكم في الهواء مداراة عنها، ستزهق أرواحكم إذا فقدتم هذه الأمومة، كما فقدتها أنا فزهقت روحي.

تقدم جليلة مادة اثنوغرافية حية ومفعمة بالحيوية، من خلال سرد سيرتها الذاتية في المنامة في فريق المخارقة حيث البيت العود، تحت شجرة البنسيانة. تقدم هذه المادة لتملأ الفراغ الوجودي في ذاكرتنا وأرواحنا التي تعاين بحسرة اختفاء مظاهر حية وحميمة من ثقافتنا وعاداتنا.

مليئة الرواية بأرشيف اثنوغرافي ثري وحي، قدمت من خلاله الرواية وصفاً لثقافة المنامة، مطبخ بيوتها بأوانيه وبهاراته وديكوره وأطباقه الشعبية: الكِشْري، والعصيدة، والمجبوس، وفتيتة التمر، شارع المتنبي وشخصيات الحي، ودكاكين الحي، ومشاكل العوائل الخاصة التي كانت تخرج إلى الحي.

يبدأ إعداد الشاي الظهيرة بعد أن تنفض السفرة قرب البنسيانة كي تلتقط العصافير بقايا الطعام، وما هو أكبر من البقايا يذهب إلى بقر الجار مسعود. في هذه الأثناء، يكون جمر الشاي قد نضج بعد أن تم إشعاله قبل الغداء، تضع الجدّة الإبريق المعدني على النار، تمسح خرطومه من الداخل بالزبدة وعينها على الماء، تغسل أوراق الشاي، وقبل أن يبدأ الغليان تسكبه على ورق الشاي مباشرة، وتتركه على الجمر، بعد دقائق تتشممه بنفس عميق وهي مغمضة العينين، وبخبرة الذوق تقرر إن كان (اتسكر) أو ما زال يحتاج إلى مزيد من الطبخ.

بهذا النَفَس الَّذي تُعدّ به جدتها الشاي، تصف رباب النجار عبر جليلة مظاهر الحياة وثقافتها في ذلك البيت والحي في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد تركت جليلة لنا مادة ثرية نعالج بها أرواحنا وذاكرتها من آلام الفقد وشدائده؛ ذاك الذي عانته وكانت شاهدة على آخر فصوله التي انتهت ببيع البيت العود.

الميادين

اترك تعليقاً