على خلفية موجة الاعتقالات الأخيرة في السعودية، قال وزير الخارجية عادل الجبير “لقد فصلنا آلافا من الأئمة من المساجد بسبب التطرف، وقمنا بتحديث نظامنا التعليمي من أجل استبعاد إمكانية سوء تفسير النصوص”.
قالت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش: “يبدو أن لهذه الاعتقالات دوافع سياسية… ستضيع الجهود التي يبذلها السعوديون لمعالجة التطرف هباءً إن بقيت الحكومة تسجن كل شخص بسبب وجهة نظره السياسية”.
لا يمكن أن تحارب التطرف بانتهاك حقوق الإنسان، فذلك تطرف آخر ودعوة لممارسة تطرف مقابل، أنا من المشككين في إمكانية ولادة مشروع إصلاح سياسي في السعودية، والحجة التي أستند إليها تتعلق بفهمي لميثاق تأسيس السعودية وحضوره اليوم في الدولة. يقول محمد بن عبدالوهاب لمحمد بن سعود في هذا الميثاق الشفاهي “من عمل بكلمة التوحيد ونصرها، ملك البلاد والعباد”، ويبشره بالملك فيه وفي ذريته “فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتكم من بعدكم”.
إنه، ميثاق المُلك السعودي، كلمة التوحيد هي كلمة السر، لا يمكن أن ينسى الإمام كلمة السر، فيخسر كنزه الدنيوي (الُملك). لقد نجح محمد علي باشا في تدمير (الدرعية) لكنه فشل في تفكيك هذه الكلمة، لقد أخذ معه 250 من العائلة السعودية أسرى إلى القاهرة، وأخذ معه 150 من عائلة محمد بن عبد الوهاب (آل الشيخ)، أخذهم من رمال نجد إلى ماء النيل وحضارته، لكنه لم يتمكن من نزع مفاعيل التوحيد الوهابي.
أبناء رجل الدعوة درسوا في الأزهر وخالطوا مدارس فقهية وعقائدية متنوعة، لكنهم ظلوا يحملون صلافة توحيد الدرعية، واحد من أهمهم هو الحفيد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، لازم دروس جده قبل المراهقة فقرأ عليه التوحيد إلا قليلاً، وكان ضمن الأسرى الذين أخذهم إبراهيم باشا للقاهرة، هرب بعد عشر سنوات من الأزهر إلى الدرعية، وهناك أكمل دور جده في فوضع شرحاً لكتاب جده (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد).
في رواية (طنين) الصادرة في العام 2006 يسرد علينا الأخ الشقيق لآخر أمراء الدولة السعودية الأولى (خالد بن سعود) وقائع تدمير (الدرعية) التي عايشها وهو ابن 14 عاماً. إنه يسرد هذا التاريخ بوعي مفارق لزمن الحادثة، فقد شب هذا الأمير في القاهرة، وشرب من ماء النيل، وتعرف على مشروع النهضة الذي حمله محمد علي باشا، وانفتحت له كتب العالم، وحفظ أقوال التنويريين في مصر وتركيا والبلدان الأوروبية عن ظهر قلب “لعلها تنفع وأنا أخاطب أهالي نجد” كما يقول.
بعد أن كان محصوراً في نجد في الكتب المحدودة الأفق التي يقررها محمد بن عبدالوهاب لأبناء العائلة الحاكمة. صار هذا الأمير الشاب بعد 18عاماً،، معداً كما خطط له باشا مصر، ليتولى حكم الدولة السعودية الثانية، بكلمة سر أخرى، هي الحضارة الحديثة والنهضة. يعود هذا الشاب متوجاً بجنود الجيش المصري إلى الرياض، ليعيد بناء دولة الدرعية بكلمة مصرية بدل الكلمة الوهابية، فيفشل بعد ثلاث سنوات، ويخرج خائباً طريداً ليموت منفياً في مكة تحت حكم العثمانيين.
اعتبره التاريخ خائناً وعميلاً، فجاءت هذه رواية (طنين) لتعيد له الاعتبار، عبر تقنية الرسائل التي ابتكرها مؤلف الرواية الأمير سيف الإسلام بن سعود بن عبدالعزيز، نقرأ في رسائله التي كتبها لصديق طفولته في الرياض، شهادته على تاريخ تشكل الدولة، من منظور مغاير للرواية الرسمية للدولة كما كتبه ابن غنام وابن بشر، ووجه المغايرة يكمن بالذات في نظرته النقدية لمفهوم التوحيد الذي جعل جعل الدعوة الوهابية تقود الدولة إلى التصرف بتطرف على قاعدة إن أبناء الدرعية هم “مصلحو الكون، خلفاء الله على الأرض وأمناؤه”.
يطرح الأمير في رسائله مجموعة من الأسئلة العميقة: لكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ماذا سيحدث إن توسع المُلك الديني إلى حد اصطدامه بالمُلك الدنيوي للأقوياء الآخرين؟ ماذا لو أن أحد الأطراف أخلّ ضمناً أو علانية ببنود الميثاق والعهد؟ وماذا لو تبين لأحد أطراف العهد أو كليهما أن آخرين يَدّعون أنهم يعملون بكلمة التوحيد، وإنهم يقومون بنصرتها، وأن الشيخ والأمير أو من يأتي من أعقابهما ليسوا مخولين بالانفراد بمهام فرز من هو مسلم حقاً ومن هو كافر؟ ماذا لو أعلنت طائفة مستجدة الحرب على أطراف الميثاق، بحجة خروجهم من مقتضى الإسلام الأعم أو الإيمان الأخص؟
إنها أسئلة راهنة، ويطرحها كاتب الرواية بحذر موارب على الدولة السعودية الحالية. تزداد هذه الأسئلة إلحاحاً مع تقدم الزمن، يجيب عليها الزمان بتأكيد أهميتها وثقلها وبيان حجم حرجها، لقد توسّع المجال الديني الذي يحمل رسالة التوحيد الوهابي الغليظة، احتل مناطق من العالم الإسلامي على تنوعه، وصار يزاحم عقائد الآخرين ويُكفّرها، ووصل إلى الغرب وصار يصنع خلايا متفجرة، باختصار أصبح عبئاً على العالم، ولا قدرة لأحد على مواجهة هذه الأسئلة بصراحة نقدية.
مع غياب الجرأة على مواجهة هذه الأسئلة، ظهرت داعش والنصرة، وقبلها جماعة التوحيد والجهاد (العراق)، جماعة التوحيد (ألمانيا)، جماعة التوحيد والجهاد (مصر)، التوحيد والهجرة (مصر)، التوحيد والهجرة (العراق)، حركة التوحيد والجهاد (غرب أفريقيا)، جماعة التوحيد والجهاد (بيت المقدس)، جماعة التوحيد والجهاد (المغرب الأقصى). صارت تتنازع هذه الجماعات تمثيل التوحيد الوهابي وامتلاكه. صاروا يزايدون على بعضهم في تطبيق شروطه من تكفير للآخرين وضيق بالمختلفين واعتبارهم مشركين ودعوة إلى التبري منهم بالتخلص والقتل.
مازال (طنين) التوحيد يُحرك البنية العميقة للمملكة، إنه مرضها المزمن، كما كان طنين الأذن مرض الأمير خالد بن سعود المزمن. كان رجال مخابرات الامبراطورية العثمانية يسجلون عليه يومياته الأخيرة، ويرسلون تقاريرهم اليومية، وبالتأكيد هناك رجال ورثوا مسؤولية القيام بهذه المهمة بعد أن صار مرض دولة لا مرض رجل في الدولة.
*مقال معد لصحيفة الاتحاد اللبنانية قبل إغلاقها