صك الولاء

يتبدى مفهوم الولاء في الدولة، ليس من خلال دعوات السياسيين والمثقفين بضرورة التحول من الولاءات الضيقة والخاصة إلى الولاء العام للدولة، فتلك لا تتجاوز أن تكون أمنيات في أحسن الأحوال، وفي أسوأها تلاعبات خطابية، لكن مفهوم الولاء، تظهره أصوات الخطابات الاجتماعية حين تشتد أزماتها في موقع الدولة.
خطاب الزميل محمد المحميد في عموده اليومي بصحيفة ”أخبار الخليج”، الذي كان تحت عنوان ”الشعوب ليست سامان ديغة”، يمثل خطاباً من خطابات الجماعات السياسية في الدولة، ومع أن العمود اليومي، هو مكان للرأي الذي يمثل الشخص، غير أنه هذه المرة لم يكن يمثل الشخص، بل كان صوت الجماعة فيه ينطق بما يدور فيها. غير أن هذا لا يعني أن هذا العمود محسوب على جماعة، بل هو محسوب على صاحبه فقط، وإن كان ينطق باسم جماعة و”الناطق باسم المجموعة هو الذي يؤكد على وجودها من خلال شرعية كلامه التي يظهرها[1]” وشرعية كلام هذا الخطاب تأتي من حجة صك الولاء الصامت.
ما الذي يقوله هذا الخطاب؟ وما المفهوم الذي يصدر عنه للولاء؟
يقول ”ونقولها اليوم وبكل جرأة وصراحة لأصحاب القرار والحكم في تلك الأوطان، جمهورية أو إمارة أو حتى مملكة، إن كان من يحرض على القتل والتحريض والتخريب وقلب نظام الحكم يكون ثوابه اليوم اللقاء معكم والجلوس عندكم واستلام العطايا والمناصب منكم، فإن الشعوب الصامتة في 2387079716_da5833c9bcأوطانكم بيدها أن تفعل ما يفعلونه وأكثر، وأن صك الولاء والصمت الأبدي الذي تتصورون أنكم ملكتم به الشعوب فإنها في حل منه، وليس له وجود ولا اعتبار وقد تم إلغاؤه، في اللحظة التي تشعر الشعوب أنها مجرد «سامان ديغة» أو «طنبور طين»، وهذا ما لا ترتضيه لكم ولا لها، لأن وجودها مرتبط بوجودكم، ومستقبلها موثوق بمستقبلكم، غير أن ما تقومون به أثار التساؤلات والاستفهامات والاستغرابات، مما يجعل بعض الشعب مضطرا لأن يطالب بإعادة ترتيب البيت والمستقبل بكم أو حتى من دونكم.. اقرأوا التاريخ.. وأعيدوا تقليب صفحاته، وناقشوا مستشاريكم ومن حولكم، فإن الشعب الصامت يوشك أن يتحرك ويثور جراء السياط والمظالم التي تنزل يوميا على ظهره بسبب قراراتكم وتحولاتكم ولقاءاتكم وعروضكم[2]”.
يصدر هذا الخطاب عن مفهوم للولاء، لا يتسق وشكل الدولة الوطنية الحديثة، فهذا الخطاب يتمثل الولاء وكأنه طاعة خاصة تقدمها جماعة لولاة الأمر، وفي مقابل هذه الطاعة الخاصة على ولاة الأمر أن تعطي هذه الجماعة وحدها مما عندها من ملك، كي تلزم صمتها، ويتهدد هذا الصمت بالثورة وإعادة ترتيب البيت من دون ولاة الأمر في حالة أن الجماعة لم تحصل على مبتغاها من أعطيات ولاة الأمر أو ذهبت إلى جماعة أخرى لا تلتزم صك الصمت الذي تلتزم هي به. هذا الخطاب ناطق إذن باسم جماعة تفهم مواطنيتها في صيغة صك سكوت. لقد قلت إن هذا المفهوم للولاء لا يتناسب وشكل الدولة الوطنية الحديثة، لأن صك الولاء القائم على صك الصمت يغلق الدولة، لأنه يغلق المواطنة التي لا تقوم إلا بحق النطق بالاحتجاج في الميدان العام.
هذا الصك يغلق الدولة على جماعة، ويغلق أبوابها العامة المفتوحة على المجتمع، والمجتمع المفتوح هو المجتمع الذي لا تغلق الدولة أبوابها من دون نطقه. الدولة جامع الولاء، أو هي مجمع الولاءات. الدولة ليست عقداً تصكه جماعة معها، بل هي تقوم على عقد يصكه المجتمع معها (Social Contract)، وهو ليس عقد صمت بل عقد نطق، وذلك لأنه حدق ينص على أن تحمي الدولة نطقهم المختلف والمتعدد والمتضارب المواقع والمصالح، بمعنى أن تكون الدولة نطاق نطقهم الآمن.
وإذا كانت الدولة (السلطة) في طور من أطوارها البدائية، تعطي صكوك غنيمة لجماعة من دون جماعة مقابل صكوك ولائها الصامت، فإنها لن تستطيع أن تكون دولة حديثة ووطنية من دون استيعاب جميع الجماعات المتعددة ضمن صك واحد، هو صك العقد الاجتماعي.
لذلك فهذا المفهوم للولاء، يجعل من صاحبه ناطقا لا باسم الولاء للدولة، بل باسم حقه من الولاء الشخصي أو الجماعي للسلطة في الدولة. ومجاز الصك يحيل إلى السوق وعمليات البيع والشراء، فالصك نوع من أنواع الأوراق التجارية، وكأن الولاء هنا هو عملية بيع تجارية تتم بورقة تجارية، وحين لا يكون لهذه الورقة ما يعادلها، في الخزينة أو في الحساب تفقد قيمتها، وتسقط من قانون التبادل التجاري. الولاء للدولة في شكلها الحديث، لا يمكن أن يستوعبه مجاز الصك، لأن ولاء الصك محكوم بأفق الغنيمة، فمن يملك صك الولاء ينتظر غنيمة من الدولة، والغنيمة في العرف القبلي، هي ما تأخذه القبيلة بالقوة عن طريق الغزو، وتعطيه لحلفائها وشركائها. وهذا النمط من الولاء الذي ينطق بك هذا الخطاب، يعزز من الصور النمطية التي عمل على تكريسها كثير من الكتاب الغربيين والتي هي اليوم محل مراجعة نقدية وعلمية.
فهذه الصور ترى أن دول الخليج [3] ليست إلا قبائل بأعلام tribes with flags، وأن الخليجي لا يشعر بمواطنته في دولة حديثة بل كعضو في تحالف قبلي واسع يمحض فيه ولاءه للشيخ المترئس للتحالف مقابل حصوله على نصيبه من الغنائم. وأن التراث القبلي الطويل المتسم بشراء الولاء والإخلاص تعزز عبر أُعطيات الدولة التي توزع المنافع والمنح لسكانها. والتي يتم توظيفها في شراء الشرعية من خلال الإنفاق العام إضافة إلى الأعطيات الممنوحة لأغراض كسب الولاء الشخصي.
إن منطق الدولة الوطنية الحديث، لا يمكن أن يتناسب وشكل هذا الولاء الذي يصدر عنه الخطاب الذي كان (المحميد) ناطقا باسمه، إنه يفرغ مفهوم الولاء الوطني من قيمته الجوهرية القائمة على أن الدولة وطن لكل الجماعات، وهي تعطيك لمواطنتك، لا لجماعتك، ولولائك لقوانينينها. وحتى لو خالفت قوانينها، فهي تعطيك ما تقرره هذه القوانين أيضا، أما مفهوم الولاء الذي يضيق بأي جماعة تشاركه في الغنيمة، وتزاعمه في النفوذ والسلطة، فهو يناسب القبيلة قبل أن تكون دولة. وهذا المفهوم للولاء المقرون بالغنيمة هو ما يؤكده نطق هذا الخطاب ”وتقديم الهبات والعروض والمناصب والمسؤوليات.. الأموال والمناصب فأعطوهم ما تشاءون، ولكن لا تبخلوا ولا تمنعوا الخير عن أبناء الوطن الآخرين المخلصين[4]”.

http://alwaqt.com/blog_art.php?baid=6747

الهوامش

[1]علي سالم، البناء على بيار بورديو، ص98.

[2] ، [4] جريدة أخبار الخليج، العدد 10987 ،الثلاثاء22 أبريل 2008 م

http://www.akhbar-alkhaleej.com/ArticlesFO.asp?Article=235003&Sn=RYTH

[3] انظر:محمد عبيد غباش، سلطة أكثر من مطلقة.. مجتمع أقل من عاجز .. الدولة الخليجية

http://editorials.blogunited.org /

18 تعليقا على “صك الولاء”

اترك تعليقاً