عزازيل الأديان

”وقتل الناس باسم الدين لا يجعله دينا”[1]

بل يجعله تاريخاً قابلا للدارية والنقد لا للرواية (الرواية وفق معنى علم الحديث). التاريخ المسيحي والتاريخ الإسلامي والتاريخ اليهودي، وتواريخ كل الديانات هي في جزء كبير منها تواريخ قتل، وهذا الجزء يحق لأي كان روايته (بالمعنى الحديث للرواية) أي جعله موضوعاً للسرد وفق رؤية ما.

الدين ليس مطلقا من التاريخ، وليس مطلقا من العنف، ولا من الأرض ولا من الدنيا ولا من الإنسان ولا من الشيطان، الدين هو تجربة الإنسان في التاريخ، وهي تجربة يكون فيها للدين معنى من خلال الإنسان وطبائعه.

(عزازيل) تسرد وقائع تاريخية عبر قصة متخيلة أو عبر قصة شخص متخيل، وهو الراهب (هيبا). هيبا هو الشخصية المتخيلة التي تعيننا على قراءة هذه الوقائع، وبدونها تفقد هذه الوقائع معناها وتفقد الرواية اعتبارها بالتاريخ، فالتاريخ موضوع للاعتبار، ولا يمكنك أن تعتبر بوقائعه إذا لم تتمكن من عبورها، وذلك بعبور زمنها الماضي ومعناها الديني أو السياسي لاستخلاص زمن جديد ومعنى جديد.أي أن تعبر موتها الماضي وسكوتها، بإحيائها واستنطاقها في الحاضر.

تجربة الدين في التاريخ، بحاجة إلى رواية دوماً، والرواية بمعناها الحديث هي الدراية، وليس بالمعنى القديم أي النقل، فالرواية تقدم معرفة حية تجعلك تدري وتفهم وتفسِّر وتؤوِّل.

الخطايا ترجعها الأديان دوما لعزازيل، لكن الرواية يمكنها بدرايتها أن تعيد علاقة عزازيل بالإنسان بشكل آخر، ففي هذه الرواية جعلت من عزازيل المحرك الأول لاعترافات الإنسان والمحرض له على كتابة اعترافاته في ثلاثين رقاً. عزازيل دفع هيبا للكتابة ليذكر البشرية بخطايا الدين والإنسان في التاريخ، يخاطب هيبا:

”يا هيبا قلت لك مرارا أنا لا أجيء ولا أذهب.أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. فأنا آت إليك منك، وبك، وفيك، إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمدّ بساط خيالك، أو أقلّب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك، أنا الذي لا غنى لك عنه، ولا غنى لغيرك”[2].

الأديان مادامت ليست مطلقة من التاريخ، فهي ليست مطلقة من عزازيل (الشيطان)، فهي تجيء به وتذهب به، وعزازيل يسكن في تفاصيل التاريخ.

الدين المطلق من التاريخ، هو مطلق من الإنسان، والدين من غير إنسان لا معنى له. لا معنى لدين معلّق في السماء، كي ينطق هذا الدين، فعليه أن ينزل إلى الإنسان والإنسان حيث التاريخ.

الذين سحلوا الفيلسوفة الرياضية (هيباتا) وجردوها من ملابسها وأحرقوها، في مدينة الإسكندرية في 415م كانوا قد خرجوا يسحبونها من شعرها تحت شعار يسوع الذي كان يردده البابا كيرُلُّس ”ما جئت لألقي في الأرض سلاما بل سيفا”[3] وكانوا يرددون ”بعون السماء سوف نطهر أرض الرب..اليوم نطهر أرض الرب…جئناك يا عاهرة ياعدوة الرب”[4].

سحلوها حين نزل عليهم الدين، حين صار منسوبا إليهم لا مطلقا منهم، حين ينزل الدين يحتاج إلى رواية، لسنا بحاجة اليوم إلى روايات أحاديث بل بحاجة إلى رويات رؤى، رويات ترينا تاريخ الأديان، وهي تأخذ معانيها في شكل سلطات وطوائف ومذاهب ودول وأمبراطوريات وممالك ومؤسسات.

لذلك على الأديان أن تعتذر وتعترف بأخطائها في التاريخ، فليس الفرد وحده صاحب الخطيئة، بل الأفراد حين تصير جماعات تزداد خطاياهم، وهي غالبا لا تصير جماعات إلا بالدين.

الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، في محاضرته الشهيرة (لماذا لست مسيحيا؟) يقول ”توجد حقيقة عجيبة أن الوحشية تزداد وأن الوضع العام يسوء كلما قوي الدين، وكلما اشتدت العقيدة الدينية. في ما يُسمى بعهود الإيمان، عندما كان الإيمان بالدين المسيحي أقوى ما يمكن، كانت محاكم التفتيش موجودة بتعذيبها وتم حرق ملايين النساء بتهمة السحر وباسم الدين تمت ممارسة كل أنواع الفظاعة الممكنة”.[5]

يجرِّدون الدين ويجعلونه مطلقا، هم من يقومون بذلك، حين يزعمون أنهم يحرقون ويسحلون ويعذبون باسم الدين مطلقا، الدين مطلقا بحسب زعمهم من مصالحهم ووجهات نظرهم واختلافاتهم وزمانهم.

كانت الراهب (هيبا) شاهداً على هذه الفظاعات، وخلال رحلته التي امتدت من جنوب مصر إلى الإسكندرية إلى أورشليم إلى حلب إلى أنطاكية، كان يروي هذه الفظاعات الدينية. نحن فعلا بحاجة إلى راهب يروي لا راهب يحدّث. لأن من يروي يرينا الدين في التاريخ كي نحيا على نحو مختلف، ومن يحدّث يرجعنا إلى ميتين كي يرضوا عنا ”لا تكن مثل ميت ينطق عن ميتين ليرضي ميتين”.

رواية (عزازيل) لا تنطق عن ميتين، بل تستنطق ميتين، كي لا يكون هناك مشاريع أموات يقدمون حياتهم ليرضوا تاريخ أموات. الرواية بهذا المعنى شهادة حياة، لذلك قال له عزازيل ليجنبه الموت: ”تحيا يا هيبا لتكتب، فتظل حيا حتى حين تموت في الموعد، وأظل حيا في كتاباتك..اكتب يا هيبا فمن يكتب لن يموت”.

من يريدون الدين للموت، ليصنعوا مشاريع أموات جدد أو لينطقوا عن ميتين، لا يريدون للكتابة أن تروي، يريدونها أن تتحدث. لا يريدونها أن تروي فظائعهم بل أن تتحدث عن أمجادهم.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11139

هوامش

[1]،[2]،[3]،[4] يوسف زيدان، رواية عزازيل، دار الشروق،ص185.100.152.155

[5] موقع الحوار المتمدن:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=177055

اترك تعليقاً