أرشيف التصنيف: مقالات

وما رميتَ إذ رميتَ قلبَ بثينة، يا شجاع الدوسري

«كانت تطمح لخدمة الإنسانية والوطن عبر التحاقها بكلية الطب»

عم الشهيدة جعفر العباد

الإرهابي شجاع الدوسري

وما رميتَ إذ رميتَ قلبَ بثينة، يا شجاع، ما كانت الرصاصة لتكون في طريقها إليكِ لولا عشرات النصوص التي رسمت خارطتها وحددت أحداثياتها، وما رميت إذ رميت يا شجاع الدوسري، لكن ابن تيمية ومحمد عبدالرهاب رمى.

بقلبها الموالي للإنسانية تلقت بثينة رصاصة البراءة من الإنسانية، لتكون شاهدة على ما تفعله نصوص التوحش في قلب الحاضر، لقد خدمت بثينة الإنسانية بقلبها الذي سيظل نصاً ناصع البياض ضد نصوص شديدة السواد. ليست (البراءة) هنا كلمة أدبية أو شاعرية، بل هي مفهوم عقائدي مركزي في نصوص التوحش، وهو يعني التبرؤ بالقلب واليد واللسان من الذين لا يؤمنون بعقيدة التوحيد السلفية التي سكها ابن تيمية.

البراءة هي التوحيد العملي في تعاليم ابن تيمية ومحمد عبدالوهاب. هي ملة إبراهيم كما يشرحها تلميذهما الوفي أبو محمد المقدسي الذي يقول “ملة إبراهيم إذاً هي طريق الدعوة الصحيحة التي فيها مفارقة الأحباب وقطع الرقاب”. أن تتبرأ من بثينة العباد وتنكر عليها توحيدها الذي هو شرك يخطو بها نحو الحسينية الحيدرية (معبد للرافضة الشركيين حسب بيان داعش). التوحيد النظري الذي تدرسه جامعات المملكة وجوامعها لا يكفي. تحتاج توحيد عملي وهو الكراهية وهي لا تكفي فلا بد أن تعضدها بالبغض، وهو لا يكفي فلا بد أن تعضده بالبراءة البادية الظاهرة، وهي موقف عملي يتطلب الإعلان “لا بدّ أيضاً من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين ظاهرتين بيّنتين”

وأفضل شكل لهذا الإعلان، هو ما يتجسد عمليا بحيث يُرى ويظهر ويُلمس ويُسكت النفس الأخير أي أن تقتل من تعتبرهم عقيدتك التوحيدية مشركين وكفارا. الرصاصة التي استقرت في قلب دكتورة بثينة كانت دليل النص الذي يحتج بقشوره (أسود التوحيد): ابن تيمية وابن عبدالوهاب وإخوان من طاع الله وجهيمان والمقدسي والبنعلي والبغدادي وابن باز وجماعة السلفية المحتسبة والألباني وإخوان بريدة وجماعة التوحيد والجهاد.

يقول محمد بن عبد الوهاب “أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:  الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه وتكفير من فعله”.

(التحريض) على المعاداة والتكفير والتغليظ، إنها كلمة السر، التحريض يكاد يكون في الدعوة السلفية يمثل أصل التوحيد، وهو التوحيد العملي، وهو أحد مقتضيات البراءة السلفية، بمعنى أن نحرض ضد من لا يؤمنون بما نؤمن به.

براءة قلب بثينة عامر بالحب تحضر فيه البهجة والانفتاح والتضحية من أجل الإنسان، مقابل قلب الإرهابي (شجاع الدوسري) الموتور بعقيدة البراءة من الإنسان، قلبه مصاغ وفق شرط التوحيد الذي يبشر به نص ابن تيمية الصارم المسلول. القلب تصح عقيدته حين يتبرأ من الإنسان الذي لا يشبهه ولا يتطابق معه في عقيدته.

في اللحظة التي سقط فيها قلب (بثينة) كنت مشغولا بقراءة قلب مملكة نصوص التوحش، كنت أقرأ في كتاب الباحث الفرنسي (ستيفان لاكروا) وهو يعرض خارطة تبادل نصوص التوحش في الساحة السعودية طوال نصف قرن، منذ اللحظة التي التقت فيها الجماعات السلفية السعودية التقليدية بجماعات الإخوان المسلمين الفارين من جمال عبدالناصر، تعلموا منهم كيف يحركون النصوص لتكون مؤسسات وأنظمة وشبكات وجماعات لإنتاج مجتمع ناطق بهذه النصوص في كل حركة من حركاته. الحركات الجهادية هي نتاج هذا التزاوج، بين النص السلفي والخط الحركي للإخوان، لقد  تحرك عبرهم الوحش الكامن في نصوص (الحاكمية) و(الجاهلية) و(البراءة) و(التكفير) و(الولاء).

بين "أرثوذكسية السلاجقة" و "سلفية ابن تيميه" علي الديري يستنطق التاريخ

"وجوهنا مسروقة ومشوّهة وقاسية وقبيحة بسبب هذا الوحش. لن تجدي معنا عمليات التجميل والترقيع، ولن تتمكن شركات العلاقات العامة مهما ملكت من أساطين الإعلام وأساطيره، من تحسين صورة وجوهنا الكالحة، لا بد من قتل الوحش وتفكيك اداوته الفتاكة بنا".

*زينب الطحان

هنا في هذا المقطع يسّوغ علي احمد الديري سبب تأليفه كتاب "نصوص متوحشة : التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيميه"، ليأتي رداً حضارياً يكشف معه الوجه الحقيقي لمنابع هذه النصوص المتوحشة، التي يدور الجدل حولها بين قائل بأن في الدين جذوراً تؤسس لتفاعلية منطق القتل وإلغاء الأخر وبين مقتنع أخر يقول بأن النص الديني جُيّر في خدمة السلطة السياسية الحاكمة.

وتعبير الكاتب "لا بد من قتل الوحش وتفكيك أدواته الفتاكة بنا "، يحمل في طيّاته رسالة نشر الكلمة الصادقة في قول الحقيقة التي تزيح السردية التي يحتمي خلفها هذا الوحش ومن ثم يعمل على تفكيكها نحو إزالتها من الانتساب للنص الديني. واعتقد أن هذه مهمة صعبة للغاية وشاقة، لأنها تتطلب من الباحث في هذا المضمار التوغل في بطون كتب التراث الإسلامي واستنباطها مجدداً في لغة معاصرة تتوافق والسياق المعرفي الراهن.
فمنذ بدء إعلان الظاهرة "السلفية المتوحشة" عن وجودها في بلادنا ومع بدء الحرب وما تجرّه من فوضى مدّمرة لتاريخنا كتبت العشرات من المقالات الصحفية تبحث في الجذور الدينية لهذه الظاهرة وتؤسس عليها أحكامها. كما بدأت تنتشر الدراسات البحثية محاولة الغوص في كتب التأويل لمفهومي التكفير والإيمان الأبرز اللذين يشَكلان العامود الأساسي لقيام هذه الحركات وبهما تعتمد على امتداد وجودها الجغرافي والتركيبي في بينة المجتمع العربي والإسلامي.
غير أن كتاب "نصوص متوحشة : التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيميه"، يقدم معرفة من نوع أخر، تشرح بجدارة توثيقية فيها بنية تحليلية كيف تمّ تفسير السياق التاريخي والسياسي الذي مكّن نصوص التوحش من أن يكون لها شرعيتها الدينية ومكّنها من تثبيت أطروحاتها ضمن الحس الإسلامي العام، كيف صار التكفير موضوعاً سياسياً يشرعنّه الفقهاء (رجل الملة) ضمن اجهزة الخلافة الإسلامية (رجل الدولة).

وهو قد يفاجئ تيارا كبيرا من مثقفي العرب الذين يتغّنون بأحد كبار الفلاسفة الذي حفر عميقا في التصورات الإسلامية بأنه من أوائل العاملين على صياغة خطاب التكفير في ثقافتنا الإسلامية في كتابه "فضائح الباطنية" قبل ابن تيميه الذي يردّ إليه الباحثون أصولية الفكر التكفيري في الإسلام. وهذا الفيلسوف هو أبو حامد الغزالي، الذي درسناه في المرحلة الثانوية في لبنان على سبيل المثال على أنه من الفلاسفة المتنورين في التاريخ الإسلامي.
الكتاب يكشف النقاب عن المخبوء في كتب التاريخ ليتبيّن أن هذا الفيلسوف الفذ كان ينفّذ خطة نظام الملك السلجوقي في إسكات الصوت الآخر من المذاهب الإسلامية بل وقمعها وتوسيمها بالكفر والالحاد وإخراجها من بيت الإسلام لأنها بكل بساطة ليست على مذهب الملك وحاشيته.

وكان الملفت أن نعرف أن الغزالي كان ينعت مواقف الخليفة المستبد بالمواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية لإضفاء القداسة على مواقف المستظهر بالله. والأبرز في كتاب الغزالي الذي ذكرناه هو الباب الثامن الذي يدعي فيه الكشف عن فتوى الشرع في حقهم من التكفير وسفك الدم. ومن هنا يظهر بوضوح كيف صيغ دفاع سياسي عقائدي عن الخليفة العباسي ضد خصومه السياسيين الذين شملهم الغزالي باسم الباطنية.
أما في مرحلة ابن تيميه، والتي تعدّ الحلقة الوسطى بين ابن حنبل ومؤسس المذهب الوهابي محمد ابن عبد الوهاب(1703) شكلت المحضن التأسيسي والتاريخي للتيار السلفي، وفي كل حلقة كان هذا التيار يتجه نحو المزيد من التأصيل والتشدد. ولم تكن مصادفة أن يتزامن ذلك دائماً مع تحديات حضارية كبرى. والسلفية المعاصرة اليوم كحلقة راهنة تطلق موجة دفاع عن العقيدة لا تختلف في دوافعها عن سلفيات الأمس، وإن اختلفت في الوسائل والأساليب وبعض الاجتهادات.
ولم يكن ابن تيميه موظفاً داخل بلاط السلطة على غرار الغزالي كما يقول الكاتب، مع ذلك فإن نص ابن تيميه يتقاطع مع نص السلطة والقوة، وهذا التقاطع أدى دورا كبيرا في صناعة نصوص توحش وواقع متوحش أيضا، ففتاويه أدت دورا فظيعا في إحداث المجازر الدينية واستمرت حتى اليوم، إذ إن نصه لا يزال فاعلا ومستخدما من الجماعات التكفيرية إلى الان، في سياق تاريخي اوصلتنا إليه حركة محمد عبد الوهاب الذي اعاد إحياء تراث ابن تيميه مساهما أبعد إساهم في تأسيس الدولة السعودية الأولى بعد ميثاق الدرعية في العام 1745 بين رجل ملة ورجل الدولة محمد ابن سعود، وصولا إلى لحظتنا الراهنة التي لا تزال السعودية فيها تغذي النص الديني المتوحش في فتاوى يصدرها مشايخ السلطة وفي اعمال توحشية تنفذها الجماعات التكفيرية.
كتاب الأخ العزيز علي الديري يستحق القراءة والتوقف مليا عند ما يقدمه من رؤية تحليلية ففيه تجلٍ لكثير من القضايا المعقدة المتعلقة بظاهرة التكفير ومدى ارتباطها بالنص الديني.

* مداخلة ألقيت في حفل توقيع كتاب الدكتور علي الديري

المصدر: موقع المنار

رابط الموضوع: http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=1318304

نصوص متوحشة: قراءة سياسية لفكرة التكفير

photo_2015-08-08_12-00-33

عبد الرحمن جاسم

“لا تتسرعوا في ابداء الحكم، ففي ذلك مقتل”
راينر ماريا ريلكه (شاعر ألماني)

منذ البداية أحسست بأنني مشدود لقراءة كتاب “نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيميه” لكاتبه البحراني د. علي الديري، قبل أي شيء، فتمهيد الكتاب –والذي أنصح الجميع بقراءته- هو “عين” الدكتور علي وروحه التي تبدو معلقة بين الكلمات. إنه يريد منا جميعاً أن نفهم ما هو هدفه الخاص من جراء هكذا “دراسة” .  تبدو الأسباب الشخصية بائنةً للعيان. قد يرى البعض هذا مشكلةً في النص، بل قد يراها بعض آخر أنها “تضعفه” ولكن المدرسة الحديثة في “الأبحاث” ترى أن “رغبة” الشخص “الخاصة” في “كشف” الحقيقة و”إيضاحها” للناس تجعله باحثاً “شرساً” ومغامراً عنيداً في سبيل المعرفة، لا بل إن بعض الجامعات يحض عليها، وتعطي الأفضلية للباحثين المرتبطين بقضايا شخصية مع المادة “المبحوث” فيها وعنها.

 

هذا كله، لم يمنع حس الناقد بداخلي من التحرك، كنت أريد أجوبة عن أربعة أسئلة يعتبرها الناقد سلاحه الأبرز: ماذا؟ لماذا؟ كيف؟ أين؟. كنت أريد أن أسأل ماذا يكتنز هذا الكتاب؟ خصوصاً لعلمي أن الدكتور علي يمتلك خلفيةً مرتبطة بتحليل الخطاب، وكذلك كيفية استعمال “المجاز” فضلاً عن إدراكه كيفية استعمال “الفلاسفة” لمنطقهم التفكيري. لكن هذه المرة هو يتحدث عن “التكفير”، لربما لما للمعنى/الفكرة من أهمية في عصرنا الحالي أو كما كتبه هو على غلاف الكتاب: إننا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الآن لأن هناك وحشا حقيرا يسرق وجوهنا باسم الدين، والخلافة الإسلامية والمدارس الإسلامية والأئمة الإسلاميين. يعتبرنا هذا الوحش أعداء يجب قتلهم وسبيهم، وينظر إلى ممارساته هذه كعبادةٍ كما سائر العبادات من حيث كون التكفير شعيرةً دينية. ولا ريب أن هكذا كلمات هي الإجابة الرئيسية عن “ماذا” و”لماذا” هذا الكتاب.

ماذا عن “كيف” إذاً؟ يتناول د. علي القضية الشائكة بين أيدينا بهدأةٍ شديدة، وإن “بشراسة” المحقق، فهو يبدأ بتعرية الموضوع الماثل أمامنا تاريخياً متناولاً إياه “كموضوع سياسي” بحت، يعيده إلى مراحله الأولى من خلال ثلاثة فصولٍ يتناول فيها أبرز مراحل القضية المطروحة:

بيئة السلاجقة (في القرن الخامس الهجري) مع قراءة لنصوص الغزالي الخاصة بهذا النوع من الفكر، بيئة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وأخيراً بيئة القرن الثامن الهجري مع سلطة المماليك ونصوص ابن تيمية). يبدأ البحث من خلال “نقاشٍ تمهيدي” عن التكفير منقسماً بين “رجل الدولة ورجل الملة” وكيف أن كليهما ظهر بهذا الشكل الواضح والمباشر عند قيام الدولة السلجوقية بتطبيق “السلطة الدينية التكفيرية” كنظام حكم (وليس قبلها كما يدعي البعض، ففي السابق كان الأمر مجرد سلوكٍ فردي”، ولكن هذا لا يعني البتة اختراع السلاجقة للتكفير).

يتناول في الفصل الأول المرحلة السلجوقية الأولى التي أدخلت المفهوم كتحرك سياسي “نظامي”، فيتحدث عن كتاب “سياست نامه” أو ما عرف بالعربية بكتاب “سير الملوك” للوزير السلجوقي الشهير نظام الملك الطوسي، وزير ملكشاه ابن محمد؛ إنه كتابٌ يعين “الحاكم على أمته” ويدله على أيسر وأبسط السبل التي تجعله قادراً على “خنق” معارضيه والإمساك بتلابيب الحكم حتى يشاء. أنشأ الوزير نظام الملك مدارس عرفت باسم المدارس النظامية، هذه المدارس التي من شأنها حماية الحكم السلجوقي ونشر “المذهب الشافعي” الذي كان نظام الملك “متعصباً شرساً” له، ولمعاداة الشيعة الإسماعيلية تحديداً (الذين كانوا يمتلكون قوة آنذاك). لقد كانت هذه المدارس التي انتشرت بكثرة سبباً رئيسياً في تخليق “الأرثوذكسية” الدينية (وهو مصطلح استعمله محمد أركون بدايةً لتوصيف تأطير الدين بهذه الطريقة القاسية). وقد تأطر هذا النظام إلى الدرجة التي أصبح فيها ممثلاً للدولة السلجوقية بأكملها. طبعاً هذه كانت المرحلة الأولى من “التكفير” لتتبعها المرحلة الثانية مع أبي حامد الغزالي، ويستعير كتاباً للرجل وهو “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” وفيه يتعامل الغزالي مع الباطنيين بمنطق “التكفير” المطلق وبصفتهم خارجين على ولي الأمر والإسلام وإجماع الأمة حكماً، فيما يظهر كتابه “فضائل المستظهرية” كتكريس لشرعية الخليفة العباسي المستظهر بالله (والذي كان في الـ 17 فقط من عمره آنذاك) كخليفة حق وولي أمر مفترض الطاعة. يظهر “التوحش” ههنا بشكلٍ واضح: إذ يكفي أن نعرف فقط أن أكل ذبائح “هؤلاء” هو “محرم” حتى نعرف عمّ تحدث الغزالي هنا، إن هؤلاء يصبحون حين تكفيرهم: خروجاً عن الإنسانية بشكلٍ كامل قاطع.

كتاب نصوص متوحشة

قراءة سياسية لفكرة التكفير

يأتي الفصل الثاني ليبتعد قليلاً عن مركزية الدولة المتمركزة في بغداد، ليقترب إلى المغرب العربي من خلال تجربة “دولة الموحدين” مع مفكرها ابن تومرت، الفقيه المغربي الشهير ورجل الدولة الأول هناك. وابن تومرت هذا لمن لا يعرفه، هو خريج من خريجي ذات المدرسة، أي النظامية، وقد التقى أثناء زيارته للمشرق والتي طالت سنين عدة (وقد أعطته هالةً مقدسة استخدمها في كل معاركه لاحقاً)، بالغزالي بحسب رواياتٍ كثيرة، وتأثر به كثيراً وقد أعجب الرجل بأسلوب أئمة الأشعرية واستحسن أسلوبهم في الدفاع عن العقائد السلفية، واستطاب رأيهم فيها. ربط ابن تومرت بين فكرتي التوحيد والتوحش معاً ودمجهما مع “لذة الجهاد”، وقد أدت “مواجهته” العنيفة مع “المرابطون” (الذين سيكون القاضي عليهم لاحقاً) وفقهائهم من المالكية إلى تخليق مذهبه الخاص وجماعته الخاصة التي دعت نفسها “الموحدون” في إيحاءٍ دقيق: نحن الوحيدون الذين نعتنق التوحيد الصحيح. ويستعير الدكتور علي كلماتٍ للذهبي في كتابه “العبر في خبر من غبر” حالة ابن تومرت: جره إقدامه وجرأته إلى حب الرئاسة والظهور وارتكاب المحظور”. ويشير الكتاب إلى أنَّ “عقوبة الحرق” (والتي استخدمتها داعش لاحقاً بعدهم بسنين) تم استخدامها من قبل “الموحدين”.

أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فهو يتناول لربما أحد أشهر الأسماء في “عالم” التكفير اليوم والتوحش بلغته الحديثة، إنه ابن تيمية متمظهراً في دولة المماليك وإن بفشلٍ كبير مقارنةً مع من سبقوه (فهو لم يتمكن من أن يؤسس دولةً، بل سجن، وبقيت كتبه تنتظر مئات السنين حتى ظهور محمد بن عبد الوهاب وتمكنه من جعلها عقيدة الدولة السعودية الرسمية في العام 1745 م). سيشتهر الرجل بعد معركة “شقحب” الشهيرة بين المغول والمماليك، والتي كان فيها بطلاً ونازع فيها السلطان الناصر بن قلاوون الضجة والشهرة، يومها قال ابن تيمية كلمته الشهيرة: “انا رجل ملة لا رجل دولة”. وهي جملةٌ “كاذبة” للغاية من رجلٍ يبحث عن “السلطة قبل أي شيء”. عارض الشيخ كل شيء، وأحكمت فتاويه “السيف” في جميع “المخالفين” والأقليات التي عدّها كلها “كافرة” وتستحق “الموت”، ولكن أبرز من عاداهم وللمفارقة هم “الأشاعرة” بالذات. حارب الرجل مذهب الأشاعرة لا لسبب إلا لأنهم ينافسونه على ملعبه وبين جمهوره، فهم يقولون “زوراً وبهتاناً” بحسب كلامه إنهم “مذهب الدولة” و”مذهب أهل السنة والجماعة”. وهذا أمرٌ لا يرتضيه أبداً. تظهر الخلافات ههنا بين المذهبين وبحدةٍ أيضاً: فابن تيمية يحاسب الأشعري على كتابه الأخير الذي كتبه أي “الإبانة” ويعتبره أنه “سلفي” كما يرغب، بينما يأتي الأشاعرة ميالين لقراءة كل تاريخه والتعامل على هذا الأساس مع ما يحدث.  يشرح الفصل صراعات ابن تيمية الكثيرة ضد أي شيء يخالفه، وكل شيءٍ “يمكن استخدامه” لتضعيف خصومه والقضاء عليهم. ويكفي أن نتحدث عن “توحش” ابن تيمية في الرسالة “الفتوى” التي أرسها إلى السلطان الملك الناصر بن قلاوون حيث يعطيه فيها “الشرعية الكاملة” لكل ما قام به من مذابح قتل خلالها “الشيعة” المعارضين له،  معتبراً أنه في كل 100 عام يأتي مجددٌ للدين وهذا المجدد هو قلاوون، ويعتبر أنَّ ما فعله الناصر هو نفس ما فعله الخلفاء الراشدون في حروب الردة، قائلاً في فتواه: “يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين ببعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة”.

في الختام؛ هو كتابٌ ذو جهدٍ كبير وحثيث في تناول “التوحش” من منابعه، وكيف أنّه يتعدى مرحلة الفكرة الدينية بكثير ليصلها بفكرة السياسة، وكيف أن هذه الدول استخدمت الدين/المذهب كوسيلةٍ للقضاء على أعدائها دون أي مسوغٍ منطقي سوى ألعاب حواة من قبل شخصياتٍ كانت تمتلك لساناً حذقاً، وعقلاً خلبياً يمكنهم من “قتل معارضيهم بكل طمأنينة بال، وهدوء سريرة”.

الكاتب وسام السبع في جريدة الوسط: مآسي الهوس الديني… ونصوص التوحش

     

    يطرح الأكاديمي والناقد البحريني المغترب علي الديري في كتابه الجديد «نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة…»، (2015) نقاشاً جدياً للنزعة التكفيرية التي هيمنت على خطاب المؤسسة الدينية، مستعيناً بدرس التاريخ وتقصي مراحله المفصلية الملتهبة والمثقلة بالصراعات العقائدية. جديدٌ في 217 صفحة من القطع المتوسط يطل علينا من بيروت «دوحة الأزر وسط مستنقع الكفر» والذي أهدى عمله إليها وهي التي «لا يمضي هواها» كما في نص إهدائه الشاعري.

    كانت قراءتي للكتاب متزامنةً مع قراءة كتاب آخر للبريطاني ماثيو كارك «الدين والدم… إبادة شعب الأندلس»، وفيه يسرد المآسي التي تصورها قصة الأندلس أو ايبيريا الإسلامية، ووجدت أن التوحش واحد، ودوافعه ونصوصه متشابهة، فإذا كان كتاب «الدين والدم» يبحث بطريقة رصينة ومحايدة وشاملة قصة المورسكيين ومصيرهم المأساوي بداية من سقوط غرناطة العام 1492 حتى طردهم النهائي من أسبانيا العام 1614، في ظل الممالك المسيحية؛ فإن «نصوص التوحش» يبحث المآسي التي أنتجتها سرديات التكفير في الفضاء الإسلامي الخالص والذي سيغذي شهوة القتل في جوّ مليء بالتنافس والأطماع السياسية.

    في كل مرة يطل علينا الديري في عمل جديد يتحفنا بأطروحة جديدة يعالجها باقتدار وتمكن وصبر، والصبر في كتب من ذلك النوع الذي يكتبه الديري شرط يوازي الاتقان، وقيمة أي كتاب تكمن في قدرته على استعراض أطروحة رئيسية جديدة تتسم بالراهنية وتتمتع بالعمق، وفي أسلوبه وكلماته تاليًّا؛ وفي الحالين فإن الديري أثبت غير مرة في أعمال فكرية سابقة (له 6 كتب منشورة بينها «خارج الطائفة» 2011، وكيف يفكر الفلاسفة؟ 2013)، قدرة استثنائية على خوض ملفات فكرية شائكة مستعيناً بخبرة ثقافية واسعة واستعداد ذاتي عالي يمكنانه من الدخول لمناطق بكر في تراثنا الثقافي يتهيب وربما يعجز كثيرون عن ارتيادها ومقاربتها.

    في مقاربته لنصوص التوحش، يجتهد الديري في قراءة النص المتوحش في سياق اقترانه بالسلطة أو سياق سعيه لامتلاك السلطة. يقول: «أسعى في هذا المجال إلى قراءة نصوص ليس كاجتهادات فقهية أو عقائدية بل كمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، كما هو الأمر مع كتاب الغزالي (فضائح الباطنية) الذي كتبه برسم السياسة السلجوقية في حربها ضد الفاطميين».

    يتشكل الكتاب من تمهيد ومدخل وثلاثة فصول خصّ في كل منها دراسة معمقة لتراث واحد من رموز فقهاء التوحش ومنتجي سرديات التكفير، الأول أبو حامد الغزالي (ت 1111م/ 505هـ) في كتابه «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية» في المرحلة السلجوقية، والثاني محمد ابن تومرت (ت 1130م/ 524 هـ) في المرحلة الموحدية، والثالث ابن تيمية (ت 1328م/ 728 هـ) في المرحلة المملوكية.

    توقف الديري إذاً عند فكر الغزالي، ودرس كتابه (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية)، وانطلق من هذا الكتاب في إيضاح المقصود من نصوص التوحش، لافتاً القارئ إلى الفصل الثامن من الكتاب الذي تناول فيه الغزالي قضية تكفير الباطنية التي يقصد بها الإسماعيليين ووجوب سفك دمهم. والتفسير الذي يمكن سوقه هنا لاستهداف الغزالي للإسماعيليين، هو بسبب الصراع السياسي الدائر بين الفاطميين (الإسماعيليين) مع الخلافة العباسية التي كانت تحت حكم السلاجقة، وكان الوجود الإسماعيلي المتعاظم يشكل تهديداً جدّياً حتى لنظام الخلافة وقتئذٍ.

    وجد السلاجقة في الصليبيين العدو الذي يهدّد الإسلام والخلافة الشرعية، لكنهم قبل ذلك وجدوها في الإسماعيلية، وحين بدأت الحروب الصليبية تم توسيع دائرة العدو فألحق الإسماعيلية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشويهاً للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسبباً في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.

    ينتهي الديري إلى أن الخطاب الذي بلوره الغزالي فتح أصلاً مؤسساً لفكرة التكفير، وهو خطيرٌ لأنه مبني على قواعد شرعية وعقديّة وخطاب عالم قريب من السلطة، بل هو جزء منها، ولهذه الجهة بالذات تمثل نصوص الغزالي أخطر من الخوارج الذين لم ينتجوا نصوصاً رغم عظم الدور الذي مارسوه في مراحل متقدمة من التاريخ وحياة المجتمع الإسلامي.

    «نص التكفير يبقى ويستخدم ويولّد نصوصاً أخرى، ويجعل الاختلافات السياسية حالة عداء لا تنتهي، في حين أن الخلاف السياسي قد ينتهي».

    وإلى المغرب العربي والأندلس، حيث الفقيه المغربي ابن تومرت رجل دولة الموحدين الأول، والذي عاش في الفترة التي حكم فيها السلاجقة بغداد. وهو أحد خريجي المدارس النظامية، وقد التقى بالغزالي وتأثر به أثناء رحلته المشرقية في التحصيل. عاش ابن تومرت في بيئة أضعفها التفكّك وأنهكها التهديد الصليبي للوجود الإسلامي في الأندلس والمغرب. وقد جاء وهو يفكر في مشروع إنقاذي يستعيد للمسلمين بعضاً من هيبتهم المفقودة وعزهم المسلوب. وهنا انهمك في صياغة عقيدة متشدّدة فيما يخص التعالي الرباني والتوحيد الإلهي، وسيبلور مفهوماً احتكارياً للتوحيد على جماعته «الموحدون»، باعتبارها الجماعة التي تعتنق التوحيد الصحيح، وستكون العقيدة «المرشدة» نشيد دولة الموحدين.

    في الفصل الثالث والأخير استعرض فيه المؤلف نصوص الحقبة المملوكية التي تقاطعت فيها نصوص التشدّد مع نص السياسة والسلطة والقوة، ولعب هذا التقاطع دوراً كبيراً في صناعة نصوص توحش وواقع متوحش أيضاً، حيث لعبت الفتاوى دوراً كبيراً في إحداث مجازر دينية مستمرة حتى اليوم. وكان أشهرها الفتوى التاريخية التي أرسلت لسلطان المماليك الناصر بن قلاوون وأعطت المشروعية الدينية لتنفيذ مذبحة كسروان التي قام بها 50 ألف جندي من المماليك فيما عرف بـ «فتوح كسروان»، وهي تسمية مشتقة من تهنئة الفتح التي وردت في نص الفتوى.

    إن الفرضية التي انطلق منها الديري في دراساته صاغها في هذه الجملة المختصرة: «الوحش يكمن في (الأرثوذكسية السلجوقية) هذا هو الوحش الذي يسرق وجوهنا». فقد أصبحت نصوص التكفير والتوحش عابرة للتاريخ والجغرافيا ولوائح اتهام سياسي جاهزة للاستخدام والتوظيف ضد الخصوم السياسيين والعقائديين. وقد وُفّق المؤلف في إضاءة جانب من الدوافع السياسية التي دعت إلى إنتاج هذه النصوص المرعبة.

    يقول الجابري: «أزمة الثقافة العربية كانت باستمرار سياسية في دوافعها» وإن ارتدت غلالة الدين أو تسربلت بشعارات المذاهب… والقول ما قاله الجابري.

    صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4721 – الثلثاء 11 أغسطس 2015م الموافق 26 شوال 1436هـ

    رابط الموضوع

    وجه أم حيدر كان مقابلاً لوجه ابن تيمية

    "إلى الأطفال الذين يحملون قلوب أمهاتهم في كل خطوة لمساجد الله"

    إهداء فيلم (حيدر)

    "أمي تقول كل خطوة للمسجد بحسنة" ومنطوق ابن تيمية يقول: كل خطوة لقتل الرافضة بألف حسنة. ذهب حيدر بخطوات أمه وذهب الإرهابي بخطوات ابن تيمية، التقيا هناك وجهاً لوجه، وجه أم حيدر كان مقابلا لوجه ابن تيمية، وخلفهما حيدر والإرهابي. هذه الصورة هي التي رأيتها في اللحظة الأكثر درامية في فيلم المبدع محمد السلمان (حيدر) لحظة التفتاتة حيدر إلى وجه الإرهابي وحزامه الناسف موقعاً بشعار (لا إله إلا الله).

    ماذا بقي من حيدر؟ وماذا بقي من الإرهابي (صالح القشعمي)؟

    بقيت من حيدر خطواته الاثنين والعشرين:"ماما خطواتي للمسجد اثنين وعشرين". صارت ملايين الخطوات والحسنات، تمشي بنا نحو سيرة حيدر، تلهمنا لنمشي ضد الموت مرددين كلمات (أمه) منطوقة بحلاوة صافية في ثغر (حيدر) إنها الكلمات الباقية من حيدر بعد أن ننسى كل شيء. أبدع المخرج في تصويرها في اللحظات المكثفة من الفيلم الذي قال كل شيء في الدقائق الخمس والخمسين ثانية. لقد حفظ لنا كاتب السيناريو وصية حيدر، ووصية أمه ورسائل خطواته الاثنين وعشرين وذاكرة الشهداء الاثنين والعشرين، وتاريخ الشهادة في الثاني والعشرين من شهر مايو/ أيار 2015.

    بقي من الإرهابي، قبحه شاهداً على قبح الخطوات التي مازالت تمشي بنصوص التوحش والقتل من ابن تيمية (ت728هـ/ 1328م) حتى محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ/1791م) وصولاً إلى داعش التي خرجت من نصوصهم تمشي بخطوات سريعة مرددة (بالذبح جئناكم).

    الوحش الإرهابي الذي أراد أن يسرق وجهنا، تصدى له (حيدر) بوجهه البريء الجميل، وحيدر لم يحفظ وجوهنا من التشويه فقط، بل حفظ وجه المسجد وحفظ وجه اسم الإمام علي من تشويه الوحش الذي يريد أن يقول هو الممثل الشرعي الصحيح للإسلام.

    على خطوات أو كيلومترات من روضة حيدر (سليمان الفارسي) ومسجد حيدر (الإمام على بن أبي طالب) عشرات المراكز الدينية التي تحرض على قتل حيدر وحرق روضته وتفجير مسجده.

    نحن في صراع بين نصوص حيدر وهي تخطو به نحو الحسنات، ونصوص ابن تيمية وهي تخطو بآلاف المفخخين نحو حيدر ورموزه التي ظهرت في الفيلم ظهوراً فنياً لافتا (أذان علي ولي الله، راية الحسين، الصلاة على النبي وآله في الصلاة). يدخل الفيلم – حسب تعبير الصديق الناقد أثير السادة- في "حجاج بصري" وهو يفسر طبيعة الصراع المتواري في الواقعة، إنه الصراع الممتد في أمهات النصوص القاتلة.

    إنها النصوص المنسلخة من الإنسانية التي يستدل بها ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول) على القتل البشع الذي تمارسه داعش اليوم، كما في استدلاله بقتل الشاعرة الهجاءة عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ، برواية موضوعة "جَاءَهَا عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ فِي جَوْفِ اللّيْلِ حَتّى دَخَلَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا، وَحَوْلَهَا نَفَرٌ مِنْ وَلَدِهَا نِيَامٌ ، مِنْهُمْ مَنْ تُرْضِعُهُ فِي صَدْرِهَا، فَجَسّهَا بِيَدِهِ، فَوَجَدَ الصّبِيّ تُرْضِعُهُ فَنَحّاهُ عَنْهَا، ثُمّ وَضَعَ سَيْفَهُ عَلَى صَدْرِهَا حَتّى أَنْفَذَهُ مِنْ ظَهْرِهَا" (انظر: ابن تيمية، الصارم المسلول،ج1، ص195)

    صار الصارم المسلول (السيف) برواياته وفقه ابن تيمية لها، متفجرات مفخخة منشورة على خريطة المساجد والمآتم.

    المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

    رابط الموضوع: http://www.al-akhbar.com/node/236870