أرشيف التصنيف: مقالات

السمك الرعاش 

السمك الرعاش أو الرعاد
السمك الرعاش أو الرعاد
  • محاورة منون

في محاورة مينون التي موضوعها “الفضيلة” ينتهي الحوار بمنون إلى أن يعلن يأسه من تشكيكات سقرط في إجاباته، ويطلق عليه على سبيل التهكم لقب “السمك الرعاش”فما السمك الرعاش؟ لنقرأ المقطع التالي من الحوار الذي يكشف معنى تسمية سقراط بالسمك الرعاش: 

“مينون: لقد سمعت عنك يا سقراط، حتى قبل أن ألتقي بك، أنك لا تفعل شيئاً غير أن توقع نفسك في الشك وأن تجعل الآخرين يقعون في الشك. وفي هذه اللحظة ذاتها يبدو لي وكأنك سحرتني وأجرعتني بعض عقاقيرك، وأوقعتني ببساطة في حبائل سحرك، حتى أنني أجد نفسي وقد أحاط الشك بي من كل ناحية. وأنه يبدو لي تماما، إذا كان يمكن أن أطلق دعابة، أنك تشبه أعظم الشبه من حيث الشكل ومن حيث الجوانب الأخرى سمك البحر الكبير ذلك الرعاش، حيث إنه، دائما، ما أن يقترب المرء منه ويمسه حتى يجعله يرتعش، وكذا يبدو لي ما أنت فاعله معي.ذلك أنني فعلا وحقا أشعر أني قد خدرت نفسا وجسما ولم أعد أملك الإجابة على أسئلتك. ومع ذلك فما أكثر ما تحدثت عن الفضيلة أحاديث فياضة وأمام كثيرين، وأحاديث كانت على أحسن وأجمل ما يكون، بحسب ما كان يبدو لي أنا. أما في هذه اللحظة فإني أجدني عاجزا تماما عن أن أقول ما هي؟

سقراط:إذا كان السمك الرعاش يخدر نفسه كما يصيب الآخرين بالتخدير، فأعتقد أنني كذلك وإلا فلا. إنني أضع الآخرين في الشك، ليس لأنني أمتلك اليقين، إنما، لأنني أنا نفسي في شك أكثر من أي واحد آخر، فإنني أجعل الآخرين هم أيضا يقعون هكذا في الشك” في الفضيلة، محاورة مينون،ص101

  • الشك والحوار

السمك الرعاش إذن تسمية مجازية مكثفة شأنها شأن ذبابة الخيل، تكشف معنى من معاني سقراط المتعددة، والمعنى الذي تحيل إليه هذه التسمية المجازية هنا هو الشك.الشك في الفلسفة السقراطية يقوم بوظائف متعددة. فهو الذي يفتح الحوار، فلا حوار حول معرفة يقينية ناجزة، الحوار يبدأ لحظة الشك، وهي لحظة تحف بكل أمر ممكن، ولنتذكر أن الممكن هو موضوع الجدل وقد خصص له أرسطو الكتاب السادس في الأرغانون، والأرغانون هوالمنطق الذي اشتهر به أرسطو، وهو كتاب في دراسة الأقاويل، بما هي وسائط بين الإنسان والكون وبين الإنسان والإنسان، حول شؤون الاجتماع والسياسة في الحكم والفعل.

  • الشك المدني

 إن الشك السقراطي شك حول قول دنيوي، موضوعه الإنسان وإدارة شأنه المدني، لذا يمكننا أن نطلق على الشك السقراطي تسمية الشك المدني، لنجعله مقابلا للشك الميتافيزيقي، وبهذا التقابل سنجعل من الشك المدني هو دون مقابله المختص بتكوثر الحوار في المدينة.  

لقد صاغ أفلاطون فلسفة سقراط، في شكل حوارات مطولة (كتب) وقد اتخذها أرسطو فيما بعد نموذجا لتنظيراته وتمثيلاته حول الجدل ومواضعه.

إذن لا يمكننا أن نبدأ حواراً من غير شك، فالشك يولد الحوار ومن الحوار تكون الفلسفة، وسيرة أرسطو قد مثلت ذلك خير تمثيل، فهو السمك الرعاش الشاك وهو القابلة التي تولد الأفكار بالحوار، كما كانت تولد أمه الأولاد من النساء، وهو الفيلسوف الذي كان يمشي في الأسواق ويقول “ليس بإمكان الأشجار التي في الجبل أن تعلمني شيئاًً”    

  • النطق المدني

الشك المدني يفتحنا مباشرة على مفهوم الإنسان، وعلى وجه التحديد على ما يحقق معنى إنسانيته الدنيوية، فما الذي يحقق هذا المعنى؟ يحققه مفهومان للإنسان، مفهوم الحيوان الناطق، ومفهوم الحيوان المدني، وهما مفهومان صاغهما أرسطو في تعريفه للإنسان، ويمكننا أن نجمعهما في مفهوم واحد، وهو النطق المدني. فما النطق المدني؟ وما علاقته بالشك المدني؟ 

النطق هو التصرُّف في المعرفة، تشييداً ونقداً ونقضاً وتفريعاً وتوسيعاً وتحويلاً واستثماراً وتوظيفاً، ولا يمكن التصرُّف في أي شكل من أشكال المعرفة هذه من دون استشكال، أي من غير أن تستشكل على ما تعرف أو يعرف غيرك، والاستفهام هو السؤال الاستشكالي النموذجي، كما يقول طه عبد الرحمن، ويقتضي الاستشكال حصول الشك في الشيء، وهذا يعني أن الإنسان يتوفَّر على صفة النطق، متى توفَّر على ملكة الاستشكال التي تتيح له القدرة على الشك والسؤال.

ومادام الاستشكال يقتضي الشك، ولا يحدث استشكال من غير سؤال، فهذا يعني أن لا ارتعاشة من غير شكٍ يُفضي إلى سؤال، وربما يكون هذا هو جوهر ما يعنيه عنوان كتاب الدكتور نخلة وهبة “رعب السؤال”.

  • السمك الرعاش بوصفه حالة

وهذا يفضي بنا إلى أن نفهم مجاز “السمك الرعاش”، بوصفه حالة فكرية ونفسية وعقلية ومدنية وحضارية، لذلك هي ليست ذاتاً لشيء، بقدر ما هي صفة لحالة الإنسان الناطق، أي الناطق بالسؤال والاستشكال والشك التي هي مقتضيات الحوار والمعرفة والفلسفة، وهذه المقتضيات هي شرط المدينة التي بها تكون.

إننا نشك لنحيا، أي لنكون ونُكوِّنَ مدينة، إذ لا حياة ولا مدينة بغير نطق، ولا نطق بغير سؤال وجواب (حوار) واعتراض (سؤال الجواب أو مساءلته)، إننا لا نشك لنبحث عن حقيقة واحدة للأشياء، بل لنكوثر حقائق الأشياء. عملية الشك تعبِّر عن قرار الذات بأن تسحب ثقتها المطلقة من الأحكام ومن الأشياء. الشك ليس طريقاً لليقين، كما أراده ديكارت، بل هو طريق للحياة على نحو استشكالي.

أنت تشك، لأنك تبحث عن الرعشة التي تدفعك إلى أن تحترق بالسؤال، الرعشةُ التي تجعلك لا تثق بإطلاق محض، الرعشةُ التي تهز وجودك، الرعشةُ التي تجعلك تعيش على نحو استشكالي، الرعشةُ التي تجنبك أن تكونَ في آلةٍ، إنها رعشة سقراط. من هنا، فالشك ليس تعبيراً عن عجز العقل، بل هو تعبيرعن حياته وحيويته، لذلك فالمجتمع الذي لا سمك رعاش فيه لا حياة فيه.

  • حماية السمك الرعاش

وبهذا يمكننا، أن نُعرِّف الديمقراطيةَ، بأنها حماية السمك الرعاش في مجتمع المدينة، أي حماية الشك والسؤال والاستشكال والحوار، بل الديمقراطية هي تكثير السمك الرعاش، بتوفير بيئة تكاثر له، كانت أثينا ديمقراطية بسمك سقراط الرعاش، وفقدت ديمقراطيتها يوم جرَّعته سُم الشوكران.

الذين يخافون السمك الرعاش، يخافون أن يستبدلوا وجودهم ويفتحوا ممكناتِهم ويسألوا ذواتِهم ويشكوا في معرفتهم، إنهم يخافون التصرُّف، التصرُّف في ذاتهم وعالمهم ومعرفتهم، وفي مَدِينيَّتِهم، أي في الصفات التي تجعل من حاضرتهم مدينة، أي التي تصنع إنسانيتهم الحاضرة، وذلك بوصف المدينة فضاء لتوسط القول بين الإنسان والإنسان، ولا قول بغير إنسان ناطق بالسؤال والاستشكال والشك. لا مدينة بغير سمك رعاش يشك ويسأل ويستشكل. هل يمكن أن توجد مدينة (دولة) بدون وجود برلمان يسأل ويشك، وثقافة تسأل وتشك، وتعليم يسأل ويشك، وصحافة تسأل وتشك، ومثقف يسأل ويشك؟ 

ولعل تعريف أرسطو للإنسان بأنه حيوان مدني، يتضمَّن مقتضيات ما سبق، والشك المدني بالمفهوم الذي جعلناه مقابلاً للشك الميتافيزيقي يفسِّر معنى هذا التعريف، أي معنى مدنية هذا الحيوان، مدنيته التي تقوم على الشك، فبهذا الشك يؤسس مدينته، وهو مدني بشكه، ولولا هذا الشك لما تكاثرت المدن التي شيَّدها الفلاسفة في ممكنات مخيلاتهم أو التي أشرفوا على تشييدها في واقعهم أو أوحَوا بمحاكاتها. أوَ ليس ما يُسمَّى الآن بالفلسفة السياسية، هو حصيلة ما راكموه من عمارات هذه المدن وأنقاضها وتناقضاتها؟!!  

  • أقواس نيتشه

يكفي، وفق نيتشه، أن نضع كلمات (عقل) أو (روح) أو (إله) أو (تاريخ) أو (دولة) أو(عدل)، بين قوسين لكي ندخل الشك فيها، ونرسم مسافة بيننا وبينها بل نستخف بها.

فلسفة نيتشه فلسفة أقواس بامتياز، أقواس الشك والمسافة والاستخفاف، كان يحاصر السماء والأرض بأقواسه، يحاصر يقينياتهما المفرطة بشكِّه المفرط، تستوي الأشياء باليقين وتختلف بالشك، تستوي السماء والأرض باليقين وتختلفان بالشك، تدَّعي الأرض أنها تمثل السماء باليقين، ولا شيء غير الشك يكذب ادَّعاءها، لذلك يقتتل الشك واليقين في الأرض، ومتى انتصر اليقين صارت الأرض قرية ضيقة وتباعدت السماء وتوحشت، ومتى انتصر الشك على اليقين صارت الأرض مدينة واسعة واقتربت السماء من الأرض وتروَّضت.

والسماء والأرض يفعلان، كل ذلك: الاستواء والادعاء والتباعد والتقارب والصيرورة والتوحش والتروض، في الإنسان، أي في روحه وعقله، فيستحيل الإنسان بحركة فعلهما فيه، أي يتحوَّل ويكون بحسب طبيعة هذه الاستحالة وتحولها. السماء في الإنسان ليست هي السماء في السماء، والأرض في الإنسان ليست هي الأرض في الأرض، فالأشياء لا تبقى في ذاتها، حين تظهر في الإنسان، لذلك يحتاج الإنسان إلى الشك ليختبر ما يظهر فيه، أي أن يضع ما يظهر له، وهو يعيش دنيويته، بين قوسين، أن يضع مدينته بين قوسين، ليتيح لفضاء قولها الحياة على نحو استشكالي.

  • الشك والجهل

الشك المدني ليس كما تخبرنا معاجم الفلسفة، تردداً بين نقيضين لا يرجح العقل، لعجزه وجهله، أحدهما على الآخر، وذلك لوجود إمارات متساوية في الحكمين، أو لعدم وجود أية إمارة فيها. الفلسفة المنحازة لليقين ترى هذا الشك ضرباً من الجهل، لذلك هي لا تحتفي إلا بالشك المؤقت الذي يتيح لك مراجعة معتقداتك تمهيداً لإسباغ صفة اليقين المطلق عليها، هكذا كان ديكارت وكان الغزالي، يشكَّان بإفراط ليوقنا بإفراط.

لكن الذي بقي حياً منهما، هو شكَّهما، فنحن لا نذكر ديكارت إلا ويسبقنا منهجه الشكِّي، ولا نذكر الغزالي إلا وتسبقنا حيرته وتجربته في المنقذ من الضلال، وبما بقي حياً منهما صار عَلَمَين وعالِمَين، وهذا ما يدحض معنى أن الشك جهل، ويثبت أنه علم وحياة، بل هو ليس تردداً بين شيئين، بقدر ما هو اجتراح حياة إشكالية تصهر حيوات، ألم يكن (هيجل) يتحدَّث عن حقيقة هذه الحياة وهو يتحدَّث عن الروح وتجربتها التاريخية المنصهرة بالنفي ونفي النفي؟! 

الشك المدني ليس الطريقة الفلسفية الموصلة إلى اليقين، أي ليس هو شك مؤقت، الشك المدني، كما هو السمك الرعاش حالة تحمينا حيوية بقائها، من استبداد اليقين (اليقين الفلسفي والديني والأيديولوجي) الطارد للشك الذي يراه في صورة وحش وليل وظلام وضياع وكفر ورجس.

  • شك بطعم الشوكولا

المدينة التي تعيش على اليقين المفرط، تستحيل قرية، تعيش على التماثل والانسجام التام والتشابه والألفة والتطابق، الذي يضيق بالشكولا وحبها واختلاف مذاقها وثقافتها، على النحو الذي ترويه الممثلة البارعة (جولييت بينوش Juliette Binoche) في دور (فيان Vianne) في فيلم (شوكولا Chocolat)، وهو فيلم يعرض فضاء الاختلاف في إحدى القرى الفرنسية (روسكاري) خلال الستينيات.

كانت شوكولا فيان تجسِّد الشك المدني في شكل حياة هذه القرية المفرطة في اليقين، وحين قُدِّر لهذه القرية أن تخرج على مُسيِّرِي شؤون اليقين والتقديس فيها بفضل طعم الحب الذي حرَّك جوهر إنسانيتهم، انفتحت ممكنات حياة جديدة لأناس هذه القرية، فصار فضاء القرية مدنياً، وفتح تلك الممكنات، وهذه هي وظيفة الشك بالدرجة الأولى. لذلك فالشك المدني ليس تردداً بين نقيضين، فالمدينة تكون بتكوثر نقائضها وتعدُّدها، الشك المدني ليس طرداً للنقائض، بل جلب لها وإحضار، من أجل التعايش والحياة، هكذا تتجاوز المدينة تناقضاتها. 

اليقين الذي يطرد الشك، يطرد الإنسان بتجريده من إنسانيته، ومتى تمكَّن اليقين الميتافيزيقي من السيطرة على الإنسان، طرد شكل ممارسته المدنية (شكِّه المدني) وأحال شبه حياته يقيناً لا ماء فيه. اليقين الميتافيزيقي يرى الأرض سماء لا يجوز الشك فيها، لذلك يبقى يطارد الشك المدني بتهم الشك الميتافيزيقي، فالشك في الأرض شك في السماء.

إنني أرى في الشك إقداماً وعلماً ونوراً وإيماناً وحياةً ومسافةَ أمانٍ وقوسي نجاةٍ واستشكالَ سؤالٍ وإرادةَ إنسانٍ. لنتذوق الشك بطعم الشوكولا، لا بطعم الشوكران. إلهي هَبْ لي شكاً أستضيء به من مدلهمات اليقين. 

  • الشك في السيادة.

الشك في مشروعية السيادة (التي تجعلك في آلة قبيلة أو طائفة أو مذهب أو عرق أو عائلة أو دين) الخطوة المدنية الأولى، لتكون مواطناً مدنياً، مواطناً بمعنى الفرد الذي يملك حق الشك الذي يُجنِّبه الإذعان والتسليم لسيادات الآلة في أشكالها التسلطية الجماعية، أي الحق في أن تضع هذه السيادات بين قوسين نيتشويين، فأن تكون مواطناً يعني أن يكون إنسانك في ذاتك، لتكون ذاتك لك، لا لغيرك فـ“كلّ إنسان في ذاته فذاته له، وكل إنسان في آلة فذاته لغيره” كما يقول الفارابي في مدينته الفاضلة. أن تكون مواطناً يعني أن تُحدَّد واجباتُك وتُشتق حقوقُك من ذاتك الفردية لا من عضويتك في جماعة سيادتها ليست لها، أي ليست لإرادتها، فالسيادة إرادة، كما الشك إرادة، إرادة السيادة عنصر سياسي وثقافي وفلسفي، وهو ما يخلق الأمة الحديثة التي هي أمة المواطنين حسب تعبير عزمي بشارة، وإرادة السيادة هي الوجه الآخر لإرادة الشك، فالشك المدني إرادة كما السيادة المدنية إرادة.

بهذا المعنى، تكون المواطنة هي الوجه الآخر لسيادة الأمة، قبال سيادة القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الدين أوالعائلة أو العرق، المواطنة تكتسب وتتكَّون وتتشكَّل ويعاد تشكيلها، كل مرةٍ في صيرورات لا تنتهي، بالشك في هذه السيادات التي تصوغها مركبات إطلاقية، ترهن حقوق الفرد بعضويته في مجموعة هذه السيادات التي تسود بيقينياتها المفرطة.

ما معنى أن المواطنة هي الوجه الآخر للسيادة؟

الشك يمنحك حق السؤال الذي تُصادره هذه المركبات، وبهذا الحق تكون سائلاً فاعلاً وسيداً يطلب، لا مَسوداً يُطلب منه الخضوع الدائم والتسليم، تكون سيداً يُسائل يقينيات هذه المركبات: كيف تمَّ تثبيت محمولاتها؟ وكيف صارت سيدة الأمر والنهي والمعنى؟ وكيف صارت مرجعية تُقاس بها مواطنية الإنسان؟ 

هذا الشك في السيادة، يمكننا من تحقيق مفهوم المواطنة المنفكة من المرجعيات المطلقة وبهذا المفهوم تكون الديمقراطية، ويكون المجتمع المدني، فيكون الإنسان الذي به تكون الأمةُ جماعةَ المواطنين في دولة. الأمة جماعة مواطنين لا جماعة آلة. بهذا يمكننا القول: الشك شرط المواطنة.

  • الشك في الجامع

الشك المدني، شك في مفاهيم هذه السيادات التي بها تحوَّل المركب والتاريخي والمصنوع معطى بدهياً فطرياً غير قابل للمساءلة والاعتراض، الشك المدني شك في جامع جماعتك، وتحويله من معطى سابق إلى مركب مدني، الشك المدني جعل الحق مشتق من الفرد لا مشتق من الجماعة.

إن مهمة المجتمع المدني الممارس للسيادة، تتمثل بتحصين هذه السيادة التي تجعل من الإنسان مواطناً ضد سيادات الآلة، وتحصين مواطنية الإنسان، تكون بتحصين قوله وفعله من الارتهان لما هو خارجه، ولا قول ينمو في المدينة ويتكوثر ويتحصن ضد العقم والتصلب والقولبة إلا بالشك الذي هو حياة.

تفكيك السيادات المطلقة العمودية، هو الوجه الآخر للشك فيها، بجعلها دنيوية تاريخية تقوم بها إرادة حرة، هي إرادة السيادة التي هي شرط الأمة الحديثة، أمة المواطنين المؤمنين بالإنسان. فهل نشك في أمتنا ومواطنيتنا وإنساننا؟!!! هل نضعهم بين قوسين؟!!! هل نختبر مدنيتهم؟!!!

 

  • حالات الشك 

يرصد ميشال إسحاق في كتابه “المعاني الفلسفية في لسان العرب” ما يسمِّيه مصاعب الوصول إلى المعرفة والعلم، وهي: 

حال الشك

حال الريبة

حال الالتباس

حال الاشتباه

حال الظن

حال الضلال

حال التردد

حال الحيرة

الشك هو حقل هذه الحالات، أو لنقل هو حقل مقتضيات هذه الحالات، أو لنقل حقل الوعي بهذه الحالات، أو لنقل حقل وعي النقص بهذه الحالات، أو لنقل حقل الحاجة إلى هذه الحالات، أو لنقل حقل تحويل هذه الحالات صيرورات لا تنفد، أو لنقل حقل مصاعب الوصول إلى الطمأنينة، أو لنقل حقل مصاعب الوصول إلى اليقين.

بكل هذه الأوَّات( جمع أو) يتخصَّب حقل الشك، وينتج معرفة لا يسكن القلب بها ولا يطمئن، فـ”كل طمأنينة يسكن القلب بها لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” كما يقول ابن عربي.

  • الشك وعي بالنقص. 

كيف يكون الشك حاجة؟ وكيف يكون وعي نقصٍ؟

يدرس هيجل التطوُّر التاريخي للمجتمعات وفق مقولته “الحاجة وعي النقص” أي لا تكون الحرية حاجة إلا حين نعي نقصنا لها، وعي النقص بالحرية يعني الحاجة إلى الحرية، متى انتف الوعي بنقصها انتفت الحاجة إليها، تظل الحاجة إلى الحرية ما دام هناك وعي بها، وكل عصر وكل تاريخ يتشكَّل وفق هذا الوعي بالنقص، وكأن التطوُّر التاريخي يكون هكذا سدّ حاجة يعقبها وضع جديد، ينشأ فيه وعي بنقص آخر يتحوَّل إلى حاجة يتمّ البحث عن سدّها.

هكذا يمكننا أن نفهم الحاجة إلى الشك بوصفه وعياً بنقص معرفتنا للشك، غياب الشك نقص في معرفتنا، نقص في وعينا لا وعي بنقصنا، لذلك تظل الحاجة إلى حقل الشك قائمة، ما دام هناك وعي بالنقص.

بهذا يمكننا أن نستثمر مقولة النفري “العلم المستقر هو الجهل المستقر”، بأن نجعل الجهل المستقر/العلم المستقر يماثل عدم الوعي بالنقص، أي أن العلم المستقر هو جهل بالشك، هو عدم وعي بالشك، هو عدم وعي بنقصه للشك، لذلك تغيب حاجته إلى الشك.

بهذا يمكننا أن نقرأ تاريخ الشك، بقراءة تاريخ العلم، كما يمكننا أن نقرأ تاريخ الشك بقراءة تاريخ الجهل. لقد بدأ تاريخ للمعرفة حديث، حين بدأ تاريخ للشك حديث، حين بدأ ديكارت يشك، وبدأ تاريخ للشك ما بعد حديث حين بدأ نيتشه، يشك في يقين علم ديكارت المستقر.

بهذا الوعي بتاريخ الشك، يكون الشك معرفة لا تعرف الاستقرار، معرفة تحذر الجهل المستقر، لأنها تحذر العلم المستقر. 

 

  • حقل الشك

كي يكون الشك منتجاً، لا بدَّ أن يكون له حقل، أي بقعة مزروعة، فالمفهوم لا يفهم معناه، أي لا يكون مفهوماً، ولا تتسع دلالته، ولا تستشكل أسئلته، ولا يُنتج معرفة، ولا يكون مجالاً للتفكير إلا حين يحتقل، أي إلا حين يتخذ له حقلاً هو بمثابة نطاق منتج، الحقل هو تربة المفهوم ومزرعته ونطاقه، المفهوم لا ينمو معزولاً وحده، بل ينمو في تربة مختلطة.

 يحتقل المفهوم بحسب هذه المقالة، بكل طرق التأثيل التي يفصِّلها طه عبد الرحمن في كتابه فقه الفلسفة، وهذه الطرق تتضمن أنواعاً من التأثيل، هي التأثيل المضموني والاستعمالي والنقلي والبنيوي والحقلي، وبهذا لا يقتصر حقل المفهوم على التأثيل الحقلي. فالاحتقال هنا يحيل إلى معنى الحياة، أي كل ما يمد المفهوم بالحياة ولوازمها من الاتساع والحركة والنمو والتمكن والامتداد، والتأثيل عند طه عبد الرحمن يحيل إلى هذا المفهوم، إذ كل ما يُزوِّد المعنى الاصطلاحي للمفهوم بدلالات مضمرة، تُمكِّن المفهوم من الحياة، يعد تأثيلاً.

ومتى كان للمفهوم حقل كانت له حياة، ينمو فيها ويتسع ويتمكن ويمتد، والحقل يكون حياة باستشكالاته، أي بالأسئلة التي ينتجها، فهي أدوات حرث تربته، وبالمجازات التي يتسع بها ويرى ويعْبر ويُقلِّب وجوه المعاني، وكما تكونُ الحياةُ حياةً بمتناقضاتها ومتضاداتها، يكون الحقلُ كذلك حياةٌ بالمفاهيم المتقابلة فيه، من هنا فالشك ليس إقصاء لليقين، ولا هو تابع له ولا هو خطوة تقود إليه، هو مفهوم به، وحقل به، وحياة به.

بهذا يكون الحقلُ وسطاً للتفكير، نحن نفكِّر في حقول، وبهذا يكون وسطاً للحياة فالإنسان يحيا بالتفكير ويتمكن ويمتد ويتصرَّف، وبهذا يكون دخولُ الحقل دخولٌ للحياة ومقتضياتها (النمو والاتساع والتمكن والامتداد). فكيف يكونُ الشكُ حقلَ حياةٍ؟

  • الشك حقل حياة. 

يكون الشك حقل حياة بما يقتضيه من سؤال ونقد وحيرة، وبما يقابله من يقين وطمأنينة ووثوق، وبما يجاوره من ريب وظن وتردد. يغدو الشك مفهوماً بكل هذه المقتضيات والمتقابلات والمتجاورات. هذا الحقل بمثابة السياق الذي نستند إليه لفهم الشك، وتجريد الشك من حقله، يعني انتزاعه وعزله عن حيوية الحياة وقوتها. وفي لسان العرب“الشك الاتصال واللصوق.. كل شيء إذا ضممته إلى شيء فقد شككته”، من هنا فالشك لا يفهم، إلا في اتصاله ولصوقه وانضمامه إلى حقلٍ، يكون بمثابة التربة التي فيها ينمو. 

 

بهذه الحياة، الشك ليس حالة تردد مطلقة، وليس حالة وسوسة، وليس حالة عزلة، وليس حالة تفكير غير عملية، وليس حالة استقالة من الواقع، وليس عزلة عن الحياة، بل رغبة في حياة أخرى، أو رغبة في الحياة على نحو استشكالي، أي على نحو لا يعرف الاستقرار المطلق فـ”العِلْمُ الْمُسْـتَـقِــرُّ هُوَّ الْجَهْلُ الْمُسْـتَـقِرُّ” كما يقول النّفري، ولا المعرفة الأحادية، “المَعْرِفَةُ إِذَا لَمْ تَـتَـنَوَّع مَعَ الأَنْفَاسِ لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” كما يقول ابن عربي، من هنا ليس الكامل من يكون واحداً مستقراً، بل “الكَاملُ مَنْ عَظُمَتْ حَيْرَتُهُ“، هكذا كان ابن عربي يرى كماله المحتار، والحيرة مقتضى الشك، أي الحيرة مقتضى الحياة الاستشكالية التي لا يكف فيها الإنسان الكامل أو الإنسان الأعلى عن السؤال والإشكال والامتداد والتناقض والتضاد والتقابل، أي لا يكف عن أن يكون “مزيجاً من العالِم والشاعر والمفكر والعاشق وقيصر والمسيح” كما يصف نيتشه إنسانه الأعلى، الذي لا يكف عن الحياة المزيجة بإرادته.

إنسان ابن عربي الكامل وإنسان نيتشه الأعلى، هو إنسان حقل الشك بامتياز، هو إنسان الحيرة بامتياز، هو إنسان المزج بامتياز، هو إنسان الحياة بامتياز.

 

 “فيا أيها الصديق لا تطمح أن تجد في حافظ استقراراً أو نوماً هادئا”ً وكأن حافظ الشيرازي، كان يَحْذَرُ الطمأنينةَ التي لا يُعَوِّلُ عليها ابن عربي “كل طمأنينة يسكن القلب بها لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” 

  • ترجيس الشك

يورد ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت/329هـ) في كتابه الكافي، وهو أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الشيعة، في  البَاب  المخصص للشَّكِّ، الأحاديث التالية:

1- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ كَتَبْتُ إِلَى الْعَبْدِ الصَّالِحِ (ع) أُخْبِرُهُ أَنِّي شَاكٌّ وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ (ع) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وَأَنِّي أُحِبُّ أَنْ تُرِيَنِي شَيْئاً فَكَتَبَ (ع) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِناً وَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَاناً وَأَنْتَ شَاكٌّ وَالشَّاكُّ لَا خَيْرَ فِيهِ وَكَتَبَ إِنَّمَا الشَّكُّ مَا لَمْ يَأْتِ الْيَقِينُ فَإِذَا جَاءَ الْيَقِينُ لَمْ يَجُزِ الشَّكُّ وَكَتَبَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ قَالَ نَزَلَتْ فِي الشَّاكِّ. 

2-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ لَا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا وَلَا تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا. 

3-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزَّازِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) جَالِساً عَنْ يَسَارِهِ وَ زُرَارَةُ عَنْ يَمِينِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ فَقَالَ كَافِرٌ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ فَشَكَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ كَافِرٌ قَالَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى زُرَارَةَ فَقَالَ إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ. 

4-  عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ الْحَلَبِيِّ عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ بِشَكٍّ. 

  5- الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ إِنَّ الشَّكَّ وَالْمَعْصِيَةَ فِي النَّارِ لَيْسَا مِنَّا وَلَا إِلَيْنَا. 

6-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ مَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ بَعْدَ مَوْلِدِهِ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَفِئْ إِلَى خَيْرٍ أَبَداً. 

7-  عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ لَا يَنْفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالْجُحُودِ عَمَلٌ. 

8-  وَفِي وَصِيَّةِ الْمُفَضَّلِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ مَنْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ وَأَقَامَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ إِنَّ حُجَّةَ اللَّهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. 

9-  عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) قَالَ قُلْتُ إِنَّا لَنَرَى الرَّجُلَ لَهُ عِبَادَةٌ وَ اجْتِهَادٌ وَ خُشُوعٌ وَ لَا يَقُولُ بِالْحَقِّ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئاً فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّمَا مَثَلُ أَهْلِ الْبَيْتِ مَثَلُ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَا يَجْتَهِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَّا دَعَا فَأُجِيبَ وَإِنَّ رَجُلًا مِنْهُمُ اجْتَهَدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ دَعَا فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ فَأَتَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (ع) يَشْكُوا إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ وَيَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ قَالَ فَتَطَهَّرَ عِيسَى وَصَلَّى ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ يَا عِيسَى إِنَّ عَبْدِي أَتَانِي مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي أُوتَى مِنْهُ إِنَّهُ دَعَانِي وَفِي قَلْبِهِ شَكٌّ مِنْكَ فَلَوْ دَعَانِي حَتَّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ وَتَنْتَثِرَ أَنَامِلُهُ مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عِيسَى (ع) فَقَالَ تَدْعُو رَبَّكَ وَأَنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ نَبِيِّهِ فَقَالَ يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ قَدْ كَانَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَذْهَبَ بِهِ عَنِّي قَالَ فَدَعَا لَهُ عِيسَى (ع) فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَبِلَ مِنْهُ وَصَارَ فِي حَدِّ أَهْلِ بَيْتِهِ.

ضمن أي فضاء معرفي تشتغل هذه الأحاديث؟ وما علاقتها بالحروب الكلامية بين الملل والنحل؟ هل من المجدي قراءتها قراءة توفيقية؟ هل مفهومها للشك هو مفهوم السمك الرعاش؟ هل تُرجَّس هذه الأحاديث مفهوم الشك المدني؟ هل نشك في أحاديث الكليني التي كان المحدث الاسترأبادي يراها كلها أحاديث قطعية الصدور؟

  • الشك في المعتمد

 

(canon) بحسب المعجم يعني: قائمة ثقة للمؤلفات، الصحيح من النصوص الدينية، الشريعة، القانون، المبدأ، قواعد، لائحة بالأسفار المعترف بأنها تؤلف الكتاب المقدس.

يشير المعتمد أو القانون (canon) إلى مجموع الكتابات الدينية المسيحية المقبولة بوصفها نصوصاً صحيحة ومن ثَمَّ مقدَّسة. وقد انتقل هذا المفهوم إلى الدراسات الأدبية والثقافية والنقدية ليشير إلى مجموع النصوص أو الأعمال المعتمدة ضمن تراث محدَّد، وفي حقل من حقول المعرفة، بوصفها تنضبط ضمن معايير أو قيم معينة، لتشكِّل وحدة نصية متجانسة، أو تشكِّل أعمال مؤلف ما. (انظر: دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي، سعد البازعي).

الكتب الستة (صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن البيهقي، سنن أبو داود، سنن الترمذي، سنن ابن ماجه) تمثل عند أهل السنة والجماعة (معتمداً لذلك سُميَّت بالصحاح، لأن أحاديثها وما تحتويها مثل الراوي والسند والمتن حائزة لشروط الصحة، والصحيح اصطلاحاً، هو الحديث الذي اتصل سنده عبر رجال.

وهذه الكتب الستة تشكِّل الركن الأصلي لجوامع أهل السنة، فهم يرجعون إليها ويعتمدون عليها في العقائد والفروع والتفسير والتاريخ، واشتهرت فيما بعد بالصحاح الستة، ويطلق تارة على صحيح البخاري (ت 256 ه‍( وصحيح مسلم (ت 262 ه‍(الصحيحين، وعلى الكتب الأربعة الأخرى بالسنن.

والكتب الأربعة (الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) تمثل عند الشيعة (معتمداً)، وقد ورد في الحديث “ما في الكافي لشيعتنا كافي” وهي تسمية أقرب إلى التعميد بالمفهوم الذي نستخدمه هنا، أي اعتماد نصوص كتاب ما مرجعاً موثوقاً وصحيحا، ويحتكم إليه.

إذن المعتمد يمثل الكتاب الصحيح أو الكافي الذي تعتمده جماعة معينة ضمن حقل معين، لكن المعتمد حين يكون كتاباً دينياً، فإنه لا يمثل حقلاً محدداً من حقول المعرفة، بل يمثل الحقول كلها، حقول الإنسان كلها التي يعيش فيها ويحيا وبها يرى، وبهذا يكون المعتمد الديني معتمدَ حياة جماعة ما، لذلك نجد عناية هذا المعتمد بتفاصيل حياة الإنسان، وهذا ما يجعل الجماعة تعتمده نصاً لحياتها، تجد فيه تفاصيل دقيقة لكل شيء، فهو شامل ويقدِّم للإنسان الحياة المعتمدة في أكله وسلوكه وزواجه وأعماله وعلاقاته وجسده وروحه ومقدساته وتاريخه ودنياه وآخرته ومستقبله وماضيه وأصله وسمائه وأرضه وخصومه ومعرفته ورؤيته وقيمه. على سبيل المثال يتضمَّن صحيح البخاري الكتب التالية: كتاب الصلاة، كتاب الجماعة والإمامة، كتاب الكسوف، كتاب الجنائز، أبواب فضائل المدينة، كتاب السلم، كتاب الحوالات، كتاب الكفالة، كتاب المزارعة، كتاب الخصومات، كتاب المظالم، كتاب الشركة، كتاب الصلح، كتاب المرضى، كتاب الطب، كتاب اللباس، كتاب الأدب، كتاب الفتن…إلخ 

هذه الكتب، نصوص بها يحيا الإنسان وفق نموذج ما محدَّد ومرسوم ومعطى سلفاً. الخروج عليها خروج من الحياة، حياة الجماعة الصحيحة المعتمدة الكافية، وخروج من قواعدها وشريعتها وقوانينها ومبادئها.

وفي الوقت الذي تُثبِّت فيه هذه المعتمدات حياة الجماعة وفق نمط خاص، فإنها تُقصي أشكالاً أخرى من الحياة والوجود، وتُقصي معها ذوات أخرى تعيش على نمط مغاير لنمط حياتها، وذلك لأنها تتحول إلى مركز يُهمِّش عداه، ويستثنيه، ويَظهر شكلُ هذا التمركز في تحيزات عرقية أو جنسية أو طبقية أو دينية أو مذهبية.

وبقدر ما تُشكِّل هذه التحيزات الحياةَ على نمطٍ معيَّن، فإنها في الأصل مُشكَّلةٌ وفق حيوات سياقات تاريخية معينة، وجدليةُ التشكيل هذه تَظهر في صورة ثقافة جماعية، تُعتمد هذه الكتب بعد أن يكون رجالها المعتمدون قد أضفوا عليها قيمة رمزية تصل إلى حد التقديس، وأضفوا على أصحابها تبجيلات وكرامات، وحين تعتمد الثقافة هذه الكتب تتحول كل محاولة نقدية لها إلى عمل فردي خارج على الثقافة، لذلك تصب عليه الثقافة لعناتها وتطرده ولا تعترف به، ولا تعتمده ما دام هو ضد معتمدها المقدس، وشكوى كبار علماء الدين ممن يطلقون عليهم مسمَّى العوام، هو في جوهره شكوى من الثقافة التي هم (العلماء) جزء منها.

كتاب الجماعة أو معتمدها، لا بدَّ أن يُحصَّن من الشك والنقد، لتبقى حياة الجماعة محصَّنةً ومتجانسةً ومطمئنةً، وهو بهذه الحصانة، يرقى لمرتبة الاعتماد، وعملية التحصين كما هي عملية التشكيل، متبادلة بين الكتاب والجماعة، فالمعتمد يجرم ويُرجِّس الشك في معتقدات الجماعة، والجماعة تجرم وتُرجِّس الشك في صحته وكفايته. 

لذلك لا يمكن أن تقف المعتمدات من الشك غير موقف الترجيس، وذلك كي تحمي نفسها، وتحمي جماعتها وتحمي مذهبها في الحياة. والخطورة تكمن حين يتسرب ترجيس الشك من نطاق الإيمان بالله والنبوة ليمتد إلى الإيمان برجالات المذهب ومعتقدات المذهب وثوابته، ثم ينداح هذا الترجيس إلى محيط الحياة والتاريخ، فيصبح الشك كفر في كل تجلياته، فتعتمد الثقافة هذا الحكم التكفيري بإيعاز من معتمدها الذي يصوغ لها الحياة. هكذا يمكننا أن نفهم باب الشك في المعتمدات، ومادام المعتمد حياة بنمط معين، فالشك فيه شك مدني لا ميتافيزيقي.

  • الشك في محمول المُعْتَمَد

النقد نشاط فكري يتخذ من محمولات الثقافة موضوعاً لشكه. هناك مجموعة من القضايا المركبة من موضوع ومحمول، تسمَّى في أبواب الجدل من كتب المنطق بالمشهورات، لأن الجماعة تؤمن بها وتسلم بها، فتشتهر بها فتصير ثقافتها. توجد هذه المشهورات في الثقافة أو لنقل تُوجِدُ هذه المشهوراتُ الثقافةَ فتكون هناك جماعة، فلا ثقافة بلا مشهورات تُوَحِّد قيم الجماعة ورؤاهم وأحكامهم وسلوكهم.

حتى إننا يمكن أن نقول: الثقافة هي مشهورات الجماعة التي تشكِّل مُعتمدَها. تصوغ هذه المشهوارت/الثقافة أقوالَ الجماعة ونصوصَها وحِجاجَها وأدبَها وتدينَها وسياستَها وحياتَها. ولأن هذه المشهورات تُشكِّلُ مُعتمدَ الجماعةَ، فإنها تهيمن على جميع الأفراد وتتحول إلى سلطة وقوة تفرض نمطاً من الممارسة الجماعية.

الثقافة في كل لحظة تاريخية تسند إلى موضوعات العقل والإنسان والله والأدب والتاريخ واللغة والطبيعة والدين والمرأة والرجل، محمولات تأتي في صيغة أحكام أو صفات أو تعريفات، فتقول مثلاً: 

“نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة للاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية الأولاد” قاسم أمين، “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” هوبس، “المشاعر الأخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة” هيجل.

في هذه الأقوال المرأة موضوع، ومحموله معدَّة للاشتغال بالأعمال المنزلية، والإنسان موضوع ومحموله ذئب، والزنجي موضوع ومحموله ضعف مشاعره الأخلاقية.

لكل محمول من هذه المحمولات سياقه الثقافي التاريخي، الذي يسمح له أن تعتمده الثقافة قولاً من أقوالها الشائعة المقبولة، وتستعين الثقافة بحججها وأدلتها ونصوصها، لتثبيت هذه المحمولات.

 وبهذا التثبيت تكتسب الموضوعات وجودها، فالمرأة موجودة في الثقافة وفي عقول الجماعة الثقافية، بوصفها مُعدَّة للاشتغال بالأعمال المنزلية، والإنسان موجود بوصفه ذئباً، والزنجي موجود بوصفه صاحب مشاعر أخلاقية ضعيفة، هكذا يمكننا أن نتحدث عن الوجود بما هو محمول، أي بما هو مسند في ثقافة ما لموضوع، فالموضوع يتحدَّد وفق المحمول. ولأن هذا التحديد ثقافي وتاريخي وغير ثابت أو فطري أو طبيعي، فإننا لا يمكننا أن نمارس النقد في ثقافتنا كنشاط فكري إلا بالشك في المحمولات التي تعمل الثقافة على تحويلها ثوابت لموضوعاتها. والشك في المحمولات هو شك في أقوالنا، لأن المحمولات هي ما نقوله عن هذه الموضوعات، ماذا نقول عن المرأة؟ ماذا نقول عن الآخر؟ ماذا نقول عن الشك؟ ماذا نقول عن التاريخ؟ ماذا نقول عن الأدب؟ ما نقوله من محمولات، هو ما يشكِّل مفاهيمنا لهذه الموضوعات.

النقد بما هو شك في المحمول، حركة تجديد، وتحويل وتغيير، فالنقد تحريك الموضوع بتغيير المحمول، إلا أن الثقافة في لحظة اهتزازها، تحمل على هذه الحركة بمحمولات التخريب والهدم والعدم والعبث والتهديد، فتصير حركة النقد حركة شك مشبوهة ومُرجَّسة، ذلك لأن حركة النقد، هي شك في المحمول الواحد، ومقاومة ضد استبداد المحمول الواحد الجامع المانع، فالنقد يُكوثر محمولات الموضوع بتفكيك سلطة هذا الواحد المستبد، والمستبد لا يقبل أن تتعدَّد الأشياء بتعدُّد محمولاتها.

حوارات سقراط وارتعاشاته، كانت تقوم بهذه الوظيفة النقدية، التي تستعين بالشك لتتفحص محمولات الثقافة اليونانية، التي تسندها لموضوعات الفضيلة والنفس والخلود والعدل.

والحمل كي يُنتج قضية جديدة، أو موضوعاً جديداً، أو فكراً جديداً، أو وجوداً جديد، لا بدَّ أن يكون أصيلاً بِسَبْقه، ومَرِناً بقبوله للتعدُّد، وطلقاً بحرية انفكاكه من سلطات تقييد اللعب الحر أو ما يسمِّيه نيتشه بالمعرفة المرحة.

من هنا فالنقد توسيع إمكان الحمل، ذلك لأن النقد تحريض على حمل جديد، والنقد ضد موانع الحمل، والنقد حمل ضد الشرعية المُسلَّم بها، والنقد ضد طمأنينة المحمول، وضد استقراره في الموضوع. النقد شك في الحمل.

*نشرت هذه المادة في شكل أعمدة صحفية في الصفحة الثقافية في جريدة الأيام البحرينية في العام 2004.

افتتاحية إشراقات: الحركة والاستنارة

افتتاحية العدد الأول من كتاب إشراقات

العدد الأول من كتاب إشراقات pdf

“الحركة صورة واحدة لكنها توجد في مواد كثيرة و محال مختلفة، وبحسب ذلك تُولّى أسماء مختلفة….- فهي- في اللسان منطق، وفي النفس بحث، وفي القلب فكر، وفي الإنسان استحالة، وفي الروح تشوف، وفي العقل إضاءة واستضاءة…..”. أبوحيان التوحيدي/المقابسة 49

المؤسسة كالإنسان لا يمكنها أن تحيا إلا حين تدب الحركة في كل طرف فيها، لذلك لا بد لها من منطق يعطيها لساناً، وبحثٍ يمنحها نفساً، وقلبٍ يزرع فيها فكراً، واستحالة تجعل منها إنساناً متغيرا، وتشوّفٍ يشعل فيها روحاً، واستضاءة تجعل منها عقلا. حين تفقد المؤسسة شيئاً من ذلك، تفقد شيئاً من إنسانيتها. 

        لقد كان مركز الشيخ إبراهيم مؤسسة بكل تجليات هذه الحركة (المنطق والبحث والفكر والاستحالة والتشوف والاستضاءة) لذلك كان حياة لا تشبهها أي حياة… حياة بتباين الشخصيات التي حلت فيه… وحياة بحيوية الناس الذين كانوا يتزاحمون بأرواحهم فيه… وحياة بالأصدقاء الذين استحال فيهم واستحالوا فيه… حياة بأصداء الأحداث التي كانت تفتح دوائر لا تنتهي امتداداتها واتساعاتها… حياة بالحكايات التي شغلت الناس فراحوا يختلفون، حياة بالمكان الذي يضج بحركة كل شيء….حياة بروح (مي) في جنباته التي لا تكف عن استحالة التاريخ بصرفه وتحويله… 

أيها الأصدقاء هذا الكتاب السنوي شهادة حياته الأولى فأمنوا بقلوبكم على شهادته..

 

علي أحمد الديري

Sept 9, 2002 

القرامطة في خطاب مي الخليفة آليات التاريخ وتمثلاتها الرمزية

prt-1 

 

1- لا مناص للمؤرخين إذا أرادوا الخروج من دائرة التهميش أن يخضعوا الممارسة التاريخية للمشاغل الحديثة حول قضية الدلالة والأنظمة الخطابية (1)

د.محمد حداد

ما الذي يمكن أن يقوله باحث معني بشئون النقد في كتاب تاريخي ككتاب (مي محمد الخليفة) من سواد الكوفة إلى البحرين..القرامطة من فكرة إلى دولة)؟

ذلك هو السؤال الذي افترضت سيواجهني به الباحثون المعنيون بالشئون التاريخية، وتعمدت أن أظهره فوق منصة الورقة؛ ليكون مدخلي في القراءة؛ وكي لا تتمطط المقدمة، سأجيب بشكل مختصر، ومباشر، و أتمنى أن تقرأ الاجابة بوصفها مقدمة لا غنى عنها – تعطي قراءتي مشروعيتها.

أصبح من المعروف لدى المشتغلين بالنقد الأدبي أن صفة (الأدبي) بمثابة التخصيص الذي يحدد موضوع اشتغال الناقد، ولا تستغرق هذه الصفة النقد أبدأ، فالنقد نشاط فكري مفتوح على آفاق المعرفة الإنسانية، ولهذا الانفتاح أثر كبير في فتح موضوعات النقد على بعضها، فالموضوع الأدبي أصبح منفتحا على الموضوع الفلسفي والموضوع التاريخي أصبح منفتحا على الموضوع اللساني، ووفق هذا الانفتاح تتبادل موضوعات هذه العلوم أدواتها، ومفاهيمها، ومناهجه (2).

“لقد أصبح النقد المشتغل على النصوص الأدبية بفضل علوم اللغويات الحديثة متوفرا على مجموعة من المفاهيم النقدية الهامة التي يمكن استثمارها في قراءة أي خطاب تنتجه الثقافة، وهذا ما حدا بالدكتور عبدالله الغذامي إلى أن ينتقل من مفهوم النقد الأدبي إلى مفهوم النقد الثقافي الذي لا ينحصر موضوعه في النص الأدبي.

من هذا الانفتاح تستمد هذه القراءة مشروعيتها، وتعلن عن منطلقاتها التي تروع توظيف المفاهيم المنتجة في البيئة اللغوية والأدبية في قراءة خطاب هذا الكتاب.

2- عتبات القراءة:

هناك مجموعة من العتبات الأولية التي تشكل أفق انتظارك، وأنت تدلف عبر نافذة الغلاف متجها نحو المتن. العتبة الأولى تتمثل في ذلك السواد الذي يلف الغلاف، ويفضي بك عبر نافذة تتوسطه نحو عتبة أخرى، تمثلها لوحة صارخة، توحي بألوانها المتداخلة وبقعها المنسكبة، وملامح كائناتها المتوارية وكتاباتها الجدارية، توحي باختراق ناري لمألوف التاريخ التقليدي الذي همش هذه الكائنات و طمس هذه الكتابات.

ويتصدر العتبة الثالثة الإهداء الذي تقول فيه “إلى روح الحسين بن منصور الحلاج والى جميع المتهمين بجريمة الانتساب إلى فكر القرامطة وحركتهم”. إن هذا الإهداء لمشبع بروح التعاطف الثوري مع كل من يمثل خطأ شاذا ضد هيمنة السلطة الفكرية والسياسية.

واذا ما كنت من المتابعين لكتابات الباحثة السابقة، فستحضرك بوصفها عتبات تسبق عتبات هذا الكتاب. إلى الآن ما تزال العتبات، تنبئنا بالروح التي كانت وراء هذا العمل، لكنها لن تبدأ في إشعال أفقنا بتوقعاتنا للعقل الذي كان ينتظم ضمنه هذا العمل إلا حين نقرأ العتبة الرابعة في التمهيد، ويتصدر هذه العتبة مقولة للمفكر محمد أر كون يقول فيها ز مع اعتزارنا بالتراث لا بد من قراءة جديدة له”. (أركون) لوحده يمثل عتبة غنية لا تملك حين تقف عليها من إشعال أفقك بأبعاد تقترب من اشتغالات منهجيات العلوم الإنسانية الحديثة، واشتباكاتها المعرفية مع وقائع النصوص والخطابات.

والمقولة تعزز من ذهابك نحو هذا الأفق، لما يحمله مفهوم القراءة الحديث من معاني الاختلاف والتركيب والتأويل.

3- ولا تملك إزاء هذه العتبات إلا أن يراودك سؤال قلق تخشى معه من خيبة تكسر أفقك لكن ليس على النحو الذي يفعله النص الأدبي. والسؤال هو: هل نحن سنكون موعودين بخطاب تاريخي جديد؟ أو لنقل بخطاب قراءة جديد لجزء من تاريخنا؟

الإجابة تطلب قراءة تتجاوز الاحتفاء بالمعلومات التاريخية، ومضامينها، وقيمتها؛ لتعطي اهتمامها الأكبر إلى طريقة انتظام الخطاب أي قراءة معنية بتحليل الخطاب.

ولنحصر موضوع القراءة بشكل أكثر دقة، سنسوغ سؤالنا على النحو التالي: كيف كانت (مي) تبني خطابها؟ و وفق أي نموذج كانت تتمثل وقائعه؟ إن هذا السؤال يمثل محور هذه الورقة، ويوجه خطتها، ولكن قبل أن نشرع في مقاربته، سنطرح السؤال التالي: كيف كانت (مي) ترسم خطة بناء خطابها؟

مع الأسف، ليس هناك أية إشارة ترشدنا إلى الخطة المعرفية التي كانت تتحرك من خلالها الآليات النظرية في بناء الخطاب التاريخي، فما تضمنه التمهيد لا يتجاوز الأسباب والدوافع التي كانت وراء هذا الخطاب التأريخي وتتمثل في:

1- كتابات المستشرقين التي تدعونا إلى البحث من جديد.

2- البحث عن هوية القرامطة والوصول إلى أسباب خروجهم.

3- إظهار الحقائق المطموسة المعارضة في تاريخ حضارتنا.

4- رد الاعتبار لحركة القرامطة.

لهذه الدوافع مبرراتها، ورؤيتها الحديثة، وتوجيهها لخطة العمل، لكنها لا يمكن أن تمثل الجهاز النظري الذي يشتغل من خلاله المؤرخ، فنحن ما زلنا رغم وجاهة هذه الدوافع، لا نعرف الطريقة التي ستقرأ من خلالها الباحثة المصادر التاريخية، وما زلنا لا نعرف حدود اختلاف معالجتها عن سائر المعالجات التي كتبت في الموضوع نفسه، خصوصا المعالجات الاستشراقية التي باتت تقليدية بالنسبة لخطابات العلوم الإنسانية الحديثة، وقد تعرضت مناهج المستشرقين لنقد معرفي عنيف من محمد أر كون صاحب العتبة الرابعة، وما زلنا لا نعرف الآليات التي ستتحرك من خلالها في تشييد هذا التاريخ المهمش. باختصارها زالت الأسئلة النظرية في دائرة اللامفكرفيه، وكأن هذا اللامفكرفيه يعزز مقولة الباحث (طريف الخالدي) التي تقول “المؤرخون لا يعنون كثيرا بالأبعاد النظرية لعملهم” (3).

4- إزاء هذا السكوت،لا بد أن نستنطق المتن أي العمل نفسه؟لنجيب على هذه الأسئلة المتفرعة عن السؤال المركزي المتعلق ببناء الخطاب.

يخضع خطاب (مي) في بنيته العاهة إلى آليات الخطاب التقليدي المتمثلة في الخضوع إلى زمن تسلسل الوقائع بدلا من العناية بزمن تشكل النصوص، و تشكلها في النصوص، والاستدلال بالروايات أو توجيهها بدلا من قراءتها، والثقة المطلقة في قدرة النصوص على تمثيل واقعها الخارجي بدلا من التشيك في إمكانيات هذا التمثيل.

لقد تحكم التسلسل الزمني للوقائع في خطة الكتاب العامة، وظل زمن الخطاب خاضعا لهذا الزمن من دون قدرة على تشكيل زمنه الخاص الذي يعبر عن قراءته وتمثله.

5- كيف توزعت فصول الكتاب وفق هذا الزمن التسلسلي؟ يتكون الكتاب من أربعة فصول، و في الفصل الأول والثاني تسرد المؤلفة تاريخ الكوفة في ظل الخلافة الراشدية والأموية والعباسية، إلا أن التأريخ لم يكن تاريخا للكوفة بقدر ما كان للخلافة والخلفاء، وكأن المكان لا يأخذ معناه إلا عبر علاقته بسلطتهم، و تبعا لهذه العلاقة أخذ الخطاب يتحرك تبعا لتحرك زمن الخلافة، فمع كل خليفة يبدأ فصل جديد، ومع كل حدث سياسي تنفتح صفحة جديدة في التاريخ.

وفي الفصل الثالث تتابع تاريخ الحركة القرمطية وانفصالها عن الحركة الإسماعيلية، و أخيرا في الفصل الرابع تتابع التاريخ السياسي لهذه الحركة في البحرين، وتنتهي عند السقرط الأخير للدولة القرمطية العام 469هـ ودخول عبدالله العيوني إلى الأحساء.

إن خطاب (مي) يسير بهذه الخطة وفق آليات التاريخ الخطي السردي المستقيم الذي يحتفي بالحدث السياسي المتسلسل سنة بعد سنة وعصرا بعد عصر، تماما وفق الأسلوب الذي كرسه الطبري.

لقد وصفنا هذه الآليات بالتقليدية؟لأنها تقف بخطها العمودي في الطرف المقابل لآليات التأريخ البنيوي الأفقي الذي يشتغل فيه المؤرخ على البنى الاقتصادية أو الاجتماعية أو النفسية (4).

إلى جانب هذه الآليات التقليدية هناك آليات حديثة تمثلها خطاب (مي) في شكل وعي تاريخي بالماضي، وتمثل هذا الوعي في إدراك دور الإكراهات السياسية في صياغة خطاب المؤرخ، ودور الإكراهات العقائدية في تشويه الحقائق التاريخية،والى حد ما دور المتخيل الجماعي في صناعة التاريخ.

يبدو أن خطاب (مي) التاريخي بآلياته التقليدية،و وعيه الحديث،سيجبرنا علي أن نكون أكثر حذرا: فما ينتهي اليه من إقرارات يبررها الوعي الحديث، قد لا تجد في آليات الخطاب التقليدي ما يوفر لها دعامة تعزز معناها. وهذا يعني أن انتصار الوعي الحديث للمهمشين في التاريخ بإعادة كتابة تاريخهم وفق آليات التاريخ التقليدي قد ينتهي إلى أن يكون تاريخا مضادا أو تأريخا أيديولوجيا أو تأريخيا لا يعي معنى تاريخيته أي تاريخا لا يعي معنى اختلاف الجماعات حمل المعنى.

6- لن ننساق وراء هذه التحذيرات الآن، ولنعد إلى تحليل آليات البناء التي تحكمت في تشيد خطاب (مي).

ينبغي أن نلاحظ أن هذه الآليات لا تعمل في فراغ، فلابد أن تكون لديها مادة خام تعمل فيها وتعمل بها، وتتمثل هذه المادة بالنسبة لخطاب (مي) في هذه المصادر التاريخية، والمراجع البحثية، والوثائق الخطية، و الأثرية كما في صورة مجلس العقدانيين.

إن لكل مادة من هذه المواد علمها الخاص الذي تشيد عبره التاريخ، وتستمد منه آليات التأريخ. لنتعرف أولا على هذه المواد ولنتعرف ثانيا على استفادة هذا الخطاب من هذه العلوم.

تتمثل المواد الخام في هذا الكم من الأخبار والمعلومات والمواقف والتقييمات التي تضمنتها المصادر التاريخية القديمة، وهي (الإمامة والسياسة،وتاريخ اليعقوبي، والكامل في التاريخ وتاريخ الأمم و الملوك، ومروج الذهب، وأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وتجارب الأمم وسياست نامة، وسفرنامه، و اتعاظ الحنفاء، وصورة الأرض).

إضافة إلى ما ورد في المراجع الحديثة التي اعتمدت في توثيقها و معلوماتها على هذه المصادر وأبرز ما اعتمده خطاب (مي) يتمثل في (“الدولة العباسية” للشيخ محمد الخضري، و “ثلاثية الحلم القرمطي” لمحي الدين الاذقاني، و “الحركات السرية في الإسلام” لمحمود إسماعيل و “القرامطة” لعارف تامر، و “القرامطة” لإسماعيل العير علي، و “القرامطة أول حركة اشتراكية في الإسلام” لطه الولي، و “الجامع في أخبار القرامطة” لسهيل زكار، و “أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية” لبرنارد لوبيس، و “القرامطة” لميكال يدن دي خويه).

أمام هذه الحشد الهائل من المصادر والمراجع، لا تشك أنك أمام دراسة أكاديمية توثيقية وفية لأصول المنهجية العلمية، لذلك لا يمكن ونحن مغرقون بمشات الهوامش التي تحيل إلى كل هذا الكم من المصادر والمراجع،أن نحمل تصريحات الباحثة التي تبعد عن نفسها الأوصاف الأكاديمية محمل الجد،فالخطاب غارق حتى الثمالة فيها.

الخطاب إذن محكوم البناء من الناحية الأكاديمية التي تفرضها إكراهات التوثيق التاريخي، لكن ماذا عن البناء المعرفي الذي يمنح الخطاب أمالته الخاصة التي لا يمكن قياسها على أي محك تعليمي أو نموذج جهاز؟

7- هذا السؤال يفضي بنا مباشرة إلى آليات تعامل هذا الخطاب مع هذه المواد الخام ومع علومها التي هي بمثابة مفاتيحها.

يحدثنا المفكر عبدالله القروي في كتابه الهام “مفهوم التاريخ” عن العلوم المساعدة للمؤرخ، ويقرر في هذا المجال أنه “توجد علوم حقيقة نسميها نحن مواكبة للتاريخ؛ لأنها تتطور بجانبه وتشاركه في المناهج والمفاهيم نذكر بعضها هنا: اللغويات مع التاريخ بالخبر، والقانون مع التاريخ بالعهد والنقد الفني مع التاريخ بالتمثال وعلم الأرض مع التاريخ بالأثر الطبيعي.. الخ” (5).

معنى هذا أن المؤرخ لابد له من الاستناد إلى معطيات العلوم الإنسانية أو الطبيعية لبناء خطابه بناء متماسكا؛ وذلك لما تتيحه هذه العلوم من معطيات علمية يتمثلها المؤرخ في شكل آليات إنتاج يشيد من خلالها خطابه.

إن معطيات هذه العلوم لا تقدم خدماتها للمؤرخ فقط، بل إن قارئ الخطاب التاريخي يستمد منها خلفية معرفية تساعده في تفكيك الخطابات التاريخية، وبذلك يغادر في علاقته معها صيغة “اعلم أن…”.

إن الخطاب التاريخي الذي تشيده (مي) تتمثل عادته الخام في هذا الكم من المرويات والأخباريات التي تتضمنها المصادر والمراجع التاريخية. وقد غدت بفعل الكتابة نصوصا لغوية بحاجة إلى علم اللغويات؛ ليتمكن المؤرخ والقارئ من تصريفها واستثمارها؛ و ذلك لأنها لم تعد في صياغتها اللغوية قادرة على النطق. إنها بحاجة إلى أجهزة حديثة تستنطقها؛ لذلك فهي لا تصلح أن تكون دليلا أو أثرا نستدل به.

“ومن أبرز هذه الحقائق والمبادئ، المقررة اليوم عند السميائيين بصفة خاصة، أنه لا يمكن التعامل مع الكتابات التاريخية المذكورة على أساس أنها معطيات خام قابلة للاستخدام والاستدلال التاريخي أو جذاذات جاهزة للاستشهاد والاستثمار العلمي، إنما ينبغي مكاشفتها ككيانات سميائية شديدة التعقيد يفترض استعمالها الحذر لدى المؤرخ والناقد الأدبي إدراكا شاملا لآليات صياغة الخطاب التاريخي. ولذلك حق للباحثة فدوى مالطي – دوجلاس أن تؤكد بهذا الصدد أن ز أي محاولة لتفسير العناصر (الاسمية) في التراجم على أنها محض معلومات، بمعنى استخدام هذا التراجم على أنها أعمال مرجعية، وذلك عن طريق فصل المادة عن سياقها السميائي فإنه يخفي العلامات، وبدلا من المدلول فإن الدارس قد يترك وليس لديه سوى المرجع”(6).

وهذا ما يؤكده الدكتور محمد حداد بقوله “لم يعد ممكنا التعامل مع الوثيقة على أنها مجرد عرض للعالم الخارجي، فلابد قبل ذلك من المرور بنظام اللغة الذي يحدد العلاقة بين الوثيقة و النظام الخارجي” (7).

هذه هو المسوغ الذي يمكن دارس اللغة من الذهاب إلى الخطاب التاريخي، هذا فضلا عن مسوغات التداخل المعرفي التي فتحت جميع العلوم على بعضها.

أن ما يفتقده خطاب (مي) هو الحاجة إلى العلوم المساندة التي تتمثل اليوم في مجمل إنجازات العلوم الإنسانية، فلا يمكن لخطاب (مي) أن يحقق أمالته من دون هذه العلوم المساعدة.

8- سنحاول الآن أن نوجز مظاهر الغياب المعرفي الناتجة عن افتقار آليات خطابها إلى العلوم الانسانية:

× إغفال هذا الخطاب المظلات المعرفية التي كتبت تحت ظلالها المصادر التاريخية والمراجع الحديثة خطابها التاريخي. إن هذا الغياب يجعلنا نتعامل مع هذه المصادر والمراجع وكأنها أشبه بأوعية محايدة لا دخل لها في توجيه وانتاج الواقعة التاريخية أو الرواية وهذا ربما ما أوقع خطاب مي في مأزق التمثل اليساري الذي وقعت فيه بعض مراجعها، كما هو الشأن مع كتاب “القرامطة أول حركة اشتراكية في الإسلام”. ولا أبالغ إذا ما قلت إن خطاب مي قائم في أساسه على فكرة هذا العنوان، كما سأوضح في التحليلات القادمة.

× وترتب على ذلك غياب النقد المعرفي للكيفية التي تمثلة فيها هذه المصادر أو المراجع مادة خطابها التاريخي.النقد الوحيد الذي احتفى به هذا الخطاب كان موجها إلى الإكراهات السياسية والعقائدية التي تحكمت في الكتابة التاريخية، لكن حتى هذا النقد كان مصاغا بلفة أقرب إلى التعاطف مع من وقع عليهم هذا الإكراه، ولم يتحول إلى نقد معرفي.

* الخضوع إلى وقائع الخطابات التاريخية من دون إخضاعها إلى مشرحة التفكيك، وهذا ما جعل من هذا الخطاب أقرب إلى العرض منه إلى الكتابة التاريخية؛ فـ “لا تقدم أصلا في كتابة التاريخ وانما يحصل التقدم في نقد النصوص، واختيار الموضوعات”.(8)

وترتب على ذلك تحول نصوص المؤرخين إلى وثائق يحتج بها،بدلا من أن تكون ساحة عمل ومساءلة، وتبعا لهذه الآلية أصبح متن الخطاب التاريخي الذي تكتبه (مي) يسير على ماء الهامش، ويتحرك مع دفوعاته، ويتجه وفق رياحه من دون قدرة على التحكم.لنقل إن الهامش تحول متنا يكتب وفق آلياته هامش (مي) وقد أنتجت هذه الآليات في النهاية خطابا تاريخيا أقرب إلى الأسطوغرافيا التي لا تتجاوز أن تكون تجميعا لما قيل أو كتب حول موضوع ما.

9- إن دخول خطاب (مي)على التاريخ عبر ترقيق العبارة واشتقاق العناوين الأدبية الموحية، ونظم المتفرقات تحت بعضها لتقديم الحكاية بأسلوب أكثر بساطة وعصرية، لا يمكن أن ينتج خطابا تاريخيا أيضا،فما دامت وقائع الخطابات التاريخية محافظة على تشكيلاتها في خطاب (مي) ولم تتخلخل أنظمتها بعد، فلا يمكن أن نتحدث عن خطاب تاريخي جديد.لابد من مغادرة وظيفة الراوي الثقة الذي يحرص على سرد سلسلة إسناده بأمانة من دون أن تتدخل ذاته في إعادة تشكيل الخطاب الذي يرويه. بمعنى لابد للخطاب التاريخي الذي يفارق زمن الخطابات التاريخية التقليدية أن ينفك من أنظمتها في إنتاج المعنى؛ ليعيد تشكيلها من جديد وفق أنظمة المعنى الحديثة، بهذا يحصن خطابه ضد التطابق والتنساخ.

إن وظيفة الراوي الثقة تنصب على أمانة التوثيق والنقل الأمين لمحتوى العنعنات. وفي حالة خطاب (مي) تتوسع دائرة المروي عنهم لتشمل جميع من كتب عن القرامطة.

في مقابل هذه العناية بالأمانة تغيب جرأة التسمية، فالراوي هنا لا يجرؤ على تسمية الأشياء، فوظيفته المحافظة على تسميات الأطر المرجعية التي يروي عنها، ونقلها بأمانة.

10- وسأميز هنا بين مستويين من التسمية:

المستوى الأول:

ويضم التسميات التي تحمل أحكام قيمة تعبر عن موقف، أو تحمل مفاهيم عامة تعبر عن رؤية، وتتمثل تسميات هذا المستوى في النماذج التالية (الباطنية، التعليمية، الخوارج، الثوار، الإمام، البهية، الإمامة الاشتراكية، الشريعة، الخليفة، الدعاة…. الخ).

المستوى الثاني:

ويضم التسميات التي يتحسس ويقرأ بها المؤرخ تسميات المستوى الأول.

لكل من هذه التسميات حضوره القوي في الخطاب التاريخي، وفي تشكيلته الخطابية، وتفرز هذه التسميات خلافاتها العقائدية والسياسية، وهي أبرز تجل لاحترابات البشر حول المعنى، فالمعنى يحل دوما في ملفوظات تتخذ تسميات يتنازع حولها البشر ويتخاصمون، وتتخذ التسميات في خطاب المؤرخ مواقعها التي تعبر عن مواقع الرؤى المختلفة وبهذا تتشكل أنظمة الخطاب التاريخي.

إن تسميات المؤرخ تعبر عن قراءته لهذه التسميات المتخاصمة وهو يستمدها من العلوم المساعدة في شكل مفاهيم ومصطلحات لديها القدرة على الكشف والحفر من دون الوقوع في مطبات ما تكشف عنه.

كلما تمكن المؤرخ من ابتكار تسمياته، استطاع أن يؤمن لخطابه قدرا أعلى من الموضوعية والدقة والتبصر، إلا أن ذلك صعب التحقيق، فالمؤرخ يأتي وقد أخذت الأشياء أسماءها غيرا لمحايدة، ومهما كانت يقظته، يبقى احتمال أن يقع تحت غواية نظامها، ويتخذ الوقوع تحت غواية هذا النظام شكلين: شكل التماهي والتعاطف، وشكل الرفض؛ لذا فهو بحاجة إلى نظام تسمية آخر، لديه القدرة على قراءة النظام الذي يؤرخ له.

إن إشكالية المؤرخ المعاصر تتمثل في الوعي المتعمق بالكيفية التي يتحرك بها خطابه وفق أنظمة اللغة في التسمية، لكن في خطاب (مي) تتحول الإشكالية إلى مشكلة تتعلق بالموقف والانتصار وما يتطلبانه من أوصاف و تسميات.

في الإشكالية نحن أمام علاقة شائكة بين الأسماء (التسميات) والأشياء لم السميات ا وفي المشكلة نحن أمام موقف يزج بنفسه داخل الإشكالية لتنتجه، لا لينتجها.

11- إن خطاب (مي) وقع تحت غواية النظام الذي تؤرخ من خلاله أي تحت أنظمة المعنى والتمثلات الرمزية لمصادرها التاريخية ومراجعها الحديثة.

ويبدو أن خطابها كان يقرأ المصادر عبر المراجع، ولم يتنبه إلى أهمية أن يكون له نظام رمزي مستقل في رؤيته و آلياته عن نظام هذه المراجع التي يبدو أنها متأثرة في أغلبها – كما توحي عناوينها – بنظام المعنى اليساري الثوري الذي أنتجها في فترات الستينيات والسبعينات.

لقد كان على هذا الخطاب أن يعي تاريخيته، وهو يعيش نهاية التسعينيات، وذلك بإدراك نظام المعنى الرمزي الذي تعيشه المعرفة الحديثة في هذه الفترة.

وفي مقابل الوقوع تحت غواية التماهي مع نظام المراجع الرمزي في تمثلها لحركة القرامطة، هناك غواية الرفض لمتبنيات المصادر المضادة للقرامطة. لا شك أن الغواية الثانية من إنتاج الغواية الأولى لكنها تميزت بأنها راحت تقرأ المصادر بنفسها، وان كانت تحت نظامها، بمعنى أن خطاب (مي) كان يقرأ المصادر بعيون المراجع، بحثا عن مزيد من المعلومات. و الدليل على ذلك أنه تبع ما قامت به المراجع من إلغاء لتسميات المثالب والاحتقار، و تبنى تسميات هذه المراجع ذات الطابع الأيديولوجي !!.

ولأدلل على ذلك، سأحاول قراءة صدى فكرة الكتاب المركزية، ذلك الصدى القادم من أعماق المعنى اليساري.

رغم إن خطاب (مي) يخضع في آلياته – كما قلنا – إلى آليات الخطاب التاريخي التقليدي في تتبعه لتسلسل الأحداث كما يفترض أن تكون عليه في زمن الوقائع، و ما يترتب على هذا التتبع من إيهام أنه يقول ما جرى بموضوعية تتطابق مع الموضوع الخارجي الذي وقع، فإن ذلك لا يحول بيننا وبين إدراك وجود فكرة أساسية موجهة (بكسر الجيم) تعمل على إنتاج ممنى الوقائع وفق معناها.

12- ما هذه الفكرة؟

الفكرة هي أن حركة القرامطة تمثل أول جمهورية اشتراكية.

سنحاول قراءة هذه الفكرة أولا عبر تتبع تجلياتها في ملفوظ خطاب (مي)، وثانيا عبر تتبع تسربها إلى خطابها، وثالثا تتبع أثرها في قراءة المرويات والأحداث.

تتجلى هذه الفكرة في ملفوظات الخطاب بصيغ متعددة، و هنا نذكر أهمها: “كان أبا سعيد بن بهرام الجنابي صاحب أول دول اشتراكية استمرت في البحرين حتى عام 398هـ” ص 196، “من قرية جنابة على الساحل الفارسي، جاء الحسن بن بهرام بن بهوشت الجنابي بائع الفراء الذي دخل الدعوة القرمطية وأسس أول جمهورية اشتراكية في التاريخ” ص 240، “بائع الدقيق أول رئيس لأول جمهورية اشتراكية” ص 239، “إلا أن المجتمع الاشتراكي لا يعني عدم ملكية الدولة للمصادر الرئيسية لكنه يعني الضمان الاجتماعي والألفة وتوفير حاجة الأفراد” ص 253.

ليس هناك حاجة لأي تأويل، فالخطاب يعلن عن فكرته يوضح ويسميها ممارسا أخطر وظيفة يقوم بها المؤرخ. وهل بعد هذه التسمية – الاشتراكي هنا- من فكاك من الانصياع لنظامها الذي يفرض توجيهاته واعلاءاته، ليجعل الخطاب يقول متبنياته.

سنتابع إكراهات نظام التسمية هذه بعد أن نتعرف المسارب التي دخلت منها إلى خطاب (مي).

في قائمة المراجع اسم يتردد كثيرا في هوامش الخطاب، إنه كتاب (طه الولي) “القرامطة أول حركة اشتراكية في الإسلام”. وأضح التطابق بين هذا العنوان وبين الفكرة التي يقوم عليها خطاب (مي) لكن ليس هذا هو المهم، فتشابه العنوان مع الفكرة، لا يعدو أن يكون مؤشرا أوليا يحفزنا إلى قراءة ما خلف السطور.

ما خلف السطور يتمثل في حضور هذا التمثل الرمزي لفكرة الحركة القر مطية في التاريخ، فخطاب (مي) يتمثل قيام حركة القرامطة حسب توجيهات هذا التلقي الذي يوحيه هذا الكتاب أي وفق نظام تسميته، من دون ملاحظة الظرف التاريخي الذي لعب دورا في إنتاجه.

13- ننتقل الآن إلى الخطوة الثالثة؛ لنرى أثر هذا الحضور في توجيه المرويات والوقائع. و سنتخذ من شخصية (أبي سعيد الجنابي) نموذجا، نرى من خلاله أثر هذا الحضور. تبرز صورة (أبو سعيد الجنابي) في خطاب (مي) من خلال ثلاثة مصادر، المصدر الأول يمثله المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفاء) و ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) والطبري في كتابه (تاريخ الأمم و الملوك) والنويري في كتابه (نهاية الأرب). والمصدر الثاني تمثله المراجع الحديثة، والمصدر الثالث تمثله تعليقات الباحثة.

يبرز (أبو سعيد) في مرويات المصادر القديمة شخصية مختلفا في أصلها وبداياتها، ويصفه المقريزي بأنه رجل قتال دخل البحرين، وتمكن عبر غزواته من إجبار الناس على طاعته، و أخذ في بناء دولته سياسيا و اقتصاديا، وساهم في تدعيم اقتصاد الدولة النساء والصبيان، كما كان للمرأة في دولته دور في القتال. تنتهي حياته بالقتل على يدي خادم صقلي في الحمام،وتختلف هذه المصادر في السبب الذي دفع الخادم لقتله، فالنويري يرى أنه أخذته الغيرة على الإسلام بسبب عدم اكتراث أبي سعيد بالصلاة، وابن الأثير يرجع السبب إلى أن أبا سعيد أراد الخادم على الفاحشة.

14- أما صورة هذه الشخصية في المراجع الحديثة، فهي أقرب إلى البطولة، فأبو سعيد شخصية عصامية، وقد أسست هذه الشخصية أركان الدولة بفضل ذكائها وصدقها و قدرتها على الاتصال بالقبائل البدوية التي وجدت عند أبي سعيد الكرم مقابلا للطاعة، و بالترهيب والترغيب تمكن من فرض نفوذه، مؤسسا بذلك دولة تقوم على إلغاء الملكيات الخاصة و تأخذ بالملكيات الجماعية، و تمكن خلال فترة لم تتجاوزا لعقدين (286هـ – 301هـ) من إقامة مجتمع اشتراكي عسكري من طراز لم يعرف له مثيل في السابق، ويدير أبو سعيد هذا المجتمع من خلال مجلس استشاري عرف بمجلس العقدانية (أهل الحل والعقد).

وقد أعطت دولة الجنابي للمرأة مكانة عالية مساوية للرجل ونتيجة لهذه المكانة لعبت دورا كبيرا في تأسيس الدولة، وترجع هذه المكانة التي أعطيت للمرأة وللتشاور إلى الأساس الفلسفي اليوناني الذي أخذت به. وتنتهي صورة هذا البطل مقتولا إثر مؤامرة عباسية أو فاطمية على يدي خادم صقلي و ذلك بعد أن أسس الحصر الذهبي لدولته.

15- أما صورة (أبي سعيد) في تعليقات مي، فهي لا تختلف عن صورته في هذا المراجع، بل إنها تذهب بعيدا في تدعيم هذه الصورة و إبراز تميزها الفريد مواصلة بذلك المهمة التي سعت المراجع لأدائها؛ فإذا كانت الصفة الاشتراكية هي أهم مميز احتفت به المراجع فإن (مي) تضيف اليها صفة الديمقراطية لتتناسب هذه الصورة مع عصر الزعيم الديمقراطي الذي يعيش في التسعينيات هكذا “وخلافا لجميع الحركات التي ظهرت آنذاك فإن أبا سعيد لم يدع النسب العلوي كما فعل صاحب الزنج وأبناء زكرويه ولم يعلن عن نفسه إماما كما فعل علي بن الفضل (في اليمن)، وانما اكتفى بلقب “سيد” وعلى هديه سار أتباعه في نهج ديمقراطي وسلوك في غاية التواضع” ص 244.

ولتأكيد هذه الصورة راحت تبرز الأساس الفلسفي الذي قامت عليه و استمدت منه ملامحها “وفي الحقيقة كان الفكر البديل الذي أنتجه القرامطة نتاج عصر التنوير الذي بدأ بعهد هارون الرشيد وبدار الحكمة في عهد المأمون وكذلك بالحركة النشطة للترجمة والتفسير والتأليف التي شارك فيها العلماء والأطباء والمهندسون والفلاسفة من جميع المذاهب والجنسيات” ص 212.

وتأكيدا على تميز النهج تقول “كان منهجا عقلانيا فلسفيا أكثر من كونه روحيا عقائديا وكانت ادارتها جماعية وملكيتها مشاعة في حين إن الدولة الفاطمية لم تختلف عمن سبقها من أمويين وعباسيين” ص 200. وكان من نتائج هذه الخلفية الفلسفية التي استند عليها بائع الدقيق !! أنه “لم يأت الجنابي بجيش لفتح البحرين ولم يحمل السيف الذي كان أداة الفتح في التاريخ الإسلامي (وعند الإسماعيليين في افريقيا واليمن) بل قامت الدولة الجديدة على الإقناع وكان الأهالي على مستوى عال من الثقافة وفي انتظار واستعداد لتقبل فكر القرامطة ومنهجهم. وفي البحرين طبق أبو سعيد الجنابي تعاليم حمدان وعبدان وأسس دولة لم يشهد التاريخ الإسلامي شبيها لتجربتها !!!” ص 218.

وكي تستقيم هذه الصورة في أبهي حلتها، كان لا بد من تفنيد الأكاذيب التي تضمنتها كتب المؤرخين، و لابد أيضا من تبرير الأعمال التي تتعارض مع هذه الصورة. سأكتفي بهذه الفقرة الدالة لأنتقل بعد ذلك لتحليل هذا التلقي.

تقول (مي) بعد أن تعرض باقتضاب الشبهات التي أثيرت حول القرامطة “ومهما حاولنا الوقوف مع الرأي المضاد لعقيدة القرامطة إلا أننا نجد أنها (برغم سلبياتها وتجاوزاتها) كانت تلبي مطالب الجماعة وتنمي في الإنسان القدرة على استخدام العقل ورفض التسليم أو النقل المباشر للتعاليم الدينية وترى أن الوصول إلى الإيمان عن طريق العقل لا يعد بدعة ولا خروجا عن الدين” ص 262.

16- لا يمكن تحليل التلقي الثقافي أو الفكري لأي ظاهرة خارج الزمن التاريخي، فلكل زمن أمنياته وأفقه ومشاغله التي تحدد أطر استقباله، واذا ما حاولنا قراءة تلقي المراجع الحديثة لتاريخ الحضارة العربية العباسي على وجه العموم، وتاريخ المعارضة السياسية على وجه الخصوص، فسنجد تأثر الكتابة التاريخية – التي تهمنا هنا من بين بقية الكتابات – بالأفق الثوري العام الذي يغلب عليه الطابع الأيديولوجي في فترة الستينيات والسبعينيات، و أهم سمة تجلت في هذا الأفق هي الانتصار للتاريخ الثوري والاحتفاء بالنماذج الثورية، بإسباغ هالات البطولة عليها، واخفاء تناقضاتها التي تصطدم مع التمثلات الجماهيرية المثالية لصورة الزعيم الثوري.

ومثلما مارس هذا الأفق – عبر زعمائه السياسيين – آليات الأنظمة السلطوية التي تمثلها تمثلا جيدا بعد ما عارضها على أرض الواقع في المجال السياسي خصوصا، مارست آليات هذا الأفق – عبر زعمائه المثقفين -الأمر نفسه في مجال الكتابة بما فيها الكتابة التاريخية.

لقد حذفت هذه الكتابة من أجندتها تاريخ الملوك؟ لتنصب المعارضين ملوكا رمزيين من دون أن تتأمل تأريخيا النسق الثقافي الذي كان ينتجها، و ينتج المعارضة، و ينتج السلطة. وتحت هذه الإنتاج أصبحنا نؤرخ للمعا رضة بآليات التأريخ للسلطة.

(أبو سعيد الجنابي) يمثل نموذجا صارخا لهذه الممارسة التي تورط فيها خطاب (مي) من خلال استمرار محاولاتها في لعب دور التنزيه، تماما فكما للملوك فمجدوهم و منزهوهم من الكتاب والشعراء والمؤرخين، فللمعارضين أيضا ممجدوهم ومنزهوهم من الكتاب والشعراء و المؤرخين.

ولو قدر لخطاب (مي) أن يستبدل هذا التلقي الثوري الذي لا يعرف إلا لفة (الضد أو المع) بنموذج التلقي الانثروبولوجي لشخصية الزعيم في السرديات، لأدركت حتى من دون الرجوع إلى كل هذا الكم من الأخبار والمرويات أن نموذج الزعامة الثورية ما انفك على مر التاريخ من تكرار أدوار الزعامة الملكية، لو فعلت ذلك لو فرت على نفسها مشقة الترافع والدفاع عن نماذجها الثورية تحت سميات (العقدانية الاشتراكية) أو (الديمقراطية الاشتراكية) ولعرفت أن المبادئ العقلانية والنظريات الفلسفية التي تنظر لكل تحرك معارض، لا تلبث أن تستبدل بنظام آخر يفرضه الواقع الثوري بسياسته الصارمة.

الهوامش

1- مجلة دراسات عربية، العدد 9/ 10، 1997 م.

2- يمكن مراجعة كتاب “التاريخ و اللسانيات” الصادر عن كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط عام 1990م.

3-فكرة التاريخ عند العرب، ص 15

4- راجع كتاب محمد أركون “أين هو الفكر الإسلامي المعاصر”، ص 100

5- ص 198، ج 1

6- نزار التجديتي، مجلة دراسات عربية، العدد 3/4، 1998.

7- مجلة دراسات عربية، العدد 9/1997.10م.

8- بول فبين /نقلا عن عبد الله القروي، مفهوم التاريخ، ص 196، ج1.

رابط الموضوع

الحوار المتمدن-العدد: 180 – 2002 / 7 / 5 – 10:00
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية

الجبروت الرمزي في خطاب الغذامي

-1-

من أكثر الأشياء دلالة على أصالة المفكر، قدرته على ابتكار مفاهيمه وحسن استثماره لمفاهيم غيره، وتطويع ابتكاراته واستثماراته تطويعاً تطبيقياً لقراءة منتجات ثقافته .

وقراءة المفاهيم تفتحنا مباشرة على العقل الذي يتحرك من خلاله المفكر، وترينا الخارطة التي من خلالها يتحرك، وتنبئنا بالصيرورة التي يمكن أن ينتهي إليها .

من هنا – حيث بوابة المفاهيم – فضلت الدخول على عالم الناقد الدكتور عبدالله الغذامي الذي أصبح علامة بارزة من علامات النقد في الثقافة العربية (ولست أدري إن كان بالإمكان الحديث عن شروط النسق الثقافي الذي أتاح لها أن تأخذ مكانها ضمنه ) .

وسيكون هذا المدخل عبر قراءة مفـهومه ( الجبروت الرمزي ) قراءة تأويلية، لا تقف عند حدود ما يحد خطابه به هذا المفهوم، ولا عند الإمكانات التطبيقية التي قرأ عبرها المنتجات الثقافية ، فأنا معني بالدخول في حوار معه من الداخل لتفتيق مزيد إمكاناته، ولاستثمار كثير من مدلولاته، ولتحقيق مزيد من الثراء المعرفي؛ لتتكوثر معرفتي بما يفتحه لي صوت هذا المفهوم من أصداء تردد داخلي أصوات الآخر.

-2-

مــا الذي يعنيه مفهوم ( الجبروت الرمزي)؟

يجيبنا خطاب الغذامي بأنه ” الشرط الثقافي وسماته النسقية” ولتفسير هذا الإجمال عليك أن تقرأ خطاب الغذامي النقدي النظري والتطبيقي، وبعد ذلك عليك أن تقدم فهمك في شكل تأويل مكثف تستعين فيه بخلفيتك المعرفية؛ لتعطي معنى المفهوم حياة جديدة . لتنجز هذه القراءة إذن . 

لا يمكننا أن نستقبل مفهوم (الرمز) من دون استحضار هذا التاريخ الطويل لمفهوم العلامة الذي شغل تفكير الحضارة العربية قديماً، والحضارة الغربية حديثاً، تحت مسميات متعددة ومقاربات متباينة وسيحضر ضمن هذا التاريخ مكونات العلامة التي اشتغل عليها علماء اللغويات من أمثال (الجرجاني)  و(دي سوسير) وغيرهم، كما سيحضر الدال والمدلول والمرجع الخارجي، وستحضر جميع التصورات حول هذه المكونات، لكن يهمنا ما انتهى إليه التصور الحديث الذي شغل خطاب الغذامي النظري في ( الخطيئة والتكفير) و( تشريح النص) . 

لا تهمنا تفصيلات هذا التصور الذي بات معروفاً، فما يهمنا فقط هو تحرير مفهوم العلامة من التصورات التقليدية التي أسرته في نطاق المعنى القبلي، والمعنى الأحادي و المعنى التطابقي .

إن خطاب الغذامي يتموقع ضمن المعنى الحديث للعلامة الذي يفتح الدوال على تأويلات لا حد لها، ومن دون أن ترتهن لأي معنى قبلي أو مرجع خارجي تتطابق معه؛ فللدوال نسقها الخاص الذي يولد معناها .

-3-

يكفينا هـذا التصور العام والمجمل لمفهوم ( الرمز) ولنأتِ الآن لمفهوم (الجبروت) وما تنتجه العلاقة الوصفية بينهما (أي بين الجبروت والرمز).

المعنى اللغوي الذي يحيل إليه (الجبروت) هو القهر والعتو ، فأي معنى يمكن أن ينتج من استثمار هذه الدلالة اللغوية؟

لمعرفة ذلك، لا بد أن نعرف أن المدلول الذي يحمله الرمز لا يوجد إلا في أذهاننا، وأن ساحة النشاط التي تنتعش فيها الدوال تقع في عقلنا، ومن هنا فإن للرمز حضوراً رمزياً في تفكيرنا، وتبعاً لذلك سيكون للقهر الذي يتصف به هذا المفهوم حضوره أيضاً في تفكيرنا ومخيلتنا.

للرمز إذن جبروته أي قهره – ولنتذكر أن الله لا يمارس جبروته فينا وفي وجودنا إلا عبر رموز – ويمارس الرمز جبروته عبر الجمهوريات النظرية التي يؤسسها ويرعاها تحت ظله في عقولنا . ألـم تكن (أمريكا) بوصفها رمزاً جمهورية نظرية في كتاب الغذامي (رحلة إلى جمهورية النظرية.. مقاربات لقراءة وجه أمريكا الثقافي)

-4-

ما الذي يقهره الرمز؟

يقهر هذا الجبروت عقولنا، التي ما فتئت تفاخر بعصمتها وقدرتها على المقاومة والصمود، ويقهر عقلانيتنا المفرطة إلى حد النرجسية، ويقهر تعالينا وثقتنا المطلقة بالعقل الذي بات مع عصر الأنوار متعالياً ومطلقاً وخالصاً ، لا مكان فيه للأسطوري، ولا للمتخيل، ولا للخرافي، وإذا بهذا الرمز يفرض بجبروته على الإنسانية أن تتخلى عن مكتسباتها؛ لتدخل حروبا حيوانية، ليس فيها أي قدر من المعقول. 

يقهر هذا الرمز أحادية تفسيراتنا التي ما فتئت تدعي امتلاكها لحقيقة الأشياء. إنه يقهر سلطة امتلاكنا. باختصار يقهر كل ادعاء فينا.

-5-

بم يقهر الرمز كل ذلك ؟

بجبروته الذي يستمده من تعدده واختلافه ، وتحولاته، وتأويلاته، ومخاتلاته وأوهامه التي يخدرنا بها، وعروشه النظرية التي نستظل تحت فيّها، وسلطاته التي يحركنا من خلالها. ألم يقل الغذامي إن علينا أن ندرس الإنسان بوصفه لغة، كي نجيب على سؤال المشكل الحضاري العربي .

إن جبروت الرمز يمارس كل ذلك في تجلياته المتعددة التي تتخذ مرة صورة اللغة ومرة صورة أيقونة ومرة صورة الشعر … الخ .

ليس لهذا الجبروت شكل واحد، بل إنه يتعدد، ويتبدل حتى في الشكل الواحد، ولا أدل على ذلك من شكله اللغوي الذي يموت فينا، ويحيى آلاف المرات، لذلك كان سؤال الغذامي له عندما كان يحاول التعرف عليه حين حل في قصة طرفة بن العبد هو ” كيف يتحرك (الجبروت الرمزي) فارضاً شروطه بمفارقة الواقع وإنشاء واقعه الخاص من حيث تخييل هذا الواقع “. وضمن هذا الواقع الخاص صار المبدع في الرواية “يخلق عشيرة متخيلة عبر السرد” تأنيث القصيدة / ص36 

في ضوء هذه التجليات المتعددة( للجبروت الرمزي) يمكننا أن نفهم إشارة الغذامي له بأنه “الشرط الثقافي وسماته النسقية” فهذه الإشارة توسعه لتجعل منه شرطاً ثقافياً، يتجاوز نطاق الشرط الأدبي، فالأدبي يعيش ضمن مملكته ونسقه الرمزي، ولا نغالي إذا ما قلنا إن موضوع النقد الثقافي هو جبروت الرمز الذي يتجلى في أشكال مجازية لا حد لها .

-6-

بهذا يغادر النقد موضوع النص الأدبي والمعايير الجمالية الأدبية؛ لينفتح على الثفافي متعقباً الساحات التي يحتلها الرمز بجبروته؛ ليحررها بقراءته، وبهذا التعقب يتجاور الساحة الأدبية؛ لينفتح على الساحة الثقافية، ويغدو بذلك نقداً ثقافياً.

بهذا يغدو النقد نشاطاً قرائياً – موضوعه الرمز – منفتحاً على مجمل الأنساق الثقافية متنقلاً بين علامتها فاتحاً مدلولاتها على بعضها.

لم يعد النص الأدبي مع هذا الفتح بضاعة الناقد الوحيدة، كما أن أدوات هذا الناقد لم تعد قاصرة في أداء فاعليتها على فك شفرات هذه الرموز الأدبية، بل غدت قادرة على تفكيك أعتى الرموز طغياناً ، وأشدها خفاءً، وأعقدها التباساً، وأكثرها مراوغة.

-7-

من هنا تأتي مشروعية الكتابة عند الغذامي في اتجاهاتها المتعددة، فمرة تلاحق الكثافة الرمزية لهذا الكم من الحكايات التي تتخذ من المرأة موضوعاً أثيراً لديها، ومرة تلاحق القارئ وهو يجوب فيافي الصحراء، ومرة تلاحق الطاغية في قماطه الشعري، ومرة تلاحق معاني الحرية  في مقولات النقد القديم، ومرة تلاحق الفحولة وهي تسكت صوت الأنوثة.

في كل هذه الملاحقات يبرز عمود الشعر، ويبرز التأنيث، وتبرز الفحولة بوصفها رموزا ثقافية، تنصاع إلى جبروت النسق الثقافي الذي يعطيها معناها، ويتحكم في مركزيتها.

من هنا فإن قراءة الحدث الأدبي سواء أكان قصيدة التفعيلة أم كتابة الرواية أو قصيدة النثر أو الخ لابد أن يكون ضمن النسق الثقافي الذي يمنحه شروط الوجود والإمكان. وبهذه القراءة تتبدى الكتابة متحدية عتاوة الرمز، وشدة خفائه، وعُقد التباسه، و طغيان مقولاته.

-8-

وفي مفهوم الأسلوبين لفكرة (الإجبار الركني) شيء من معنى (الجبروت الرمزي) يمكن استثماره في إغناء هذا المفهوم وفهمه. وتقوم فكرة (الإجبار الركني) كما يقدمها الغذامي على نتائج الفحص الأسلوبي التي تشير إلى أن عناصر النص يدعو بعضها بعضاً حيث يتم عادة اختيار العناصر الأولى اختياراً حراً ثم تفرض هذه العناصر الحقل الدلالي المتسق معها.

ما يحدث على مستوى النص يحدث على مستوى الثقافة، فالنسق الثقافي يفرض عليك بجبروته الرمزي الحقل الدلالي الذي يجعلك منسجماً مع نصوص الثقافة وحين تتحدى جبروته بالكتابة أو القراءة خارج نسقه يفرض عليك عقوباته الخاصة التي أيسرها نفيك من ساحة معناه. هكذا نتخلق ضمن هذا الجبروت. 

وللحديث بقية يمكن أن نستكملها مع صدور كتاب الغذامي (النقد الثقافي _ النظرية والتطبيق)          

جريدة الأيام البحرينية

علي أحمد الديري

alialdairy@alayam.com

القارئ بوصفه رحالا بدويا

امبرتو إيكو
امبرتو إيكو

لقد مرَّ مفهوم القارئ بعدة تنقلات وتبع هذا التنقل تغير وظائفه القرائية وتنتج عن ذلك تغير في مفهوم القراءة، سنحاول مقاربة هذه التنقلات عبر تفكيك استعارة العلوم النقدية والاجتماعية لعالم البداوة؛ للتعبير عن مفهوم القارئ ووظيفته.

البداوة دال يحيل غالباً على تصورات ، تتعارض مع مفهوم التحضر. إنه أقرب إلى معاني البدائية، والهمجية والعصبية. هذه الحمولة الدلالية الشائعة ما عاد لها حضور حين نستعير هذا الدال؛ للتعبير عن مفهوم القارئ. فهذا البدوي لم يعد في استعاراتنا الجديدة كائناً يعيش الكفاف، ولم يعد متوحشاً يبحث عن غنيمة ينقض عليها. إنّ في عالم هذا البدوي من الدلالات ما لم يكتشف بعد، أو لنقل ما لم يلتفت إليه بعد، هذا البعد هو ما تلتقطه الاستعارة الجديدة وتحاول مضاعفة دلالته.

قبل الدخول في عالم هذه الاستعارة الجديدة دعونا نتأمل في التغيرات التي طرأت على مفهوم القارئ والقراءة و المقروء؛ فهذه الاستعارة تشير إلى تحولات مفهومية عميقة يجب ملاحظتها.

_2_

ما الذي تغير في عالم القارئ؟ 

لم يعد القارئ في المفهوم الحديث ذلك الكائن الذي يترجم رموز الكتابة أصواتاً، يُسمعها للآخرين، ولم يعد ذلك الكائن الأمين الذي يقرأ نصوص الآخرين بحثاً عن مقاصدهم ومرادهم، وليس هو آفة الكتب الذي لا يكف عن ملاحقة حروفها، وأسطرها، وصفحاتها. فكل هذه المعاني التي تستحضرها مفـــردة ( القارئ ) عادت مفهومات تقليدية لا يمكن الوقوف عندها. فقد حلت مدلولات جديدة يمكن أن تكون استعارة البداوة أقرب تعبير مجازي عنها، كما سنرى.

قبل أن ننتقل إلى هذا التعبير المجازي، لاستخراج ما في بطنه من مضامين، سنقف على الدوال الحقيقة ( إن كانت هناك دوال حقيقية ) التي تعبر عن مفهوم القارئ الحديث.

المفهوم الحديث للقارئ يقابل، أو يتضاد مع مفهوم الاستنساخ الذي كان يمثل قوام القارئ التقليدي، فهذا القارئ الذي كان يتطابق مع نصه المقروء تطابقاً يجعل منه نسخة من نصه، لم يعد حاضراً بهذا المعنى في المفهوم الحديث، ذلك لأنه غدا شيئاً مختلفاً عن نصه، و بقدر ما يعمق من اختلافه، يعمق من صفة القراءة لديه و كأن القراءة وصف متدرج، يرتقي القارئ فيها درجة كلما حقق اختلافه عن النص المقروء.

وانفصال نص القارئ عن نص المؤلف المكتوب على الورق ، الذي يســــميه ( بارت) الأثر أعطى القارئ استقلالية، وحرية في تشكيل نصه، ومن ثَمَّ، أخذ القارئ تسميات متنوعة، تحيل على تصورات متعددة. فهناك إضافة إلى القارئ الضمني الموجود في ذهن المؤلف، كما هو موجود في ذهني الآن نوع من القارئ، يدفعوني لأن أكتب نصي وفق شروط تداولية معينة، هناك القارئ المثالي عند (ريفاتير )، والقارئ النموذج عند ( امبرتو ايكو ). وهذان النوعان هما اللذان يعملان على تحرير نصي من قيودي؛ لينمو، و يرتحل مع ما هما ذاهبان إليه.

وهذا لا يعني أن القارئ الضمني لا يمكن أن يكون قارئاً نموذجاً أو مثالاً، فالتسمية هنا لا تحيل على شخصية خارجية بقدر ما تحيل مفهوم متصور، يمكن أن يتجسد في الشخصية الواحدة بأكثر من معنى، ومع تجلي كل معنى تأخذ الشخصية تسمية خاصة.

( للتوسع في مفهوم القارئ النموذج و القارئ المثالي يمكن الرجوع إلى مقالة د.عبد الله الغذامي “القارئ المختلف ” في العدد الخامس من مجلة النص الجديد )

_3_

واختلاف مفهوم القارئ كان على صلة و ثيقة باختلاف مفهوم النص الذي يمثل أرض حرثه ومكمن كنزه. لم يعد النص قطعة مسوَّرة بحدود الورقة، ولم يعد أرضاً مستقلة بتخوم واضحة المعالم، فقد غدا فضاء ممتداً إلى حدود تتجاوز أفق نظر القارئ، وأصبح تكويناً من أمشاج شتى ، تحضر فيه من كل جينة نص بذرة تتفتح فيه ثمرة على غير طعم سابق.

والاكتشافات الجديدة لمكونات هذه الأرض (النص) أمدت القارئ بمعرفة علمية، لم يعد معها يقنع بالقليل، ويقف عند حدود اليسير، راضياً بما هو ظاهر فوق السطح؛ فقد غدا سطح النص أملساً يتزحلق عبره القارئ نحو مناطق غائرة وطبقات دلالية متراكبة فوق بعضها، فكل علامات غدت إشارة تتنقل بالقارئ من منطقة إلى أخرى، لقد أصبح النص ساحة لعب يمارس فيها القارئ مهارات اكتشاف علامات الاستدلال.

وهذا ما استدعى توسيع مفهوم خلفية القارئ المعرفية ورؤيته للعالم؛ فقد غدت هذه الخلفية منظار رؤيته التي يقرأ من خلالها النص، لذا لم يعد القارئ بالنظر إلى هذه الخلفية كماً من معلومات اللغة المخزنة في الموسوعات والمعاجم والقصائد. لقد أصبحت خلفية القارئ نسقاً من المهارات التي تؤهله للعب بـ و مع علامات اللغة. ولا نبالغ حين نقول إن القارئ غدا نطفة لغوية، وبقدر وعيه بحقيقة كينونته هذه يتحقق لديه قدراً أعلى من الكفاءة اللغوية.

القراءة بهذا المفهوم الموسع للنص وللقارئ، تصبح نشاطاً ذهنياً يمارسه جهاز تلقينا بكل حواسه حين يســتحضر (شيئا ما) هذا الشيء يمكن أن يكون نصا لغويا أو لوحة فنية أو فلما سينمائيا أو موقفا سياسيا أو حادثة اجتماعية. وهذا الشيء نسميه علامة وحين نقرأ هذه العلامة فإننا نمارس نشاطاً قرائياً.

والقارئ بهذه المفاهيم الموسعة تغدو تسمية يمكن إطلاقها على الناقد والكاتب والأديب والفيلسوف وكل من يمارس نشاطه الذهني بفاعلية.

_4_

لنتأمل الآن في السمات الدلالية التي تحملها مفردة البدوي؛ لنكتشف علاقتها بالسمات الدلالية لمفردة القارئ.

البدوي كائن لا يعرف الاستقرار، كثير الترحال، يحب اكتشاف المناطق المجهولة، ويعتمد في ذلك على قدرته الفائقة في قراءة علامات الطبيعة الصحراوية، و يضاعف من هذه القدرة بصيرته النافذة، وهو فوق ذلك قادر على التأقلم مع ظروف بيئته المتغيرة؛ فهو كائن صحراوي من جنس بيئته الصحراوية.

كل هذه السمات حاضرة في مفهوم القارئ الحديث؛ فهو كائن لا يعرف الاستقرار عند معنى ثابت للنص؛ لذلك فهو كثير الترحال بين طبقاته الدلالاية وفضائه الممتد بين مستوياته اللغوية التي تتيح له فرصة لاكتشاف العلامات، وقراءتها قراءة اختلافية ، يعتمد فيها على بصيرته اللغوية القادرة على التأقلم مع تغير العلامات، وتغير النصوص، وتغير ظروف إنتاجها، ولا عجب في ذلك فالقارئ كائن لغوي من جنس نصه.

وتزيح هذه الاستعارة البدوية استعارة المصباح والنور والشمعة والضوء من عالم النص، فالنص لا يضيء القارئ بقدر ما القارئ يضيئه، والنص ليس نوراً يهدي القارئ بقدر ما يمكن أن يضله، والنص ليس شمعة تدل القارئ بقدر ما هو علامة دلالية من بين آلاف العلامات التي يقرأها القارئ في طريقه.

بتوسع رقعة النص وتحرر القارئ من سلطة النص الضيق، تم انقاذ مفهوم المؤلف من ضيق سلطته؛ ليغدو قارئاً يبيض بقراءته مُسوَّدات نصوص من سبقوه من القراء/ الكتاب السابقين.

و المؤلف بوصف كتابته قراءة لنصوص سابقة، أصبح هو أيضاً نصاً مقروءاً، يحمله القارئ معه في حله وترحاله، يعبر به ساحة الثقافات المختلفة التي تتولى تبيض مسوّدات نصوصه حسب أفق قراءتها.

إن رحلة القارئ كما تشي بها استعارة البدوي، لم تترك مكوناً و احداً من مكونات عملية القراءة ساكناً؛ فجميعها يتحرك في فلك ترحالها الدائم.

وبهذا المعنى يمكن أن نفهم وصف المفكرين للفيلسوف الفرنسي ( جيل دولوز ) بأنه بدوي مترحل في براري الفكر.

 وبهذا المعنى يمكن أن نفهم، لماذا لا تستنفد قراءتنا لإنتاجات المفكرين ولإفرازات الأحداث، ووقائع التاريخ، وبدائع الشعراء والقصاصين.

_5_

وستعمق أجهزة الاتصال الحديثة من عمق ذهابات هذا البدوي، وستفتح رحلته القرائية على واحات ثقافات جديدة على عالمه، كما ستضاعف صدمات اكتشافاته لما لم يكن قد ألفه ، بفتح أفقه على مزيد ساحات المغايرة والاختلاف.

وستمنح هذه الأجهزة استقراره الجسدي في المكان تذاكر مفتوحة تسيح بفكره في ذاكرة الصحراء الإنسانية التي لا تعرف الحدود الحضارية، وكأن الحضارة ببنيتها المعمارية القائمة على الحدود المادية، والهويات المنفصلة لن تكف عن إنتاج بداوتها المعنوية المتمثلة في إلغاء الحدود وانفتاح الساحات للسياحة الثقافية من دون حواجز تحضرية.

جريدة الأيام

1999/7/29