إنه قلب ناصر البحرين

لم يتوقف قلب ناصر، بل أوقفه على لهيب حب البحرين. اختطفت البحرين قلبه المتعب، تضخم بها أكثر مما يتسع له حجمه، تعذب بهذا الحب، فصار ينبض أسرع مما تحتمله طاقته البشرية.

هل كان المُعذِب، في سجون البحرين، يُدرك ذلك؟ كان يعرف بغريزته المتوحشة أن العذاب يتضاعف في قلب ناصر آلاف المرات، لكنه يصر على أن يُحول عذوبة حبه للبحرين عذابا، لعله ينتزع منه كراهية لهذه الجزيزة التي أبتلي بها حتى وقع في حب إحدى بناتها، وهو يعيش أحلام ثورتها في 2011.

حين التقيته للمرة الأولى في بيروت مارس/آذار 2012 لم يحدثني عن قلبه المجهد، حدثني عن قلبه العاشق، كان يتدفق بحيوية المحب المملوء باليقين، وجدت فيه نقاوة الحب وخلاصته وأنا في السنة الأولى من تجربة الهجرة التي لم أُسمها حينها هجرة. حدثني عن الأصدقاء الذين بيننا بإشارات تغني عن الشرح، كان في رحلته إلى كندا، ولست أدري إن كان يملك قلبه لحظتها هذه الطاقة الجبارة ليودع في مصيري حينها شيئٍا مِن القَدَر الكندي، لألحق به بعد أربع سنوات.

بعد سنتين يردني اتصال من الأمم المتحدة “صار ملفك في السفارة الكندية سيردك اتصال منها” هجست حينها أن ثمة شيئًا غريبا في هذا القدر الكندي، اليوم أستطيع تفسيره بلقاء القلب ذلك، قلب ناصر الذي أحببته منذ أول طلة، أرسلت لناصر مباشرة أسأله عن كندا، لم يكن يرد علي سريعا. بعدها تأتي رسالته محملة باعتذار حميم أعذرني، فالأدوية التي أتناولها تخدرني وتجعلني غائبا لفترة طويلة، كندا بلد جميل و(أتاوا) مدينة جميلة، وأنا أدرس فيها حقوق إنسان وقانون.

لست بحاجة إلى دراسة حقوق الإنسان يا ناصر، لقد أعطاك شعب البحرين شهادة عظيمة في جدارة استحقاقك لإجازة حقوق الإنسان، لقد امتحن قلبك ووجده يحفظ هذه الحقوق جيدا، ويُؤمِن بها، ويُؤمّن بحياته عليها، ويموت تعذيبا بها، ويستشهد دونها.

قلبك مختوم بالحق الإنساني، يا ناصر، ويبدو أنك لم تقبل من هذا الشعب  أن يوقع شهادته فيك إلا حيث قلبك.

قلبك العنيد، كيف نحفظ أرثه الصعب؟ لا يليق به مكانا غير قلب نصب دوار اللؤلؤة، هناك في أعلى النصب الذي عشقته ووقفت تتطلع فيه طويلا، وتحلم معنا حوله، ونحن نزفه للتاريخ العظيم حيث يليق به ويليق بك.

قلت لزوجته  قبل أربعين ساعة من الرحيل إلى الأبدية البيضاء، نحن عاجزون أن نفعل شيئا، قولي لنا أن نفعل شيئا يريحنا، قالت بصوت مخنوق: الطبيب أعطى موعد النهاية وناصر ماض إليها، ولا أريد منكم غير الدعاء.

 

عشرة أسباب تُخرج الوهابية من أهل السنة والجماعة

لقد أخرج مؤتمر (من هم أهل السنة والجماعة؟)، والذي عقد في العاصمة الشيشانية غروزني، الوهابية من قائمة أهل السنة والجماعة. ومنذ صدور بيان المؤتمر، والجهاز الإعلامي للمملكة العربية السعودية يشعر أنه، ولأول مرّة، يجرع من ذات كأس السم القاتل، الذي يتفنن في صناعته وإذاقته لغيره، وهو سم الإقصاء وعدم الاعتراف، والتكفير.

أظنّ أن على «هيئة كبار العلماء في السعودية» أن تتأمل في الأسباب التي تُخرج الوهابية من أهل السُنّة والجماعة، لتعيد إنتاج نسخة أكثر اعتدالاً منها ووسطية. فالأسباب التي بحاجة إلى مراجعة ونقد وتصحيح هي ذاتها الأسباب العشرة التي حددها محمد بن عبدالوهاب للتكفير.

وقد تولّى شرح هذه النواقض وتوضيح مدى تطبيقها، عضو «اللجنة الدائمة للإفتاء» وعضو «هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية»، الشيخ صالح الفوزان، في كتابه «دروس في شرح نواقض الإسلام». ولقد عالجتها في فصل خاص في كتابي، والذي سيصدر قريباً، تحت عنوان «إله التوحش الوهابي»، وبيّنت التوظيف السياسي لها في تأسيس الدولة السعودية الأولى.

يعرّف الفوزان النواقض على هذا النحو: «… ونواقض الإسلام هي مفسداته ومبطلاته، فمن أسلم وشهد أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله، فقد ينقض إسلامه وتوحيده بناقض من هذه النواقض، وهو يدري أو لا يدري، فيكون مرتداً وفي عداد الكافرين».

النواقض إذاً، هي التي تبطل إسلامك، فتخرجك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر، أو هي التي تنقض شهادة توحيدك. ومعلوم أن التوحيد يمثل موضوعاً مركزيّاً في خطاب محمد بن عبد الوهاب، فكل شيء ينقض مفهومه الخاص للتوحيد يعتبر ناقضاً للإسلام.

هناك عشرة نواقض (أسباب) تعمل كمقدمات عامة ومطاطة لإنتاج التكفير، ينطبق فيها على المسلم حكم الكفر والارتداد والخروج من الإسلام. وقد استخدمت هذه المقدمات بشكل متعسّف طوال تاريخها، ولم تتعرض لأي نقد داخلي، بل اعتبرت محددات وتخوم وأصول تفصلها وتميزها عن بقية المسلمين من أهل السنة والجماعة، الذين اختلفوا في الفروع (الفقه) ولم يختلفوا في الأصول (العقائد).

إن هذا الاعتساف في إنتاج الكفر، من مقدمات عامة، لن تجده إلا عند الوهابية، وهو اعتساف وصل بها إلى حد تكفير من هم أهل السنة والجماعة، كالأشاعرة والصوفية، وعلماء كثر من الحنابلة، بلغ عددهم ستاً وعشرين، بين عالم، وفقيه، وقاض في نجد، في عصر الدولة السعودية الأولى.

سأذكر تطبيقات اعتبرت في الخطاب الوهابي حالات للخروج من الإسلام، ولم يعهدها أهل السنة والجماعة كذلك، أو لم يبالغوا في اعتساف تطبيق الكفر عليها إلا في حالات شاذة لأسباب سياسية.

النواقض هي التي تبطل إسلامك، فتخرجك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر

الناقض الأول: زيارة القبور والتبرك بها، والدعاء عندها. وقد أعطى هذا الناقض حجة شرعية لغزو كربلاء في 1802، وقد روت لنا البعثة الفرنسية في تقاريرها فظائع هذا الغزو، الذي لا يقرّه أحد من أهل السنة والجماعة، في حين ما زالت الوهابية تباركه، وتعتبره من أعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الناقض الثاني: من يؤمن بشفاعة الأولياء، في حين يذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الملائكة والنبيين والصالحين يشفعون يوم القيامة.

الناقض الثالث: من يصحح مذهب المشركين، ويقول إن مذهبهم صحيح يكون كافراً، ويدخل ضمن ذلك من يدعو إلى التقارب بين الأديان أو الحوار بينها. فالمسلم يفترض أن يُبطل هذه الأديان ويحاججهم وينقضهم، بدل أن يتفهمهم ويتقارب معهم. ولا أحد من المسلمين يعتبر أن دعوة الحوار والتقارب مع المذاهب والأديان دعوة دونها التكفير والارتداد.

الناقض الرابع: الإعجاب بالتشريعات الدنيوية والقوانين الوضعية، وتفضيلها. بمعنى أنك بمجرد أن تكون قد دعيت للدولة المدنية فأنت فضلت غير الهدى النبوي، ورفضت التشريع الإلهي، فأنت كافر.

الناقض الخامس: أن تبغض أو تكره أحكاماً شرعية أو معاملات شرعية، مثل إعفاء اللحية أو الأحكام المتعلقة بالمرأة والحجاب، أو أن تتبنى مثلاً آراء تتعلق بأحكام وضعية بالمرأة، أو تشريعات دولية تخالف الشريعة الإسلامية. هذه كلها تدخل في هذا الناقض.

الناقض السادس: أن يُشم منك أنك تستهزئ بالنبي أو بشيء من سنته، أو من صحابته، أو من أحكامه. فكل ذلك يُعدّ ناقضاً من نواقض الإسلام، ويخرجك من الإسلام إلى الكفر. والتعسّف في فهم الاستهزاء باب واسع في الأدبيات الوهابية، ولا تجد له مثيلاً عند أهل السنة والجماعة إلا ما شذ.

الناقض السابع: أعمال السيرك واللهو والألعاب السحرية، لأنها من السحر والصرف.

الناقض الثامن: إظهار المودة للكفار، أو التشبه بهم، أو اتباعهم، أو التقرب منهم أو الاحتفال بمناسباتهم الدينية كأعياد الميلاد.

الناقض التاسع: من يعتقد أن الشريعة تاريخية، والأحكام مرتبطة بزمنها، ويمكن التخلي عنها في الحاضر.

الناقض العاشر: الانصراف عن تعلّم الدين والتفقه فيه. وهذا ينطبق على الرافضة، والصوفية، والقبورية، وغيرهم. بحسب محمد بن عبد الوهاب، لا فرق بين جميع هذه النواقض، بين الهازل والجاد والخائف. فجميعها أبواب جهنم في الآخر بقوة الله وقدرته وفي الدنيا، بقوة السلطة الوهابية وقدرة الدولة التي سجنت عشرات الكتّاب والسياسيين والمفكرين وأصحاب الرأي بحجج هذه النواقض. فيجعل كل ناقض من هذه النواقض في تطبيقاته العملية الوهابية فرقة شاذة عن الخط العام لأهل السنة والجماعة. ولتكون ضمن هذا الخط، فإنها لا تحتاج إلى حملة علاقات عامة، ولا إلى حملات حزم صحافية لتكون من أهل السنة والجماعة، بل تحتاج إلى مراجعة ذاتها ودعوتها (دعوة محمد بن عبد الوهاب) التي تحالفت معها على قاعدة «الدم بالدم والهدم بالهدم»، لتجعل القاعدة الفكر بالفكر، لتتمكن من إنتاج نسخة منقحة من الدم والعنف الذي هدمت به علاقتها مع أهل السنة والجماعة، وأرادت أن تنصب نفسها ناطقاً متفرداً باسمهم، يأتمرون بأمرها ويستجيبون لغضبها.

الرابط الأصلي

أسرار البنت السابعة في ديوان بيت بفيء الياسمين

 

أسرار البنت السابعة في ديوان بيت بفيء الياسمين

“وأنا السابعة بين الذكور والإناث
أنا سر العائلة
وواجهة المعنى”

في ديوانها الجديد تصوغ الشاعرة البحرينية فضيلة الموسوي حكاية بيت عائلتها صياغة شعرية، تتخذ من الأب رجل الدين والمؤلف الغزير الإنتاج السيد محمد صالح الموسوي (1918- 2007) محوراً للديوان.

السيد شخصية متفردة ومعروفة، بالشغف بالمعرفة والتأليف والكتابة، في بيته المشهور بالياسمين هو رب أربع أسر لأربعة بيوت مستقلة، له من زوجاته الأربع 34 ولدا غالبيتهم عرفوا بالإبداع والتميز والتعدد في التوجهات الفكرية، وهم بالمناصفة 17 ولدا، 17 بنتا. في كل بيت مكتبة .. امتهن الخطابة المنبرية الحسينية وتأليف الكتب الدينية بالإضافة إلى الشعر.

هي الشاعرة فضيلة الموسوي، واجهة معنى بيت الموسوي، تسرد في هذا الديوان سر العائلة دون أن تكشفه، فاللغة الشعرية المكثفة في الديوان تشير إلى حكايا مفصلة يمكنك أن تسمعها في سردوات شفاهية مطولة، يجيد أبناء هذا البيت حكايتها بطاقة حب تجذب لها قلوب الأصدقاء، استحضرت كثير من هذه القصص وأنا أفك شفرات نص فضيلة الشعري، اضطررت بعض الأحيان لأطلب منها تفاصيل عن بعض الحكايات، كنت أستشعر الحكايات فأستعيدها من ذاكرتي على لسان فضيلة أو عصمت أو ابتسام وغالبا على لسان حسين المحروس المؤتمن على سيرة سيد بيت الياسمين، كانت لقاءات المحروس بالسيد مشحونة بالدهشة التي تدفعه لحكايتها قبل كتابتها أو أثناء كتابتها. الدخول إلى الديوان عبر هذه الذاكرة لها متعة الاكتشاف الخاص، بعض المقاطع كنت أقرأها على بعض الأصدقاء والصديقات وبنوع من التباهي كنت أسألهم المعنى والحكاية التي يشير إليها النص، وأشعر بالانتصار وأنا أسرد عليهم الحكايا التي تفسر إشارات النص.

السابعة بين الذكور والإناث، ليست الياسمينة الوحيدة في هذا البيت التي تجيد صياغة المعنى في شكل إبداعي، فأغلب من تربى في بيوتات الياسمين من عائلة السيد، لديه واجهة صياغة إبداعية، لتصدير حكاية هذا البيت، لكن تبقى الصياغة الشعرية الأكثر قدرة على كتمان السر، تشير إليه في لغة مكثفة ولا تكشفه، صياغة قادرة على أن تصغي إلى الياسمينة التي كانت علامة من علامات السيد في كل بيت يفتحه، وبلغ ولعه برائحته أنه كان يفتح شقاً من الياسمين ليدخل غرفته الخاصة، حتى صار جزءاً من الحكاية أو شاهداً عليها، وحضوره في عنوان الديوان يعني أن الديوان لا يمكنه أن يكون معبراً عن روح هذا البيت بدون حضور الياسمين في العتبة الأولى للديوان (العنوان). كما أن هذا الحضور معبر عن بياض قلب السيد ووجهه المقرونين بالشال الأخضر الذي يدل على علامة السيادة.

في العائلة من أسرار السبعة ما يجعل هذه السيدة السابعة جديرة أن تكون مؤتمنة على صياغة سر العائلة في لغة شعرية، ففي العائلة سبع بنات وسبعة أولاد، من أمها (باريس) التي طرحت سبع مرات، ومات لجدتها من أمها سبعة أطفال.وقد جاء الديوان مفتوناً بسر السبعة، فعلامات السيد فيه سبع، وإشارات السيد فيه سبع.

بحضور أسرار السبعة فيها وكأنها مدفوعة بمهمة غيبية، تخاطب أباها السيد محمد صالح الموسوي، قرين الكتب:

“سأكتبك كما كنت
مختالاً بمؤاخاة الكتاب”

إنها اللحظة الأكثر بهاء وإثارة وإدهاشاً في عين البنت السابعة، تجد في هذه المؤاخاة واجهة معنى أبيها وبيته ووجاهته، وتجد مهمتها في حفظ أمانة سر العائلة، تكمن في كثافة هذه اللحظة، التي تختصر تسميات السيد وإشاراته وعلاماته.

“كلٌ مآله الفناء إلا الأسماء”

حاضرة بقوة أسماء السيد في الديوان، بعض عناوين القصائد من تسمياته، لديه قدرة على تخليق الأسماء، يُنشئ من خلالها المعنى الذي يريد أن يسكن فيه، يمنح لزوجاته أسماء المدن العالمية (باريس، برلين، بنارس، وردة الحب) ويُعطي لغرف بيته سيماء الجنة (دار النعيم، دار النسيم، دار السلام…) ويزرع مع كل مولود نخلة يقرنها باسمه.

كما كان السيد حاضراً بقوة في بيت الياسمين، فإنه حاضر بقوة في ديوان فيء الياسمين، حتى خضرة الغلاف، تحيل إلى شاله الأخضر الذي يميز سيادته ويميز ياسمينه. قصيدة (علامات السيد) متدفقة بصور لباسه الخاص، القميص المزخرف بالحبر المتدفق مع امتداد المعنى، والجبة التي ليس في صورتها سواه، والعمامة التي تعيد ترتيب طياتها كلما تجدد مجد الأحزان (عاشوراء) وكوفيه تكمل وقار العمامة، وعباءة مشحونة بوجد الصوفي، ونعل طوى به مسافات الأسفار ومسارات الطرق.

يحضر السيد عبر أسمائه وعلاماته وكذلك عبر إشاراته، في قصيدة (إشارات السيد) تحضر محبرته (باركر) مضمخة بشهوة الكتابة وهي تدفع بالقلم ليدلق القصيدة على ثوبه، وتحضر نشافة الحبر والختم والثقالة والحقيبة السوداء والسكين التي يفصل بها أردية الكتب.

مأخوذة القصيدة بعمامة الأب، تلتف حول سيرته في الديوان كما تلتف طيات العمامة حول هامته “اثنا عشر ذراعا من قُماش الحضرة.. تلتف حول الهامة” لهيبتها وجلالها، يتسابق النسوة لالتقاط قطرات الماء منها حين تُغسل وتنشر في حديقة البيت، يسابقن الشمس لاقتناص الدواء والبركة منها:

“فيما مسيلها قطرات دواء
تلتقطها النساء سراعا
قبل مباغتة الشمس”

حتى (الكفن) منذور في السيرة والديوان لسر غيبي، سيعزز سر (الكفن) من المهمة الشعرية للبنت السابعة (أنا سر العائلة) سيمنحها شرف ختم السيرة، سيأتي المنام من طرفها، يطلب السيد من زوجها إحضار كفنه من مدينة مشهد المقدسة، سيلح في الطلب، وستعطي هي الإذن بإحضار الكفن، وستكون شاهدة على الحلم، وكاتبة لسره:

“كفن مكفول في مشهد
وصية رؤى المنام
يحمله بساط الريح
أمانة تصل فور إعلان الولادة”

الموت ولادة أخرى، وقد عرف فيها السيد سر نفسه على حقيقتها، كما يعرف كل ميت، فقدس الله سره بهذه المعرفة.
ما أعظم أن يقدس الله سرك يا فيء الياسمين، ببنتك السابعة حاملة واجهتك.

الرابط الأصلي

محمد.. سرد الشق

[et_pb_section fb_built=”1″ _builder_version=”3.0.47″][et_pb_row _builder_version=”3.0.47″ background_size=”initial” background_position=”top_left” background_repeat=”repeat”][et_pb_column type=”4_4″ _builder_version=”3.0.47″ parallax=”off” parallax_method=”on”][et_pb_text _builder_version=”3.0.47″ background_size=”initial” background_position=”top_left” background_repeat=”repeat”]

راوية (محمد) للكاتب اليمني العصي على الترويض والتصنيف جمال جبران، مفرطة في حساسيتها الإنسانية، سرد يستنطق لحظات لا كلمات لها، وحيوات غدت في الغياب، يسرد هنا حكاية عائلته المنكوبة برحيل ابنها (محمد) الذي تحول إلى (زهير) شديد السطوح في يوميات العائلة والرواي بعد موته، حتى صار يعشق الاسم، ويخترع له مناسبات ويبحث له عن صلات ويُنفّس من خلاله عن حالات.

محمد ليس شخصية فلسفية ولا نضالية ولا هو بطل قومي، وليس لديه تاريخ استثنائي، هو (أخ) لديه حس إنساني وشعور بالمسؤولية العائلية والعلاقات الاجتماعية، كيف يمكنك أن تصنع عبر السرد من هذ (الأخ) شخصية روائية تحبها وتحبك سيرتك من خلالها، وتتابع تفاصيلها الإنسانية، وتبكي لفقدها وتتمنى أن تتوافر في حياتك تجربة هذه الأخوة. ذلك هو ما فعله جمال بسرد شقه (أخيه) وتلك هي شعرية السرد، أي ما يجعل السرد عملاً أدبيا جديراً بالقراءة.

يخبرنا الراوي الذي هو نفسه الكاتب، خلال سرده اضطرابه وتردده في نشر الرواية، وهو يفترض أن أحدهم في بيروت مثلا سيقول: “وما شأني أنا بحكاية شاب يمني من أصول إفريقية كُتب عليه نصيب السير على شريط أيام صعبة”[1] .

يستدعي هذا الشريط أن نحكي قصته، مادام هناك شريط وأيام وصعوبة، فالحكاية تستحق أن تسرد، وهنا نستحضر قول محمد لأخيه جمال “سمعت عن طريق صعب تسير عليه”[2]، هو طريق الصحافة في عصر علي عبدالله صالح، إنه (طريق الأذى) كما سمّاه صحفي التحقيقات الاستقصائية الشهير (يسري فودة)

لم يكن الراوي يسرد طريقه، ما كان (طريق الأذى) موضوع سيرة هذا الكتاب (محمد) بل كانت سيرة محمد أخيه الكبير الذي فقده شاباً، لكن سيرة هذا الطريق تظل حاضرة بقوة في السرد، وهو يشكل وضعيته اتي تجعله في حالة سفر دائم عن هذه العائلة المكونة من أب يمني تسعيني فقد بصره (جبران) وأم حبشية (ماما زمزم) وأخوة وأخوات: علي،  منصور، نور، محمد، جمال، نجاة، فيروز.

ما كان لهذه السيرة أن تكتب لو سلك جمال طريقا آخر، وما كان لهذه الشاعرية الفائقة الحساسية أن تظهر في السرد لولا تجربة هذا الطريق التي جعلت من الكتابة مهمة إنسانية، يحمل السالك فيها مصيره على كف موت ينتظره. لقد أعطت الكتابة ل(جمال) حاسة سادسة مكنته من جس حياة العائلة وفتح دواخلها وسرد مصائرها.

لقد جعلتني حساسية هذا السرد أحب (ماما زمزم) وبكيت وأنا أسمع صوتها المتهجد وهي تخاطب ابنها جمال قبل يومين من حفل تخرجه في الجامعة: ألن تخجل مني.. أنا السيدة الحبشية بزيها التقليدي الغريب والتي أتت به لترى احتفال تخرج ابنها الأصغر.

ويجعلك هذا السرد بحساسيته الفائقة تشعر بالوجع الإنساني نفسه يسيل فيك، الوجع الذي يعبر عنه سرد الابن المتخرج: “ما أوجعني في عبارتها السائلة هو اكتشافي المتأخر لكل ذلك الحجم من الغربة التي تكتمها بداخلها كل تلك السنوات”[3].

لقد صاغت الكتابة شخصية (جمال) صياغة إشكالية، كان يشعر بالاختناق في التجمعات الاجتماعية، ويكاد يموت وسطها، وكاد يفقد علاقته بأخيه محمد بسبب ذلك، فقد كان يجد حرجاً في حضور مراسم خطبة أخيه في بيت عم أخيه، وهذه في العرف تعد إهانة لأهل  بيت العروس، وتعرض بسبب الطريق الصعب (الكتابة) إلى مضايقات سياسية وكاد تحديه لماء البحر(الذي هدد به الرئيس معارضيه)  يغرقه في ماء شاحنة داست على جسده.

ظل بسبب طريق الكتابة، في حالة سفر دائمة، بعيداً عن جو العائلة القريب نفسيا منه وبعيدا عن الأحداث  التي تمر بها، كأنه أوكل لأخيه (محمد) القيام بالمهمات التي لم يكن يجيدها، كان محمد الشقيق بالمعنى البويولوجي، وبمعنى النظير والمثيل الذي يحمل شق الاختلاف، والشق يحن لشقه ويفتقده، لقد فقد أخاه الذي كان نقيضه في كل شيء،لم يركب محمد طائرة في حياته سوى مرتين، لم يعرف غير امرأة واحدة، لم يعش قصص حب وغرام، لم يكن يسمح له خجله أن يتحدث عن الحب،  شديد التعلق والحضور في الجو الاجتماعي، صاحب حضور عائلي واجتماعي وتربوي ويروق له أن يتحمل مسؤولية عالية، لم يكن كل ذلك شقيقه جمال.

حين بدأ الراوي روايته بسؤاله الوجودي “أيمكن للكتابة أن تعيد قتيلا” كان يعبر عن حنينه إلى هذا المركب من الصفات المناظرة له في شقيقه، والكتابة يمكنها أن تعيد الموتى بهذا المعنى، فهي تعيد تمثيل ما نفتقده فيهم وتجعله حاضرا في تجربتنا، أو لنقل لا تعيد الكتابة الموتى، ولا تعيد القتلى، لكنها تنقل حياتهم، تنقلها إلى إمكان الفهم والاستعادة وتجعل من تجاربهم مناظير لحيوات الآخرين. وأظن كان الراوي بحاجة إلى هذه الاستعادة ليعيد لروحه شيئا من توازنها النفسي الذي فقده برحيل أخيه “إنه يهزمني دائما”[4].

هكذا إذا، عاد (جمال) للعائلة من سفره الدائم وطريقه الصعب برواية تسكن فيها العائلة، كان يحتاج إلى شقشقة الكتابة ليبني لهم بيتاً يُسكنهم فيه.

هوامش

[1] رواية (محمد)، ص78. كان هذا السؤال نفسه الذي طرحته على نفسي وأنا أكتب سيرة جدتي، حتى إني لم أطرح كتابها في أي مكتبها، اكتفيت بتوزيعه ضمن العائلة والأصدقاء وتفاجأت بحجم التفاعل الذي أحدثه، وبالطلب الملح عليه، وقد قرأ الكثيرون عبره سيرة جداتهم وحكوا من خلالها قصصهم.

[2] رواية (محمد)، ص92.

[3] رواية (محمد)، ص36.

[4] رواية (محمد)، ص36.

[/et_pb_text][/et_pb_column][/et_pb_row][/et_pb_section]

الشيخ النمر في مرافعة الكرامة، لا سمع ولا طاعة لمن يسلب حريتي

مرافعة

تقول لائحة الدعوى التي أعدتها وزارة الداخلية السعودية ضد الشيخ النمر”فقد ثبت لدينا إدانة المدعى عليه نمر بن باقر ال نمر بإعلانه عدم السمع والطاعة لولي أمر المسلمين في هذه البلاد”

لقد كسر خطاب الشيخ النمر فكرة طاعة ولي الأمر، منذ بدأ عصيانه المدني السلمي، وفي مرافعته واتته الفرصة ليكسر حجج الطاعة وتأصيلاتها الشرعية الهشة التي تخفي تحتها تسلطا وخضوعا وإذلالا لشخص الحاكم المستبد، منطق النمر”لا سمع ولا طاعة لمن يسلب حريتي ويسلب أمني” كما سجله المدعي، وكما سجلته مرافعته حين سئل عن طاعة ولي الأمر “جوابي بعدم التزامي وعدم طاعتي لأي شيء يخالف عقيدتي”. وعقيدته تقول “هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجور طابت وأرحام طهرت أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”.

الطاعة التي تسلبك كرامتك دونها مصرعك، هكذا وضع النمر معادلة الكرامة والطاعة، فكان مصرعه على مذبح كرامته.

لقد أطاع الشيخ (كرامته) وهي النص الذي سيرتفع في التاريخ، وعن صحيفة (مرآة البحرين) ومركز (كيتوس) الثقافي صدر في بيروت، قبل أيام نص كتاب مرافعة الشيخ النمر في أكثر من مائتين صفحة تحت عنوان (مرافعة كرامة). يتضمن الكتاب نص المرافعة التاريخية التي أراد الشيخ النمر أن يكتبها بنفسه، ليس أملاً في العفو أو رجاء في تخفيف العقوبة، بل ليكتب إقراراً ينجز به حدثاً تاريخيا، يليق بدمه، في حدود الساعات القليلة التي مُكن فيها من القلم والورقة كتب هذه المرافعة التي صارت اليوم كتاب شهادته ودستورها، ويشير القاضي في جلسة 23.12.2013 إلى عدد الساعات التي مُكن فيها من القلم والورقة: قد مكن من لقاء محاميه وفرّغ لكتابة جوابه ثلاث مرات وزود بقلم وأوراق كانت منها اثنتان في المحكمة وواحدة في السجن والتي كانت في المحكمة كانت الأولى منها أكثر من ثلاث ساعات والثانية قرابة الساعتين.

لقد كسر فكرة الطاعة بالكرامة، والادعاء على الشيخ النمر قائم في أساسه ومقتضاه على: طاعة ولي الأمر، والبيعة له، وتجريم الخروج عليه، ومرافعة النمر قائمة على تفكيك أركان خطاب هذه الدعوى. يذكر المدعي العام في دعواه على الشيخ “نقضه البيعة المنعقدة له في ذمته” فيرد النمر “هذه الدعوة سالبة بانتفاء موضوعها؛ لأنني لم أبايع من الأصل ولم تتحقق مني بيعة حتى يقال إنني نقضت البيعة”.

وبشموخ لم يخذله طوال مرافعته يقول الشيخ النمر، إمعاناً في كسر الطاعة وإعلاء الكرامة: لا أعتقد أن حاكم هذه البلاد ولي أمر المسلمين فيها وأنا لم أعلن ذلك على الملأ العام. نعم هو والٍ وليس ولي الأمر وليس له الولاية عليَ، وهناك فرق بين الوالي والولي.

الكرامة تعني الإنسان غاية في ذاته، وليس وسيلة لولي الأمر كما ثبّتت ذلك الوهابية حديثاً مستثمرة تراثها السلفي.

الوهابية لم تكن مذهبا أو دعوة مكتملة ثم تبنتها دولة بل هي تمّ تفصيلها على مقاس سلطة توسع آل سعود، واكتملت بهم، صحيح أن البذرة الأولى كانت خارج حقل سيف محمد بن سعود، لكن النبتة والشجرة كانت تحت ظلال سيفه، وفكرة الطاعة جرى تطبيعها بسيف الفتح الذي سلطه آل سعود على القبائل لتخضع إلى حكمهم وبالرسائل التي كان يوجهها محمد بن عبدالوهاب للقبائل وفقهائها وقضاتها ويدعوهم فيها للطاعة والامتثال والإسلام، من هنا فالوهابية ديانة حرب،  ضد كل من لا يتماثل معها أي ضد من لا يخضع لها  ويطيعها.

في الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة الطاعة أولاً والكرامة مرهونة بالطاعة أو لنقل مسلوبة بالطاعة، وهذا ما كان يرمي إليه الشيخ النمر حين قال في مرافعته “الدولة ليست أهم من كرامتي” أي أن الدولة السعودية تجعل طاعة ولي الأمر سحقاً للكرامة، وأنا لن أقبل أن تسحق كرامتي فهي أهم من هذه الدولة التي لا تعترف بمواطنيها ولا بكرامتهم، هي دولة بلا مبدأ أخلاقي لأنها تتعامل مع الإنسان على أنه وسيلة لـ (ولي الأمر) وكرامته تحت اعتبار أوامر ولي الأمر، ليست لدى هذه الدولة فلسفة خارج الطاعة والكرامة في الفلسفة “مبدأ أخلاقيّ يُقرِّر أنّ الإنسان ينبغي أن يعامل على أنّه غاية في ذاته لا وسيلة، وكرامته من حيث هو إنسان فوق كلِّ اعتبار”.

لقد جعل الخطاب الوهابي الدولة في طاعة ولي الأمر، ليس هناك شعب ولا رعية، هناك مطيعون وهناك ولي أمر مفترض الطاعة، حتى صار ولي الأمر طاغوتاً، يُطيعه الدين وليس يطيع الدين وتخدم الفتاوى أمره، ويستخدم لقب (خادم الحرمين) ستاراً يخفي تحته حقيقة أنه المخدوم لا الخادم، لقد فقد الدين وظيفته في أن يكون رادعاً لجبروته، وفقدت الدولة هيبتها في أن تكون نظاماً يخضع له الحاكم، وفقد المواطنون كرامتهم لأنهم غدوا في طاعة ولي الأمر لا في طاعة الدولة.

يوظف الشيخ معرفته التاريخية بسيرة قيام الدولة السعودية الأولى في قلب فكرة الخروج على ولي الأمر، ويذكر هيئة القضاء والمدعي العام، إن الملك عبد العزيز لو لم يخرج على الدولة العثمانية لما تأسست الدولة السعودية هذه، وما كان لها وجود على الخارطة الجغرافية أو الخارطة السياسية. فهل كان خروج الملك عبد العزيز على الدولة العثمانية خروجاً مشروعاً؟

في مقابل احتفاء آل سعود بسيوفهم التي خرجوا بها على الخلافة العثمانية وتشييد المتاحف لها وتدبيج قصائد الفخر بها، يقول الشيخ: فإن هيئة التحقيق والادعاء العام لم تأتِ بقرينة واحدة ولو ركيكة فضلاً عن بينة أو دليل تفيد بأني حملت سلاحاً فضلاً عن الخروج المسلح.

**جميع الاستشهادات مقتبسة عن نص مرافعة الشيخ نمر النمر. انظر: الشيخ باقر نمر النمر، مرافعة الكرامة، صحيفة مرآة البحرين، كيتوس للثقافة والنشر، إبريل2016.

الرابط الأصلي

مدونة الباحث د.علي الديري